فقه الإيمان بالكتب

عناصر الخطبة

  1. الإيمان بالكتب في القرآن والسنة
  2. الكتب السماوية التي يجب الإيمان بها
  3. هل نصدق أهل الكتاب أم نكذبهم
  4. نسخ القرآن لسائر الكتب من قبله
  5. القرآن أعظم الكتب السماوية وأفضلها وأكملها
  6. حفظ الله للقرآن من التحريف والتبديل
  7. دور القرآن في إحياء البشر والأمم
  8. القرآن منهج ونظام شامل للحياة.
اقتباس

قبول الأعمال مترتب على العمل بالقرآن العظيم؛ إذ لا يقبل الله العمل بغيره بعد نزوله، وهو الكتاب الذي تكفل الله بحفظه من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل، فحفظه في الصدور والسطور، بل كم يسر الله من الوسائل العصرية وأوجد من التقنيات الحديثة ما سهلت طباعته وحفظه، وشرحه ونشره، كل ذلك بإتقان وجودة فائقة…

الخطبة الأولى:

إِنّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِي لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران آية 102 ]، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [ النساء آية 1 ]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب آية 70-71 ].

أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.[حديث خطبة الحاجة أخرجه أبو داود (2118) وصححه الألباني].

عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، وآمنوا بالقرآن العظيم وبكل كتاب نزل من عند الله، واعلموا أن من أركان الإيمان الستة الإيمان بالكتب التي أنزلها الله -عز وجل- على أنبيائه ورسله، وبأنها حق وصدق وهدى ونور، وبيان وشفاء، ورحمة للخلق وهداية لهم؛ ليصلوا بها إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة.

ومن حكمة الله -عز وجل- ورحمته بعباده أن بعث أنبياء ورسلاً لهدايتهم ودعوتهم إلى الخير، وإقامة حجته على خلقه، وأنزل عليهم كتبًا ليبيّنوا للناس ما أنزل إليهم من الهدى والنور، وما تتضمنه من أحكام الله -عز وجل- العادلة، ووصاياه النافعة، وأوامره ونواهيه الكفيلة بإصلاح البشرية وإسعادها في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون: وقد أمرنا ربنا -جل وعلا- بالإيمان بالكتب التي أنزلها على رسله، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 136], وقال -سبحانه-: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) [آل عمران: 2 – 4].

وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بالكتب من أركان الإيمان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: “الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ“. [متفق عليه].

واعلموا -أيها المسلمون- أن الإيمان بالكتب هو التصديق الجازم بأنها أنزلت من عند الله حقًّا، لا مرية فيه، على أنبيائه ورسله؛ هداية لعباده، وهي من كلام الله حقيقة، وأن ما تضمنته حق لا ريب فيه، منها ما سمى الله في كتابه، ومنها ما لا يعلم أسماءها وعددها إلا الله وحده لا شريك له.

فنؤمن -أيها الإخوة- بأن الله -عز وجل- أنزل الكتب السابقة لهداية عباده، وهي شريعة الله ودينه في أوقاتها، ونصدق ما صحَّ من أخبارها كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدّل أو يحرّف من الكتب السابقة، ونعمل بأحكام ما لم يُنْسخ منها مع الرضا والتسليم، ونؤمن بما لم نعلم اسمه من الكتب السماوية إجمالاً؛ لأن هذا من الغيب الذي أُمرنا أن نؤمن به.

عباد الله: بيّن لنا ربنا -عز وجل- في القرآن أنه أنزل كتبًا، وهي: ﴿صحف إبراهيم﴾ -صلى الله عليه وسلم-، وكتاب ﴿التوراة﴾ الذي أنزله الله على موسى -صلى الله عليه وسلم-، وكتاب ﴿الزبور﴾ الذي أنزله الله على داود -صلى الله عليه وسلم-، وكتاب ﴿الإنجيل﴾ الذي أنزله الله على عيسى -صلى الله عليه وسلم-، وكتاب ﴿القرآن﴾ الذي أنزله الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- للناس كافة، وهو آخر الكتب السماوية إلى البشر وناسخها.

عباد الله: وجميع الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها منسوخة بالقرآن العظيم، فبنزول القرآن الكريم، وببعثة محمد -عليه الصلاة والسلام- نُسخت، وانتهت صلاحيتها، فالرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- أرسله ربه للناس كافة، والقرآن للعالمين أجمع وإلى قيام الساعة، قال -سبحانه-: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48].

