السحر: حقيقته وحكمه ولماذا ينتشر

عناصر الخطبة

  1. معنى السحر
  2. حكم تعلُّمِه والعمل به
  3. جزاء السحرة
  4. أسباب رواجه في بلاد المسلمين
اقتباس

أَمَّا مَكْمَنُ الخطر في السحر فهو في تعليمه، والعمل به، لما في ذلك من الكفر والإشراك بالله من جانب، وإلحاق الأذى والضرر بعباد الله من جانب آخر، قال الله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ..

الحمد لله الذي أنار بنور كتابه دياجير الظلم، ونوّر بأنوار هدايته قلوب العرب والعجم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط علمه بالكائنات، فلا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السموات. 

وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، ما فتئ يحذر الأمة من كل داء يضر بها في الدين والدنيا، ويدعوها إلى الخير والهدى، حتى توفّاه الله، وترك في الأمة نورين يتجدد ضياؤهما، ولا يزال الناس بخير ما استمسكوا بهما، وعنهما قال: "تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض".

اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وعلى إخوانه من الأنبياء، وارض اللهم عن آل بيته المؤمنين، وصحابته الخيّرين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً.

فأما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وارجو اليوم الآخر، ولا يصدنَّكم الشيطان فينسيكم ذكر الله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر:18].

واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة:19].

أيها المسلمون: وبقي من الحديث عن نواقض الإسلام الحديثُ عن السحر، ذلكمُ البلاء المسْتشْري، والحقيقة المرّة.

داءٌ من أدواء الأمم قديماً، عرفته، ولسوء آثاره اتهمت به الأنبياء، وهم منه بُرآء، ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات:52].

وهو مشكلةٌ من مشكلات الزمن حديثاً، وفي عصر التقدم المادي تزداد ظاهرة السّحر والشّعوَذة نفوذاً، وتجري طقوسُه في أكثر شعوب العالم تقدُّماً، وربما أُقيمت له الجمعيات والمعاهد، أو نُظِّمَت له المؤتمرات والنّدوات.

وهنا لا بد من وقفةٍ تُجيب على عدة أسئلة، منها: ما معنى السحر؟ وهل له حقيقة؟ وما حكم تعلُّمِه والعمل به؟ وما جزاء السحرة؟ ولماذا يروج السّحر في بلاد المسلمين؟ وما حكم الذهاب للسّحَرِة والعرّافين؟ وما عقوبةُ الذّاهبين؟ وما هي عوامل الوقاية وطرق الخلاص من السَّحَرة والمُشَعْوِذين؟.

إخوة الإسلام: أما معنى السّحر فيطلَق في لغة العرب على كلّ شيءٍ خَفَيّ سببُه، ولَطُفَ ودقّ؛ ولذلك قالوا (أخفى من السّحر).

أما تعريفه في الشرع فهو كما قال ابن قُدامة: عُقَدٌ ورُقى يتكلّم به، أو يكتبه، أو يعملُ شيئاً يؤثِّر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله، من غير مباشرةٍ له.

وهو أنواعٌ مختلفة، وطرائقُ متباينة، ولذا قال الشنقيطي، رحمه الله: أعلم أنّ السّحر لا يُمكِنُ حدُّه بحَدٍّ جامعٍ مانعٍ، لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشتركٌ بينها يكون جامعاً لها، مانعاً لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حدّهِ اختلافاً متبايناً.

ومن السّحر الصّرفُ والعَطْف، والصرف هو صرف الرجل عما يهوى، كصرفه مثلاً عن محبّة زوجته إلى بغضها، والعطف عملٌ سحريٌّ كالصرف، ولكنّه يعطف الرجلَ عما لا يهواه إلى محبته بطرقٍ شيطانية.

والسحرُ مُحرّمٌ في جميع شرائع الرسل -عليهم السلام-، وهو أحد نواقض الإسلام -كما علمتَ-، حتى قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، يرحمه الله: فمنَ فعله أو رضي به كفَر، والدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر﴾ [البقرة:102].

وقد دلّ القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، وأقوال أهل العلم، على أن للسحرِ حقيقةً، كيف لا؟ والله يقول: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق:4]، ويقول: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر) [البقرة:102].

ويقول عن موسى -عليه السلام-: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69)﴾ [طه:66-69].

