سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (44) غزوة بدر -1

عناصر الخطبة

  1. استعداد المسلمين للمسير طلباً لعير قريش
  2. خروجُ قريشٍ بكبرائها حمايةً للعير
  3. هروب العير وتحوّل هدف اغتنامها لمعركة قتالية
  4. ترتيب النبي الكريم للمعركة بمؤازرة صحابته
  5. تضرع النبي الكريم لله تعالى
  6. نصر الله للقلة المؤمنة على الجيش العرمرم
  7. دروس وعبر من معركة بدر
اقتباس

إنها غزوة بدر؛ يوم عظيم، وحدث جليل، أعلى الله بسببه كلمة الحق والدين، نذكرها فنشكر رب العالمين؛ قال الله-تعالى-: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران:123].

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلَّا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فالسعيد من راقب الله وأحسن تعامله مع ربِّه، واتَّبع هدي نبيِّه؛ فسلامة المنهج في اتِّباع هدي القرآن والسنة، وما أحوجنا في واقعنا المعاصر لتتبع سيرة النَّبيِّ –صلى الله عليه وسلم-، والوقوف على دروسها وعبرها!.

وهذه هي الخطبة الرابعة والأربعون من سلسلة خطب السيرة النبوية وواقعنا المعاصر، وقد كان موضوع الخطبة الماضية: سرية عبد الله بن جحش، والتي كانت بمثابة تقدمة لحدث يقلب مجرى التاريخ، إنه اللقاء الحاسم، يوم الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل، يوم أعزَّ الله فيه الإسلام ونصر المسلمين، وأذل فيه الشرك وهزم المشركين.

إنها غزوة بدر؛ يوم عظيم، وحدث جليل، أعلى الله بسببه كلمة الحق والدين، نذكرها فنشكر رب العالمين؛ قال الله-تعالى-: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران:123].

فاللهم لك الحمد ولك الشكر أن نصرت دينك وعبادك الصالحين، فما زال المسلمون يتقلبون بنعمة وثمرة ذلك النصر المبين حتى اليوم، فكيف كانت بداية هذه الغزوة الميمونة؟.

كانت بدر في السنة الثانية من الهجرة، عندما سمع رسول الله–صلى الله عليه وسلم- بأن أبا سفيان بن حرب مُقبلٌ مِنْ الشَّأْمِ فِي عِير لِقُرَيْشٍ عَظِيمَةٍ، فِيهَا أموالٌ لِقُرَيْشِ وَتِجَارَتُها، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ أَرْبَعُونَ. فَانْتَدَبَ الناسُ، فَخَفَّ بعضُهم وَثَقُلَ بعضُهم، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَلْقَى حَرْبًا.

وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنْ الْحِجَازِ يتَحَسَّسُ الْأَخْبَارَ؛ وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنْ الرُّكْبَانِ؛ حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ؛ فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فبعثه إلى مكة، لاستنفار القرشيين على محمدٍ وأصحابه، فجاءهم ضمضمُ صارخًا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ! -أي:أدركوا الْإِبِل الَّتِي تحمل الْبَز وَالطّيب-، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ الْغَوْثَ!.

ولم يكن لقريش شاغل بعد نذير الشؤم عليهم إلا التجهز للقتال، وبالفعل تجهز النَّاس سراعًا، وَأَوْعَبَتْ قُرَيْشٌ -أي:خرجوا جميعًا-، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهَا أَحَدٌ؛ إلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَخَلَّفَ، وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصِيَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.

وهكذا، لم يُسمح بتخلف سادة مكة وكبرائها، وكاد أمية بن خلف أن ينجو من الموت الذي ينتظره ببدر؛ لولا تحريض أعز أصدقائه عقبة بن أبي مُعَيْطٍ؛ فألحَّ عليه حتى صحبه معه؛ وبذلك خرج كل سادات مكة وكبرائها.

وهكذا يدبر الله  -سبحانه وتعالى-  الأمور، ففي المدينة بدأ الإعداد والاستعداد، وكان موعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لغزوة بدر يوم الِاثْنَيْنِ لِثَمانِ ليالٍ خَلَوْنَ من شهر رمضان، واستخلف -صلى الله عليه وسلم- ابنَ أُمِّ مَكتومٍ على الصَّلاة بالنَّاس.

وكانت المرة الأولى التي يُعقد فيها لواء للمسلمين، دَفَعَه -صلى الله عليه وسلم- إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ. 

وعيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدة رايات سود، ودفع راية المهاجرين لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وأعطى راية الخزرج للحباب بن المنذر -رضي الله عنه-، بينما راية الأوس مع سعد بن معاذ -رضي الله عنه-.

وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن! وشعار الخزرج: يا بني عبد الله! وأمَّا الأوس؛ فشعارهم: يا بني عبيد الله! وقيل: بل كان شعار المسلمين جميعًا يومئذ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ. وكل هذه الترتيبات تؤكد أهمية تميز الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحنكته العسكرية.

خرج جيش المسلمين، وكان "عِدَّة أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَ مِائَةٍ" رواه  البخاري.

والسر في قلة عدد الخارجين لهذه الغزوة؛ ظن باقي الصحابة أن الأمر لا يتعدى اغتنام العير، ثم العودة بسلام وأمان! قال أسيد بن حضير -رضي الله عنه-  للنبي -صلى الله عليه وسلم- عند عودته من بدر: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَرّكَ وَأَظْهَرَكَ عَلَى عَدُوِّكَ. وَاَلّذِيْ بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! مَا تَخَلّفْتُ عَنْكَ رَغْبَةً بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِكَ، وَلَا ظَنَنْتُ أَنّكَ تُلَاقِي عَدُوًّا، وَلَا ظَنَنْتُ إلّا أَنّهَا الْعِيرُ. فَقَالَ لَهُ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَدَقْت!".  

وبدأ المسير بقيادة البشير النذير -صلى الله عليه وسلم-، على ما فيه من مشقة، كما جاء عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-؛ قَالَ:كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ: "مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا"رواه أحمد وحسنه الأرنؤوط.

وفي هذه الأثناء أقبل أبو سفيان بالعير، وكان ومن معه خائفين خوفًا شديدًا حين دنوا من المدينة أن يفجأهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، فلما علم بخروج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، أخذ بعيره جهة الساحل، وترك بدرًا يسارًا، وانطلق سريعًا هاربًا بنفسه وقافلته، فلما أفلت أبو سفيان بالعير، أرسل إلى قريش، يقول: قَدْ نَجَتْ عِيرُكُمْ، فَلَا تُجْزِرُوا أَنْفُسَكُمْ أَهْلَ يَثْرِبَ -أي:لا تنحروها بأيديهم-، فَلَا حَاجَةَ لَكُمْ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَقَدْ نَجّاهَا اللهُ.

ولكنه الخذلان، والخسران، فإذا أبو جهل يقول في كبرياء وغطرسة: لا والله، لا نرجع حَتّى نَرِدَ بَدْرًا، تَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا، فَنُقِيمُ ثَلَاثًا عَلَى بَدْرٍ نَنْحَرُ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمُ الطّعَامَ، وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ الْقِيَانُ عَلَيْنَا، فَلَنْ تَزَالَ الْعَرَبُ تَهَابُنَا أَبَدًا.

فكان الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أولَ الحكماءِ مِنْ قومِهِ، فقالَ: يا بني زُهْرَةَ! قد نجَّى اللهُ عيرَكُم، وخلَّصَ أموالَكُم، وإنَّما محمدٌ رجلٌ منكُمْ، فإنْ يكُ نبيًّا فأنتُمْ أسعدُ الناسِ به، وإنْ يكُ كاذبًا يلِي قتلَهُ غيرُكُم خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَلُوا قَتْلَ ابْنِ أُخْتِكُمْ.

فكان في هذا الرجوع نجاته في الدنيا والآخرة؛ وذلك أنَّ الله -سبحانه وتعالى- هداه للإسلام يوم الفتح، وأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المؤلفة قلوبهم. كما نجت بنو عدي ورجعوا من الطريق فنجاهم الله.

 أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمع بخبر هروب العير، وإقبال قريش للنفير؛ وهنا انقلبت الموازين، فقد خرجوا للعير، وما جاءوا لقتال، "فَجَمَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ، وَاسْتَشَارَهم، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؛ فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة:24]، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ -موضع قريب من مكة أو اليمن- لَفَعَلْنَا. فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ؛ فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا" رواه مسلم.

