قصة يوسف عليه السلام مع الرؤيا وكيد إخوانه

عناصر الخطبة

  1. رؤيا يوسف عليه السلام ونهي أبيه عن روايتها
  2. مكيدة إخوته للتخلص منه
  3. يوسف في البئر
  4. يوسف إلى مصر مبيعًا في سوق الرقيق
  5. في بيت العزيز
  6. يوسف في السجن
اقتباس

كان السجن أيضًا ابتلاءً آخر ليوسف -عليه السلام-، فلم يدخله مجرمًا، بل دخله مظلومًا، فدخله مرتاح الضمير، راضي النفس؛ لأن الله -رضي الله عنه- بفتنة إدخاله السجن أنقذه من أمور عظيمة، وقد مكث في السجن دهرًا، يعود المرضى، ويواسي الضعفاء، وينصح الأشقياء، وينشر عليهم مع كل صباح ..

الحمد لله الذي قصّ على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم تسليةً له- أحسن القصص، القائل: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف:3]. 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واحمدوه واشكروه وراقبوه ولا تعصوه.

عباد الله: قصة يوسف قصة طويلة، بل عدة قصص في سورة واحدة، قطبها الأساس يوسف -عليه السلام- في ابتلاءات متعددة، سورة يوسف هي السورة الثانية عشرة في ترتيب المصحف، هي من أولها إلى آخرها تقريبًا تتحدث عما حدث ليوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليه السلام- من ابتلاءات ومحن، آياتها 111 آية.

أول ما ورد في قصته الرؤيا التي رآها وآنست به نفسه وانشرح لها صدره، وقصّها على والده يعقوب -عليه السلام-: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف:4].

فاستبشر يعقوب -عليه السلام- وقال: يا بني: إنها رؤيا صادقة، تظاهر ما توسمته فيك من فضل، وما رجوته لك من خير، إنها بشرى بما يخصك الله به من علم ونعم، ويتم الله -عز وجل- عليك هذه النعم كما أتمها على أبويك إبراهيم وإسحاق من قبل، ولكن لا تقصص رؤياك على إخوتك، فقد عرفت غيرتهم مما أخصك به وأخاك من رعاية، فلو حدثتهم برؤياك لا تأمن أن تشعل حقدهم فيدبروا لك كيدًا، وما أسرع أن يشد الشيطان أزرهم ويقوي الشر في نفوسهم.

كان يوسف إذ ذاك غلامًا يافعًا وضيء الطلعة، مليح الهيئة، فتان المشاهدة، ماتت أمه راحيل وتركته وأخاه بنيامين صغيرين، أشد ما يكونان حاجة إلى عطفها وحبها، ولذلك آثرهما يعقوب بالحب، وخصهما بفضل وحنان، ثم جاءت هذه الرؤيا مذكية لهذا الحب، ولم تخف على إخوته منزلته ومنزلة أخيه عند والدهم يعقوب -عليه السلام- وإن تحوط في الكتمان وتظاهر بحب الجميع، ومع ذلك سرى إليهم داء الحسد، وهاجت الغيرة، وثار الحقد، واجتمعوا يتشاورون في هذا الأمر وهو حب أبيهم ليوسف أكثر منهم، ورأوا أنه مادام يوسف موجودًا فسيظل هو وأخوه أحب إلى قلب أبينا، لذلك البعض منهم رأى قتله أو إبعاده أو دفنه في رمال الصحراء، وعند ذلك ندنو من قلب أبينا، ثم بعد ذلك نستغفر من ذنبنا، وما أخالنا بعد ذلك إلا قومًا صالحين، وقال يهوذا -وكان أشدهم رأيًا وأرجحهم حلمًا-: نحن أبناء يعقوب الرسول، وأحفاد إبراهيم الخليل، ولنا عقل ودين، والقتل لا يقره العقل ويأباه الدين، ويوسف غلام بريء، لم يجن إثمًا، ولم يرتكب جرمًا، لكنكم إذا كنتم مجمعين له إبعادًا فهذا الجب التي ببيت المقدس -بئر بعيدة القعر كثيرة الماء- ملتقى الغادي والرائح، ألقوه فيها يلتقطه بعض السيارة -أي القافلة- الذين يضربون في الأرض، فيذهبوا به إلى حيث شاؤوا، وحينئذ نكون قد نلنا ما نرجوه من إبعاد يوسف وخلصنا من إثم القتل وعاره.