وفي الحديث المُتَّفَقِ على صِحتِه: عن عائشة -رضي الله عنها-، قال: "سَحَرَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ من بني زُرَيق يُقالُ له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُخيَّلُ إليه أنَّه يفعل الشيء، وما يفعلُه".

قال النووي: والصحيح أن السحر له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامّة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة.

بل قال الخطابي بعد أن أثبت حقيقة السحر، وردّ على المنكرين: فنفْي السّحر جهلٌ، والردّ على مَن نفاه لغوٌ وفضل.

إخوة الإيمان: أمَّا مَكْمَنُ الخطر في السحر فهو في تعليمه، والعمل به، لما في ذلك من الكفر والإشراك بالله من جانب، وإلحاق الأذى والضرر بعباد الله من جانب آخر، قال الله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:102].

ويبين الشيخ السعدي -يرحمه الله- وجهَ إدخال السحر في الشرك والكفر فيقول: السحر يدخل في الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلُّق بهم، وربّما تقرّب إليهم بما يحبون، ليقوموا بخدمته، ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله في علمه، وسلوك الطرق المفْضية إلى ذلك، وذلك من شُعَب الشرك والكفر. اهـ.

ويقول الذهبي: فترى خلقاً كثيراً من الضُّلَّال يدخلون في السحر، ويظنون أنّه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر.

أيها المسلمون: ولهذا جاء تحذير المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عن السحر أكيداً شديداً، وجاء حكم الشريعة في السّحَرة صارماً عدلاً، يقول -عليه الصلاةُ والسلام-: "اجتنبوا السبع الموبقات…"، فعدّ منهنّ السحر، والموبقات هي المهلكات.

وفي حديث آخر قال -عليه الصلاة والسلام-: "ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: مُدْمنُ خمرٍ، وقاطع رحم، ومصدِّقٌ بالسحر".

وفي حديث ثالثٍ يبلغ تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يقول: "ليس منا من تطيّر أو تُطيّر له، أو تكهّن أو تُكُهِّنَ له، أو سَحَرَ أو سُحِر له، ومن أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزلَ على محمد -صلى الله عليه وسلم–".

أما حكم السّحرة وحدُّهم فيقول ابن تيمية، رحمه الله: أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتلُه، وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفّان، وحفصة بنت عمر، وعبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله.

وعن بجالة بن عبدة أنّه قال: كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كلّ ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر.

وفي رواية عن أبي داود بسند صحيح عن بُجالة بن عبدة قال: جاءنا كتاب عمر، رضي الله عنه، قبل موته بسنة: "اقتلوا كلَّ ساحر". قال ابن قدامة مُعَلِّقاً على هذا الأثر: وهذا اشتهر فلم يُنكرَ، فكان إجماعاً.

وإنّما جاء حكم الشريعة بقتل الساحر لأنه مفسد في الأرض يفرّق بين المرء وزوجه، ويؤذي المؤمنين والمؤمنات، ويزرع البغضاء، ويشيع الرعب، ويفسد على الأُسرِ ودّها، ويقطع على المتوادّين حبّهم وصفاءهم، وفي بقائه على وجه الأرض فساد كبير على الأفراد والمجتمعات، وفي قتله قطعٌ لفساده، وإراحة البلاد والعباد من خُبثِه وبلائه. والله لا يحب المفسدين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(70)﴾ [يونس:69-70].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.  

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، عنده مفاتح الغيب، لا يعلمها إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن يمسسْك بضُرٍّ فلا كاشف له إلا هو، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، تضرّع إلى ربّه حين ناله الأشرار بسوء فكشف الضرّ عنه وعافاه.

اللهم صلّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

أما بعد: فالسؤال المهم الذي ينبغي أن نشترك جميعاً في الإجابة عليه: لماذا يروج السحر ويكثر السَّحَرة في بلاد المسلمين؟.

وللإجابة عنه يمكن رصد عدد من الأسباب، ومنها: ضَعف الإيمان في نفوسنا أحياناً، إذ الإيمانُ دعامةٌ كبرى، ووقايةٌ عظمى من كل فتنةٍ وشرٍّ ومكروه ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11]، وفي الحديث: "إن الإيمان لَيَخْلَقُ في جوف أحدكم كما يَخْلَقُ الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم".