سبحان الله! لقد تغيَّر الهدف من تحقيق غنيمة سهلة من العير؛ إلى مواجهة قتالية لجيش يضاعفهم في العدد ثلاث مرات، وفي العدة عشرات الأضعاف؛ فلم يكن مع المسلمين يوم بدر من الخيل إلَّا ثلاثة أفراس، وكانت الإبل سبعين بعيرًا يتعاقب النفر البعير؛ لكنها عُدَّةَ الإيمان بالله، والثقة بنصره -عز وجل-.

فما أحوج المسلمين اليوم لمثل هذا الإيمان والصبر! وقد تكالبت قوى الشر على بلاد المسلمين من كل اتجاه.

فَمَا نَخْشَى بِحَوْلِ اللَّهِ قَوْمًا *** وَإِنْ كَثُرُوا وَأُجْمِعَتْ الزُّحُوف

إذَا مَا أَلَّبُوا جَمْعًا عَلَيْنَا *** كَفَانَا حَدَّهُمْ رَبٌّ رَءُوفٌ

أراد الحباب بن المنذر -رضي الله عنه- تقديم رأي ومبادرة تتعلق بقطع الإمدادات والمؤن عن العدو؛ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ؛ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-:"بَلْ هُوَ الرَّأيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ؛ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-:"لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأيِ".  

وما أجمل خُلق الحباب -رضي الله عنه- وشخصيته الإيمانية! فهو لن يقول برأيه في قضية إن كان فيها حكم لله، "أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟"، هكذا المؤمن يُميز ما كان فيه رأي أو وحي.

لقد تمكنت عيون النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإيقاع ببعض غلمان سادة قريش فعرف منهم عدد من جاء لقتالهم، فَأَقْبَلَ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى النّاسِ، فَقَالَ: "هَذِهِ مَكّةُ، قَدْ أَلْقَتْ إلَيْكُمْ أَفْلَاذَ أكَبِادِهَا".

فخَطَبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثم أمرهم بالجهاد، ورغبهم في الخير، وحثهم على القتال؛ فملأ -صلى الله عليه وسلم- الأرواح توثبًا واستعدادًا معنويًا عاليًا، ولم يكتف -صلى الله عليه وسلم- بالتحفيز المعنوي، بل قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا"رواه أبو داود.

ثم كان التضرعُ بدايةَ الفتح الربَّانيِّ؛ "إذ اسْتَقْبَلَ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَإِزَارُهُ؛ ثُمَّ قَالَ:"اللهُمَّ أَيْنَ مَا وَعَدْتَنِي؟ اللهُمَّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي! اللهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلامِ فَلا تُعْبَد فِي الْأَرْضِ أَبَدًا" فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ -عز وجل-، وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّاهُ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ! فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ!. رواه مسلم.

وكان -صلى الله عليه وسلم- موقنًا بالنصر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ"، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ "هَاهُنَا، هَاهُنَا"، فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم.

بدأت معركة الفرقان بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان.

ركضًا إلى اللهِ بِغَيْرِ زَادِ *** إلَّا التُّقى وَعَمَلَ المعادِ

والصَّبرَ في اللهِ على الجهادِ ***  وكلُّ زادٍ عرضةَ النّفادِ

       غير التُّقى والبرِّ والرّشاد

كان تأييد السماء لهذه الغزوة عجيبًا، فكان المدد الإلهي للمسلمين بالملائكة، كما قال الله  -عز وجل-: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِين﴾ [الأنفال:9]، "فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ" رواه مسلم.

فخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إلَى النَّاسِ فَحَرَّضَهُمْ، وَقَالَ:"قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ"، قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟! قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ:بَخٍ بَخٍ! فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟"، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: "فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا"، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ! فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم.

فبذل الصحابة أرواحهم، وضربوا أروع الأمثلة في تلك الغزوة؛ وكان -صلى الله عليه وسلم- رأى في منامه المشركين قلة، فقصَّ ذلك على أصحابه -رضي الله عنهم-، فقويت قلوبهم، كما قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الأنفال:43]. فَانْهَزَمَ أَعْدَاءُ اللهِ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَالْمَلَائِكَةُ يَقْتُلُونَهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ.

وَكَانَ من مواقف المعركة التي شفا الله بها صدور المؤمنين هلاك رؤوس الكافرين؛ وظهور مواقف وبطولات من صحابة النبي الأمين، وهو حديث الجمعة المقبلة بإذن الله -عز وجل-.

نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينصر الإسلام، وأن يعز المسلمين.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.