وإن ما في أيدي أهل الكتاب اليوم مما يسمى بالتوراة والإنجيل، أو العهد القديم، والعهد الجديد، لا تصح نسبته كله إلى أنبياء الله ورسله، فقد كُتب بعدهم، ووقع فيهم التحريف والتبديل، ومنها ما كتموه، ومنها ما افتروه، كقول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله، واتهام الأنبياء بما لا يليق بمقامهم، ووصف الخالق بما لا يليق بجلاله ونحو ذلك، فيجب رد ذلك كله، وعدم الإيمان إلا بما جاء في القرآن والسنة تصديقه، وسواء ما حُرِّف منها وما لم يُحَرّف لا يجوز العمل بالكتب السابقة ولا التدين بما فيها؛ حماية للمسلم وعقيدته.

واعلموا -عباد الله- أن أهل الكتاب إذا حدثونا فلا نصدقهم ولا نكذبهم، ونقول: “آمنا بالله وكتبه ورسله“، فإن كان ما قالوه حقًّا لم نكذبهم، وإن كان ما قالوه باطلاً لم نصدقهم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: “كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ.. الْآيَةَ” [البخاري 7362].

وما لم يكن فيه معارضة لديننا، ولم يتبين لنا كذبه، فحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وعلينا مجادلتهم بالتي هي أحسن إلا الظالمين منهم، ومجادلتنا لهم مبنية على الإيمان بما أُنزل إلينا، وأُنزل إليهم، وعلى الإيمان برسولنا ورسلهم، وأن إلهنا جميعًا واحد، فلا نقدح في شيء من كتب الله المنزلة، ولا في أحد من رسله، قال -سبحانه-: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46].

عباد الله: والقرآن الكريم أعظم الكتب السماوية وأفضلها وأكملها، أنزله الله -عز وجل- على خاتم رسله، وأفضلهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعله تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين، قال -سبحانه-: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]، فهو كتاب الله العزيز، ومنهجه القويم، وشرعه الكامل للبشرية عامة من لدن نزوله على محمد -صلى الله عليه وسلم-، إلى يوم القيامة، قال -سبحانه-: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [إبراهيم: 52].

أيها الإخوة: كما أن شريعة النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل الشرائع، وهو أفضل الأنبياء وأكملهم، وأمته أكمل الأمم، وكتابه أحسن الكتب، فهو سيد الأنبياء وخاتمهم، وأمته أفضل الأمم وآخرها، وكتابه أفضل الكتب وأحسنها، وشريعته أكمل الشرائع وآخرها, ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].

وتيقنوا -أيها الإخوة- أن قبول الأعمال مترتب على العمل بالقرآن العظيم؛ إذ لا يقبل الله العمل بغيره بعد نزوله، وهو الكتاب الذي تكفل الله بحفظه من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل، فحفظه في الصدور والسطور، بل كم يسر الله من الوسائل العصرية وأوجد من التقنيات الحديثة ما سهلت طباعته وحفظه، وشرحه ونشره، كل ذلك بإتقان وجودة فائقة، وما هذا وذاك إلا مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].

فلله الحمد والشكر، وله المنّة والفضل؛ حيث أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل علينا أحسن كتبه، وجعلنا من خير أمة أُخرجت للناس, ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].

أيها المؤمنون: وقد وصف الله -عز وجل- القرآن الكريم بما يقتضي حُسنه، وكثرة خيره ومنافعه، وبما يفيد جلالة قدره وعظمته، فقال -سبحانه-: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)﴾ [الواقعة: 77 – 80]، والكريم: هو البهي الحسن، الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كل شيء أفضله وأحسنه.

ولذلك وُصف القرآن بالكريم، وهو وصف مبالغ في الثناء والمدح، فقد وصف الله نفسه بالكريم، ووصف كتابه بالكريم، ووصف عرشه بالكريم، ووصف رسوله الملكي جبريل بالكريم، ووصف رسوله البشري محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالكريم.

عباد الله: إن كتاب الله القرآن الكريم لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلوب الملوثة بنجاسة البدع والشرك والمعاصي أن تنال معانيه أو تفهمه كما ينبغي، قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ [الأعراف: 146].

أيها المسلمون: القرآن الكريم كلام الله -عز وجل-، فلا يفهمه ولا يجد طعمه إلا من آمن به، ولا يلتذ به وبقراءته وتدبره إلا من شهد أنه كلام الله، تكلم به حقًّا، وأنزله على رسوله وحيًا، ولا ينال بركته، ولا يستفيد من معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه، فهو كتاب جليل القدر عظيم النفع، حوى كل ما يحتاج إليه العباد، وجميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، محكم مفصل.

عباد الله: القرآن أصدق الكلام وأحسنه وأكمله، قال -سبحانه-: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115]، عدلاً في الأوامر والنواهي والأحكام، وصدقًا في الأخبار والأمثال، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، تطمئن له القلوب، وتنشرح له الصدور، أنزله الله هدى ونورًا وموعظة وذكرًا، وشفاء للبشرية جمعاء, قال الله: ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 2].

