الإيمان بالرسل

عناصر الخطبة

  1. الإيمان بالرسل في القرآن والسنة
  2. مفهوم الإيمان بالرسل وتعريف الرسول
  3. عدد الأنبياء وأفضلهم
  4. خصائص الرسل البشرية والروحية
  5. وظائف الأنبياء والرسل
  6. واجبنا نحو الرسل، والرد على من أنكرهم
  7. أول ما دعا إليه الرسل
  8. واجبنا أتباع الرسول في نشر دعوته.
اقتباس

إن الرسل جميعهم -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره، وأمروا الناس بعبادة الله وحده، وأخبروا أممهم أنهم بشر لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه، ولا يملكون بسط الرزق أو قبضه لأحد، وأنذروا قومهم الآخرة وما فيها من حساب وجزاء، وثواب وعقاب، وهذه الأصول هي التي دعا إليها كل رسول من رسل الله…

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ويتحقق العدل بين المخلوقين، وجعل لهم خلفاء يخلفونهم في أممهم علمًا وعملاً ليكونوا قدوة للعاملين ومنارًا للسالكين، وشهداء على العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.

أما بعد :

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما أنعم به على عباده من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونشر الحق بين الخلق، واعلموا أن من أُسس العقيدة الإسلامية الإيمان بجميع الرسل والأنبياء -عليهم السلام-، فالمؤمنون يعتقدون إيمانًا راسخًا بالرسل والأنبياء -عليهم السلام-، وقد وصف القرآن الكريم إيمان المؤمنين، فقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285].

عباد الله: الأنبياء والرسل هم مصابيح الدجى، وينابيع الهدى في هذه الأرض، فهدى الله للبشر جاء بواسطتهم، وما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا، قال -سبحانه-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: 64]، وما أنزل الله الكتب إلا ليحكموا بها بين الناس بالعدل، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: 213].

كما انهم أطهر البشر قلوبًا، وأصدقهم إيمانًا، وأكملهم دينًا، وأحسنهم أخلاقًا، وأقواهم عبودية، اصطفاهم بالوحي والرسالة، وأمرهم بإبلاغها إلى الناس، ووعدهم على ذلك الجنة، وقد صدقوا وبلغوا، لذا أوجب الله علينا الإيمان بهم، ومحبتهم، والثناء عليهم من غير إطراء، وتوقيرهم، وتصديق ما صح عنهم من أخبارهم مع أممهم، والاقتداء بهم في صدق الإيمان، وكمال التوحيد، وحسن الخلق، والعمل بشريعة مَن أُرسل إلينا منهم، وهو خاتمهم وأفضلهم وسيدهم، المرسل إلى الناس كافة، وإلى العالم قاطبة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم جميعًا، قال الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا(151)﴾ [النساء: 150-151].

فلا ينبغي -أيها الإخوة- أن نفرّق بين الأنبياء، فالمؤمن يعلن دائمًا أنه لا يفرق بين أحدٍ من رسل الله في ذات الرسالة، أو بين أحد من أنبيائه في ذات النبوة، فهو يؤمن بهم جميعًا دون تفريق، ويعظمهم جميعًا؛ لأنهم هم المصطفون الأخيار، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ [النساء: 152].

والله -سبحانه- أمر نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ونحن تبع له أن نؤمن بجميع أنبيائه ورسله، قال تعالى: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 84].

أيها المؤمنون: إن إرسال الله للرسل وبعثه للأنبياء لهو أكبر دليل وأعظم شاهد على عظيم رحمته بعباده، وشدة عنايته بخلقه، وأنه لم يكلهم إلى أنفسهم وما أودعه فيهم من الفطرة السليمة وما زودهم به من وسائل المعرفة والإدراك، ولم يكتفِ -سبحانه- بإنزال الكتب عليهم، بل أرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى ربهم، ويبينون لهم كيف يعبدونه، فلله الحمد والشكر على نعمه التي لا تُحصى في الأولين والآخرين، هو أحق مَن عُبد، وأحق مَن حُمد، وأكرم من سُئل، وأرأف من مَلك، وأعظم من عَفا، -سبحانه-.

ولا شك -أيها الإخوة- أن رسل الله إلى خلقه هم أفضل البشر على الإطلاق؛ لأنهم يدعون الناس إلى ربهم، ويهدونهم إلى خالقهم، ويتعبون من أجل راحتهم، فيا سعادة من آمن بهم، وتشرف بصحبتهم واتباعهم، وما أحسن صحبتهم في الدنيا وجوارهم في الآخرة، نسأل الله من واسع فضله.

عباد الله: رسل الله وأنبياؤه ليسوا على مرتبة واحدة، بل يختلفون في الرتب فيما بينهم، فالله -عزَّ وجلَّ- فضَّل بعض الرسل على بعض، وخصَّ بعضهم بخصائص لم توجد في غيرهم، قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: 253]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 179].

وقد جعلت الشريعة الإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: “الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ“. [متفق عليه].