فاستجابوا لهذا الرأي، وبيتوا أمرهم على هذا العزم، ولما أصبح الصباح ذهبوا إلى أبيهم مبيتين المكر، وقالوا: يا أبانا: ما لك لا تأمنا على يوسف وهو أخونا، فهلا أرسلته معنا غدًا إلى خارج البلد، نرعى الغنم ونتعهد الأرض، يلعب هو ويركض ويعود آخر النهار أصفى نفسًا وأصح جسمًا، نحرسه بعيوننا ونفديه بأرواحنا.

فخاف يعقوب أن يقع المكروه وقال: إني لأخشى أن تذهبوا به فيصادف الذئب منكم غفلة، فيأكله، قالوا: كيف يأكله الذئب ونحن عصبة -أي جمع- ليس فينا ضعيف، لئن وقع ما تحذر إنا إذا لخاسرون، عند ذلك قبل يعقوب، فلما أصبح الصباح وصحبهم يوسف وأخذوا طريقهم الجب، وما أن وصلوا إليه حتى تكشفت نياتهم، وقست قلوبهم، وجردوه من قميصه، وألقوه في البئر حيث تلعب به الأقدار، ولم يشفع له عندهم كونه أخوهم ولا بكاؤه ولا توسله ولا توجعه، وحسبوا أنهم بذلك أشفوا غيظ قلوبهم، وأن قلب أبيهم سيخلو لحبهم، ولكنهم دبروا والله غالب على أمره، ورجعوا إلى أبيهم عشاءً يلفقون القول ويكذبون، واصطنعوا البكاء ظنًّا منهم أن هذا سينهض بحجتهم، وجاؤوا على قميصه بدم كذب حسبانًا منهم أنه يكون برهانًا على صدق دعواهم، وقالوا: يا أبانا: لقد وقع ما كنت تحذره، لقد تركنا يوسف عند متاعنا، وذهبنا نتسابق فوجده الذئب وحيدًا فهجم عليه وأكله، وخلّف لنا هذا الحزن الذي يكاد يفتك بصدورنا، وهذا قميصه مضرج بدمه، وما نظنك تؤمن بصدق قولنا ولو كنا صادقين.

ففطن يعقوب لكيدهم وما دبروا، وعلم أن لهذا الغلام شأنًا عند الله هو لابد بالغه، فقال لهم: لقد سولت لكم أنفسكم أمرًا منكرًا، وأملى عليكم الحسد أمرًا، ولكنني سأصبر صبرًا جميلاً حتى ينكشف أمركم، وتظهر عاقبة كيدكم، والله المستعان على ما تصفون.

لقد كانت هذه المحنة الأولى ليوسف، أن ألقاه إخوته في البئر المظلمة امتحانًا من الله له ليكون أقدر احتمالاً على ما يُلقى إليه من مهمات الأمور وعظيماتها.

لقد وجه له إخوته سهم الحسد، فلما ألقي في الجب أخذ ينظر أمامه فلا يجد إلا ماءً راكدًا يرى فيه ظله الحزين، وراعه الظلام وأوحشه ضيق المكان، ثم هو قد جاع واجتمعت عليه الهموم من كل جانب، لكن رحمه الله أقرب، فقد نجاه من هذه البلوى بعد صبر، فجعل له من همه فرجًا ومن ضيقه مخرجًا، وأوحى إليه الله -عز وجل-: إني مظهرك على إخوتك ولكن بعد حين، عند ذلك ذهبت همومه ورجعت إليه نفسه وانتظر يرقب أمر الله.

اقتربت من البئر قافلة، فألقوا دلوهم في البئر ليحصلوا على الماء، فلما رآه يوسف تعلق به، وما راع الرجل إلا غلام متعلق بالحبل، وجهه كأنه فلقه قمر، فصاح: يا بُشرى هذا غلام، فاجتمع القوم وأخذتهم الدهشة، ثم أجمعوا رأيهم على أن يتخذوه غلامًا يبيعونه بمصر.

وفي مصر عرضوه للبيع في سوق الرقيق وهو الحر الأبي والنبي الكريم، وباعوه بثمن قليل خشية أن يفتضح أمرهم، اشتراه عزيز مصر، وهو رئيس شرطة مصر، ووزيرها الأكبر، فتوسم فيه معدنًا كريمًا وعرقًا طيبًا، فقال لامرأته: هذا غلام يخيل إلي من معارفه وهدوء طبعه أنه نبيل الفطرة رفيع الأخلاق كريم المنبت، فأكرمي مأواه ولا تزجريه زجر الخدم، أو تضربيه، فإنني لأرجو إذا اكتمل عوده ونضجت سنه أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا، وانصرف يوسف إلى العمل ببيت العزيز في جد وأمانة، ولقي فيهم أهلاً بدلاً من أهله.