فحين يَضعفُ الرجاءُ بالله، ويقل الخوفُ منه، ويهتز جانبُ التوكل على الله، والرضاءُ بما قدر، واليقينُ بما قسم، يتسامح بعض الناس بالذهاب للسحرةِ والمشعوذين فيَزيدهم ذلك وهناً على وهنهم وتُستلب أموالهم وعقولهم.

ومنها الجهل بأحكام الشريعة، وما جاء فيها من زواجر عن الذهاب إلى هؤلاء السّحَرة والعرّافين، وما ورد في ذلك من ضَيرٍ على المعتقد والدين. وهل يذهب إليهم من عرف وقدَّر قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أتى عرَّافاً فسأله عن شئٍ لم تُقْبَلْ له صلاةٌ أربعين ليلة".

أما إن سألهم وصدّقهم فالخطب أكبر، والخطر أعظم، فقد روي الحاكم بسندٍ صحيح عن أبي هريرة -رضى الله عنه-، أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدّقه فيما يقول فقد كفر بما أُنْزِلَ على محمّد -صلى الله عليه وسلم-".

وعند البزار بسند صحيح عن ابن مسعود -رضى الله عنه-، موقوفاً قال: "مَن أتى كاهناً أو ساحراً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِلَ على محمّد -صلى الله عليه وسلم-".

ومنها سذاجة بعض المسلمين وجهلهم بحال أولئك السَّحَرة والمشعوذين، فتراهم يذهبون يستطبّون عندهم، وأولئك لا يملكون من أنواع العلاج إلا ما يضر ولا ينفع، تخرُّصات وأوهام، وفصدٌ للعروق تسيل منه الدماء، وتمتماتٌ وطلاسم، وكتاباتٌ ورُبُط تُباع بغالي الأثمان، وهي لا تساوي فلساً عند أولى الألباب .

بل ولو ذهبتَ ترقُبُ أحوال المشعوذين الدينية والخُلُقية لرأيتَ العجبَ العُجاب، ولأيقنتَ أنّهم أحوج الناس إلى العلاج والاستصلاح، وإن نصبوا أنفسهم على هيئة الشيوخ، وحُذّاق الأطباء.

ومن أسباب انتشار السحر بيننا طغيان الحياة المادية المعاصرة الذي قست له القلوب، وجفّت ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس، ونتج عن ذلك العُقَد النّفسية، والمشكلاتُ الوهمية، وارتفاع مؤشَّرِ القلق.

وزاد الطينَ بلّةً ظنّ أولئك المرضى أنّ شفاءَهم يتم على أيدي السَّحَرة والمشعوذين، فراحوا يطرقون أبوابهم، ويدفعون أموالهم، وينتظرون الشفاء على أيديهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.

ومنها أنه باتت بعض بيوت المسلين مرتعاً للشياطين، يقل فيها ذكر الله، وقلّ أن يُقرأَ فيها كتاب الله، أو تُورَد فيها التعاويذ والأوراد الشرعية التي لا يستقرُّ معها الشياطين، وفي مقابل ذلك تجد هذه البيوت ملأى بأنواع المنكرات المرئي منها والمسموع، والصور العارية وغير العارية، وألوان الكتب والمجلاّت السيئة، وقد لا تخلو من مأكولٍ أو مشروبٍ محرَّم.

وهذه البيوت الخرِبة، وإن كان ظاهرها العمران، تصبح مأوى للشياطين، وتصطاد أهلها بالأدواء، فلا يجدون في ظنّهم سبيلاً للخلاص إلا عن طريق السحر والشعوذة والكهانة، وهذا يسري الداء، وكلّما ابتعد الناس عن الله ومنهجه، عظمتْ حَيرتهم وكثُر بلاؤهم، ووجد شياطين الجن والإنس لدجلهم رواجاً.

ومنها ضعف دور العلماء والمفكرين، وأهل التربية في التحذير من السحرة، وبيان الأضرار الناجمة عن الذهاب للمشعوذين والعرّافين، وتلك، وربي، تستحق أن تُعْقَد لها النّدوات، وأن تُسَلَّط عليها الأضواء في وسائل الإعلام المختلفة، حتى يتم الوعيُ ولا يؤخذ الناس بالدّجل.