إن الإيمان بالرسل يعني: التصديق الجازم بأن الله -عزَّ وجلَّ-، بعث في كل أمة رسولاً، يدعوهم إلى الإيمان بالله، وعبادته وحده، واجتناب ما يُعبَد من دونه، وأنهم جميعًا مرسلون صادقون، وقد بلَّغوا جميع ما أرسلهم الله به، ومنهم من أعلمنا الله باسمه، ومنهم من استأثر الله بعلمه.

والرسول هو من أوحى الله إليه بشرع، وأمره بتبليغه إلى مَن لا يعلمه، أو يعلمه لكنه خالفه، والنبي من أوحى الله إليه بشرع سابق، ليعلّم من حوله من أصحاب ذلك الشرع ويجدده، فكل رسول نبي ولا عكس، ويطلق الرسول على النبي، والنبي على الرسول، فإذا اجتمعا في آية فلكل منهما معناه.

وعدد الأنبياء والرسل لا يعلمه إلا الله، فمنهم من بيَّن الله أسماءهم في القرآن، وقصَّ علينا أخبارهم وهم خمسة وعشرون، ذُكروا بأسمائهم فنؤمن بهؤلاء جميعًا، وبما جاء من أخبارهم وقصصهم، ومنهم من لم نعلم أسماءهم، ولم يقص الله علينا خبرهم، فنؤمن بهم إجمالاً تصديقًا لخبر الله عنهم، قال -سبحانه-: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [غافر: 78].

وأفضل أنبياء الله ورسله الخمسة الموصوفون بأولي العزم من الرسل، والذين ذكرهم الله في قوله -سبحانه-: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]، وقوله -جل وعلا-: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [الأحزاب: 7].

عباد الله: وأول الرسل من ذرية آدم نوح -عليه السلام-، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163]، وآخرهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد بعث الله كل رسول إلى قومه خاصة، وبعث رسوله محمدًا إلى الناس كافة، قال -سبحانه-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28]، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، لا نبي بعده ولا رسول يخلفه، أرسله الله رحمة للعالمين وهداية للثقلين، قال -جل وعلا-: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب: 40]. وعن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: منها.. وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ” [البخاري (438)].

والحكمة من بعث هؤلاء الرسل الى البشرية هي دعوة أهلها إلى عبادة الله وحده، وتحذيرهم من عبادة ما سواه، قال -سبحانه-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، وقد أمر الله الرسل ببيان الطريق الموصل إليه، وما للناس بعد القدوم عليه وإقامة الحجة على الناس، وأرسلهم رحمة للناس، قال -سبحانه-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

عباد الله: الأنبياء بشر مخلوقون يأكلون ويشربون، ويتزوجون، وينامون، ويسهون وينسون، ويصيبهم المرض والموت، وهم كغيرهم لا يملكون شيئًا من خصائص الربوبية والألوهية، فلا يملكون النفع والضر لأحد إلا ما شاء الله، ولا يملكون شيئًا من خزائن الله، ولا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه، قال الله -عزَّ وجلَّ- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188].

ومحبة الرسل إنما تنشأ من معرفة عظمة ما جاؤوا به من الخير، ومن حسن أخلاقهم، ورحمتهم للبشر، وبذلهم ومواساتهم وصبرهم، وتحملهم من أجل هداية البشرية، ومن معرفة كمال عبوديتهم لربهم وشكرهم لمولاهم.

ولا شك أن من يعرف النبي محمدا -صلى الله عليه وسلم- يحبه ولا يقدر على مفارقته، وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذاقوا طعم صحبته في الدنيا تشوقوا إلى صحبته في الآخرة، فلقياه في الآخرة يشغل قلوبهم وأرواحهم، وإنه حقًّا لأمرٌ يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم، وما جاء به من الخير، عن رَبِيعَة بْن كَعْبٍ الأسْلَمِيِّ، قال: كُنْتُ أبِيتُ مَعَ رَسُولِ الله، فَأتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ. فَقَالَ لِي: “سَلْ“. فَقُلْتُ: أسْألُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قال:” أوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟”. قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قال: “فَأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ” [مسلم (489)]، وعن أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه-، قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: “الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ“[البخاري (6170) مسلم (2641)].

إن وظيفة الرسول أداء الرسالة وتبليغها، وشأن الناس مع الرسول أن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن تولى معرضًا مكذبًا، فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه، ولم يرسل الرسول ليجبر أحدًا على الهدى، أو يكرهه على الدين، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]، وليس الرسول موكلاً بحفظ العباد من العصيان والضلال، فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول، ولا داخلاً في قدرته، وإنما ذلك بيد الله وحده: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ(100)﴾ [يونس: 99-100].

وإن الله -سبحانه- لم يكلف رسله -صلوات الله وسلامه عليهم- أن يحدثوا الهدى للمعرضين المتولين، ولا أن يحفظونهم من الإعراض والتولي بعد البلاغ والبيان، قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48].