وفي بيت العزيز أحاطت بيوسف فتنة أخرى، ومع ازدياد ثقة العزيز لما رآه فيه من حزم وعقل وأمانة ونزاهة؛ ما جعله يدخله بيته وينزله منزل الأشراف الأحرار، ووضعه من قلبه موضع الأبناء الأبرار، إلا أنه لما ازداد شبابًا أخذت امرأة العزيز يشغلها أمر هذا الغلام، فأخذت تراقبه في كل أموره، وحصلت له فتنة معها ومع نساء أخريات، ولما رأين جماله فُتِنَّ به أيضًا، ولكن الله -عز وجل- كان معه، فحماه من كل سوء كما جاء في الآيات من 23 إلى 24 من سورة يوسف، فلم يعص الله ولم يخن سيده، مع أنه كان في ريعان شبابه، كيف لا وقد ارتضع لبان الحكمة، وترعرع في كنف الرسالة، وأعده الله لشرف النبوة، فقلبه مشغول بربه، ورأى العزيز أن خلاصه من هذه الفتنة أن يدخله السجن حتى حين، واستجابة لدعاء يوسف -عليه السلام-، قال الله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)﴾ [يوسف33 :34] .

وللحديث بقية قي الخطبة الثانية -إن شاء الله-.

نفعنا الله بهدي كتابه وسنة خاتم رسله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

  

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، واصبروا عند الابتلاء والاختبار، ففيه يظهر معدنك أيها الإنسان.

عباد الله: كان السجن أيضًا ابتلاءً آخر ليوسف -عليه السلام-، فلم يدخله مجرمًا، بل دخله مظلومًا، فدخله مرتاح الضمير، راضي النفس؛ لأن الله -رضي الله عنه- بفتنة إدخاله السجن أنقذه من أمور عظيمة، وقد مكث في السجن دهرًا، يعود المرضى، ويواسي الضعفاء، وينصح الأشقياء، وينشر عليهم مع كل صباح فيضًا من علمه حتى أحبه، والمسجونون اطمأنت إليه نفوسهم، ودخل فيمن دخل معه السجن فتيان من حاشية الملك، ساقيه وخازن طعامه، فأصبحا يومًا على رؤيا أهمتهما، فأسرعا يستفتيان يوسف في أمرهما.

قال الساقي: رأيت كأني في بستان كرم معروش -أي له سقف، ويطلق الكرم على العنب- زاهٍ مخضر، وكأن بيدي كأس الملك، أعصر من عناقيده فيها.

وقال الخازن: أما أنا فقد رأيت كأني أحمل سلالاً فيها أصناف الخبز والطعام، وكأن سربًا من الطير يتهاوى إليها ويتخطفها ويذهب بها إلى مكان سحيق. فنبئنا بتأويل رؤيانا لما نراه فيك من فضل المعرفة والتدبير.

وقد كان يوسف قبل أن يلجأ الفتيان، قد أكرمه الله برسالته، وآتاه ما وعده، وأمره أن يضطلع بما اضطلع به أبوه من قبل من الدعوة إلى التوحيد، ومن في السجن أغلبهم فقراء ومظلومون، يستشرفون الإيمان وهم أقرب الناس لفهم الدعوة، وأكثرهم استعدادًا لما يلقى عليهم من هدى ورشاد، وعندما جاءه الفتيان رأى يوسف أن رؤياهما فرصة يمهد فيها للدعوة، فقال: إن ما تعبدونه ما هي إلا أصنام، وسميتموها بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان -أي دليل وبرهان-، وإن أردتم معرفة صدقي وصحة دعوتي فدونكم تأويل رؤيا الفتيين، أما أحدهما فسيخرج من سجنه ويعود إلى سابق عهده، ساقيًا للملك، وأما الآخر فيصلب، وستأكل الطير من رأسه، وقد عرفت هذا عن وحي غيب من الله تعالى، لا بكهانة أو تنجيم، أو ما يشابههما من صناعة وتعليم، ذلك مما علمني ربي، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، ويوسف كان عالمًا بصدق تأويله وبوقوع نبوته، لذلك قال للساقي الذي علم نجاته وتوقع صدور العفو عنه، قال له أن يذكر للملك إذا رجع إلى قصره أن هناك مظلومًا في السجن، ومتهمًا بغير جريرة، يعاني الأسر والأغلال.

وصح تأويل يوسف، ونجا رجل وصُلب آخر، لكن الساقي أنساه الشيطان ذكر يوسف عند الملك، فلبث يوسف في السجن بضع سنين.

وسنكمل في خطبة قادمة -إن شاء الله تعالى-.

وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.