فمن لم يؤمن بأن الله تكلم به وحيًا ففي قلبه حرج منه، ومن لم يؤمن بأنه حق من عند الله ففي قلبه حرج منه، ومن قال: “إن له باطنًا يخالف ظاهره” ففي قلبه حرج منه، ومن قال: “إن له تأويلاً لا نفهمه ولا نعلمه” ففي قلبه حرج منه، ومن سلط عليه الآراء الشاذة، وجعله تابعًا لنحلته ومذهبه تعصبًا، ففي قلبه حرج منه، ومن لم يأتمر بأمره، وينزجر عن زواجره، ويصدق أخباره، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، ويرد ما سوى ذلك، ففي قلبه حرج منه، ومن لم يحكمه ظاهرًا وباطنًا في جميع شعب الحياة، ويسلم وينقاد لحكمه أيا كان وأين كان، ففي قلبه حرج منه.

أيها المؤمنون:  كل كتاب نزل من عند الله -عز وجل- جاء بثلاثة أمور:

الأول: تعريف الناس بربهم؛ ليعبدوه ويطيعوه، ويجتنبوا عبادة ما سواه.

الثاني: تعريفهم بالطريق الموصل إليه، والذي يحبه ويرضاه، وهو شرعه الذي أرسل به رسله، وما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي.

الثالث: تعريفهم بحالهم بعد القدوم على ربهم بعد الموت، فللمؤمنين بالله الجنة، وللكفار النار، كل يجازى بحسب عمله.

إن الشرائع التي أنزل الله ثلاث: شريعة عدل: وهي شريعة التوراة، فيها الحكم والقصاص بالعدل، وهي شريعة الجلال والقهر. وشريعة فضل: وهي شريعة الإنجيل، وهي مشتملة على العفو ومكارم الأخلاق، والصفح والإحسان، فهي شريعة الجمال والفضل والإحسان. وشريعة جمعت هذا وهذا ﴿العدل والإحسان﴾، وهي شريعة القرآن، فإنه يذكر العدل ويوجبه، ويذكر الفضل ويندب إليه، ويذكر الظلم ويحرمه كما قال -سبحانه-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، وقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40].

وقد أرسل الله بهذه الشريعة محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فجاءت في مظهر الكمال، الجامع للجلال والجمال؛ حيث جمعت بين العدل والشدة في الله، وبين اللين والرأفة والرحمة في الله، فشريعة موسى جاءت بالجلال، وشريعة عيسى جاءت بالجمال، وشريعة محمد جاءت بالكمال الجامع للجلال والجمال، ولهذا رضيها الله دينًا للبشر أجمع وصالحة للدنيا كلها بكافة أماكنها وأصناف عامريها، وبمختلف أزمانها إلى يوم القيامة.

وقد أثنى الله -عز وجل- على القرآن الكريم، وأخبر بأنه ذكر للعالمين بقوله -سبحانه-: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 27]، وأنه تذكرة للمتقين بقوله -سبحانه-: ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الحاقة: 48]، وأنه ذكر مبارك بقوله -سبحانه-: ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ [الأنبياء: 50].

فالقرآن الكريم ذكر للعالم أجمع، فهو المنهج الكامل الوحيد الذي يسعد اتباعه في الدنيا والآخرة، فهو هدى وذكرى لأهل الإيمان والتقوى، ويذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه على عباده، يذكر العباد بمصالحهم في معاشهم ومعادهم، وما أعد لأوليائه، وما أعد لأعدائه ليقبلوا على ما ينفعهم، ويحذروا مما يضرهم، وينافسوا في الخيرات، ويذكّرهم بنفوسهم وآفاتها، وما تكمل به، وبالأرواح وغذاءها، ويجلي لهم عدوهم، وما يريده منهم، وكيف يحترزون منه.

ويذكرهم بفاقتهم إلى ربهم وحاجتهم إليه، وأنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه لحظة أبدًا، ويذكرهم بنعم الله عليهم ليشكروه، ويذكرهم برحمته وعفوه ليقبلوا عليه، ويتوبوا إليه، ويذكرهم بأسه وشدة بطشه وانتقامه، ممن عصى أمره، وكذّب رسله، ليخافوه ويهابوه ويطيعوه، ويذكرهم بثوابه وعقابه، ويذكرهم بما يحل لهم وما يحرم عليهم، وما يحبه الرب وما يبغضه، ويذكرهم بصفات أوليائه ليفعلوها ويتحلوا بها، ويذكرهم بصفات أعدائه ليجتنبوها ويحذروا منها، ويذكرهم بعاقبة هؤلاء وهؤلاء.