واعلموا -عباد الله- أن المنكر لبعثة رسول أو للرسل، وإرسالهم إلى الناس، ما قدر الله حق قدره، ولا عرف حكمته ورحمته، وعدله وإحسانه وكرمه، وهؤلاء ما أجهلهم بربهم: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: 91]، والقول بهذا جهل بقدر الله -سبحانه-، وقدح في حكمته، فالله العظيم الكريم، العدل الرحيم، العليم الحكيم، لا يدع هذا الإنسان وحده وهو خالقه، ويعلم سره وجهره، وطاقاته وقواه، وحاجته إلى منهج يعتمد عليه، ومبادئ يرجع إليها في أفكاره وأقواله وأفعاله، ويعلم -سبحانه- أن العقل الذي أعطاه، لا يستقل بمعرفة ما ينفعه وما يضره، ويتعرض لضغوط كثيرة من رغباته وشهواته، فضلاً على أنه موكل بالاستفادة من طاقات الأرض التي سخرها الله له.

إن عقل الفرد ليس موكلاً بصياغة نظام لحياة الإنسان، فهذا مجال الدين ومهمة الشريعة التي تأتي من الله بواسطة رسله، فيؤمن بها، ويتبع ما جاءت به، ومن ثَم لا يكل الله الإنسان إلى هذا العقل وحده، ولا يكله إلى ما أودع في فطرته من معرفة ربه، وشوقه إليه، ولجوئه إليه في الشدائد، فهذه الفطرة قد تفسد بسبب المؤثرات المختلفة.

فما كان الله ليخلق البشرية، ويجمعهم في الأرض، ثم يتركهم سدى، ثم يحاسبهم يوم القيامة، ولم يبعث فيهم رسولاً يبين لهم ما يتقون، وينزل عليهم كتابًا به يهتدون، قال -سبحانه-: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 115]، بل منَّ الله على البشرية كافة، ببعثة الأنبياء والرسل إليهم ليزكوهم ويعلموهم، قال -سبحانه-: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].

أيها المسلمون: إن الرسل جميعهم -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره، وأمروا الناس بعبادة الله وحده، وأخبروا أممهم أنهم بشر لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه، ولا يملكون بسط الرزق أو قبضه لأحد، وأنذروا قومهم الآخرة وما فيها من حساب وجزاء، وثواب وعقاب، وهذه الأصول هي التي دعا إليها كل رسول من رسل الله إلى عباده، والإيمان بالرسل ليس فقط اعتقاد بالقلب، بل هو مع ذلك عمل إيجابي في تنفيذ جميع ما جاؤوا به، في نصرة هؤلاء الرسل، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه وهو إبلاغ رسالة الله إلى عباده.

والشرائع السماوية السابقة كلها أكملها الله بالإسلام، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء ليكمل اللبنة الناقصة في البناء الإيماني، حتى يكون صالحًا مفتوحًا لكل فرد من البشرية إلى يوم القيامة، قال الله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، وما ورد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا، فَأحْسَنَهُ وَأجْمَلَهُ إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قال: فَأنَا اللَّبِنَةُ، وَأنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ” [البخاري (3535) مسلم (2286)].

فما أعظم فضل الرب على الناس وما أعظم رحمته لهم وما أعظم عنايته بهم، يرسل إليهم رسولاً بعد رسول وينزل عليهم أمرًا بعد أمر ويهديهم بكتاب بعد كتاب، حتى أكمل الله الدين، وبعث به رسول الله خاتم النبيين ورضيه منهاجًا للحياة إلى يوم الدين: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]، ويا لها من نعمةٍ ما أعظمها، وتكرمة ما أجلها، وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، ومن أحب الله أنس به، ومن أحب غيره عُذب به، فمن يشعر ويحس بقيمة هذه النعمة الكبرى؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61].

اللهم اشملنا بعفوك، وأغننا بكرمك وجودك وفضلك يا أرحم الراحمين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه بالحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.

فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرة ربكم ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته؛ فالعمر سريع الذهاب بساعاته وأوقاته.

عباد الله: إن الله -سبحانه- ألقى على الأنبياء والرسل تبعة ثقيلة عظيمة، وألقاها من بعدهم على المؤمنين برسالاتهم تجاه البشرية كلها، قال الله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران:110]، وهي مسؤولية عظيمة، فأما رسل الله -عليهم الصلاة والسلام-، فقد بلّغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، وجاهدوا في الله حق جهاده، بلّغوها دعوةً باللسان وقدوة حسنة للعباد، وجهادًا مضنيًا بالليل والنهار، جهادا متواصلاً لإزالة العقبات؛ سواء كانت هذه العقبات شبهات تُحاك، وضلالات تُزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة، وتفتن الناس عن دينهم.

وقد مضى هؤلاء الأنبياء والرسل إلى ربهم مبلغين لدين ربهم، ومن أول الرسل نوح -صلى الله عليه وسلم- إلى خاتمهم وسيدهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبقي هذا الواجب الثقيل على من بعده من المؤمنين برسالته.

والذي يشهد للأنبياء في دعوتهم هي أمة محمد، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ، فَتَشْهَدُونَ“، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143][البخاري (7349)].

فاصبروا -أيها الدعاة- على ذات المنهج الذي بلَّغ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جهد وتضحية، وحكمة ورحمة، وحلم وصبر، وبذل وإحسان، ودعوة ودعاء، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق والأعمال، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، واجعلنا من عبادك الصالحين.