وإذا عُطِّلَ أو قلَّ تنفيذ حُكْمِ الله في السحرة، أو ضعُفَت المتابعة لهم، انتشروا وراج دجلهم، وقد يكون من أسباب ذلك عدم الإثبات، وضعف تعاون الناس في البلاغ، إذ من الناس من يقلّ أن ينعدم خوفه من الله، فيسعى في الأرض مُفْسِداً، إلا أنْ تردعه قوةٌ أو يخاف الحدَّ، ومن المعلوم أنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وقد جاء في حديثٍ يصحّ وقفُه -دون رفعه-: "حَدُّ الساحر ضربةٌ بالسيف".

ينبغي أن يتعاون الناس في الرفع للجهات المسؤولة لِمن يثبتُ تعاطيه السّحر.

ومنها انتشار العمالة الوافدة بشكل عام، ومن غير المسلمين بشكلٍ أخصّ، والحذَرَ الحذر من السائقين والخدم! ففيهم من يتعاطى السحر أو يتعاون مع أهله، ولهم على البيوت في ذلك آثارٌ سيئةٌ ينبغي التفطّن لها.

ومن أعظم وسائلهم جمع الشَّعر وإرساله وعقدُ السحر فيه، وكم هو جُهدٌ مشكورٌ لموظف بريد أو رجل جوازات اكتشف شيئاً من وسائل السحر والشعوذة فأراح المسلمين أو غيرهم منها، وسلّم الله المجتمع من أضرارها، بسبب يقظته وشعوره بالواجب.

ومنها استمرار المرض، وضيق الصدر، وقلّة الصبر، وضَعف الاحتساب للأجر عند الله، كلّ ذلك قد يدفع البعض للذهاب لهؤلاء، وإن لم يكن مقتنعاً في البداية، وربما أقنع نفسه أو أقنعه غيرُه أن ذلك من فعل الأسباب، والإنسان لا شك مأمور بفعل الأسباب، لكنها الأسباب المشروعة دون المحرّمة.

ومن أسباب رواج السحر الدعاية الكاذبة وذهاب الناس لهؤلاء الدجالين، فقد يكتب الله شفاءً لمريض على أيدي هؤلاء لتكون له فتنة، فيطير بالخبر وينشر في الآفاق الدعوةَ للذهاب لهؤلاء ليفتن غيره كما فُتِن، وبعض الناس لديه القابلية للتصديق لأي خبر دون تمحيص أو النّظر في العواقب، وهكذا يفتن الناس بعضُهم بعضاً، ويجَرِّئُ بعضهم بعضاً، ويكونون أداةً للدعاية الكاذبة الخاسرة من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

عباد الله: هذه بعض أسباب رواج السّحر، والذهاب للسحرة، وقد يكون هناك غيرها.

ومن العدل والإنصاف أن يُقال: إنه على الرغم من انتشار السحر، ووجود مَن يذهب إليهم، فثمّةَ فئامٌ من المسلمين يربؤون بأنفسهم ومَن تحت أيديهم عن الذهاب لهؤلاء الدّجالين من السحرة، والكهنة والعرافين والمشعوذين، يحميهم الدين، ويبصرهم العقل، وملاذهم التوكّلُ واليقين، وزادهم الصبر واحتساب الأجر من رب العالمين، وتلك شموع تضيءُ، وهي نماذج للعلم والعقل والدين. جعلنا الله منهم وإخوانَنا المسلمين.

أيها المسلمون: ويبقى بعد ذلك حديثٌ مهمٌّ عن عوامل الوقاية من هذا الداء، وطرق الخلاص المشروعة لِمَن ابْتُلِيَ بشيءٍ من ذلك، وأُمورٍ أُخرى مهمّة أُرْجئُ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله.

اللهمّ إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، اللهمّ اشفِ مرضاناـ وعافِ مُبْتلانا، واحفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا.

اللهم أصلح أئمتنا وولاةَ أُمورنا، ووفقهم للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

اللهم ولّ على المسلمين خيارَهم، واكفِهم شرَّ شرارهم، اللهمّ ومن أرادنا أو أراد أُمّتَنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا رب العالمين، اللهمّ انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين.

اللهم اشف مرضى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، ونفِّسْ كرب المكروبين، وارحم موتاهم.