إن القرآن الكريم خلاصة جاء ليبين للعباد ما يحبه الله وما يكره، وبيّن ما ينفع العباد مما يضرهم، ورسم لهم طريق الجنة من طريق النار.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله اللطيف الخبير، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: اعلموا أن القرآن الكريم موعظة وذكر ونذير وبشير، لهذا أمر الله عباده أن يذكروا ما في كتابه من المواعظ والشرائع والأحكام، وأن يأخذوها بقوة، قال -سبحانه-: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 171].

والقرآن ذكر للعالمين كلهم عامة وذكر للمتقين بصفة خاصة، فإنه ذكر للعموم بالصلاحية والقوة، وذكر لأهل الاستقامة بالحصول والنفع، والكون كتاب الله المنظور والقرآن كتاب الله المسطور، وكلاهما دليل على الخلاق العليم.

واعلموا -أيها المسلمون- أن القرآن قاد الأمة قديمًا وأدى دوره للبشرية التي آمنت به وحكَّمته، واستجابت لأوامره، فهذا القرآن خُوطبت به أمة حية ذات وجود، وواجهت به أحداثًا واقعية في حياة الأمة، واستقامت به حياة إنسانية في هذه الأرض، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس الإنسانية، وفي رقعة من الأرض كذلك، فكانت النتائج طيبة مباركة.

إن الكون يتحرك بأمر الله الكوني القدري، والإنسان كذلك يجب أن يتحرك بأمر الله الديني الشرعي، ليوافق الكائنات في العبادة والطاعة، فالكون له أوامر، والإنسان له أوامر، وكل إليه راجعون.

فهل نستفيد من القرآن كما استفاد الصحابة؟ وهل نعمل به كما عملوا لنسعد في الدنيا والآخرة؟ يا ويح البشرية إن الدواء والشفاء الذي يشفيها من عللها وأمراضها موجود بين أيديها، ولكنها لا تستفيد منه، فيما تبحث متخبطة لتتداوى بالداء، وتستقيه من بشر مثلها، قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(16)﴾ [المائدة: 15- 16].

إن الإعراض عن دواء القرآن مصيبة، وأعظم منها أن تطلب الأمة شفاءها وسعادتها فيما يزيد آلامها، ويوسّع جراحها، ويشقيها في الدنيا والآخرة، مما يخالف كتاب ربها وهدي نبيها، من قوانين الأمم الكافرة الأخرى، فماذا أعد الله لهؤلاء في الدنيا والآخرة؟ ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ [الرعد: 34].

وإن الإنسان ليعجب -أيها المسلمون- ما الذي دهى كثيرًا من المسلمين حتى رفعوا أحكام القرآن من واقع الحياة؟ وما الذي صرفهم عن مصدر عزهم وسعادتهم؟ لقد كان هذا القرآن العظيم هو مصدر المعرفة والتربية، والتوجيه والتكوين، لجيل من البشر فريد، وهو جيل الصحابة الكرام، فلقد أنشأ الله بمشيئته وقدرته بهذا الكتاب تلك المعجزة المجسمة في عالم البشر، وهم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي معجزة واقعة مشهودة، وذلك المجتمع الفريد كانت تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب العزيز.

عباد الله: إن المجتمعات التي تفوق المسلمين في الإمكانات المادية، لا تطاولهم في الإيمان والأخلاق الكريمة، وحياة اليوم كالأمس، فهل تُحَكِّمُ الأمة كتابَ ربها ليعزها ويرفع ما بها من ذل؟!! ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء:10]، ولما التمست الأمة الإسلامية عزتها عن طريق تقليدها للعالم الكافر وما عندهم من الحضارة البائدة، فلم تجنِ من ذلك سوى التخلف العقدي والانحطاط الخلقي، والسلوك البهائمي والشذوذ الفكري.

إن الأمة الإسلامية إذا هجرت كتاب ربها، وسكت العلماء عن بيان الحق وأحكام الدين، وقعد الدعاة عن نشر الدين بين الأمم، واشتغل الناس بالأموال والأشياء، وزهدوا في الإيمان والأعمال، وفقد الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ونقضت الأمة عهد ربها وميثاقه، إذا حصل هذا في الأمة فقد أحلت بنفسها غضب الله وسخطه، وتوفرت فيها موجبات العذاب، قال الله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44].

أيها المسلمون: إن في تعامل كثير من الناس اليوم مع هذا الركن العظيم -الإيمان بالكتب- أخطاء قد توردهم مهالك, وتزل بهم أقدام، فالذين لا يؤمنون بهذه الكتب، أو يفضلونها على القرآن الكريم، أو لا يصدقون بهذا الكتاب العظيم, أو يتهمون جبريل -عليه السلام-، أو محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في نقصه، أو عدم بيانه, أو يرون أن تعاليمه تعاليم بائدة أو وقتية, أو هو تراث خالد لا يعمل به، أو أن تعاليم البشر أفضل منه، ونحو ذلك فقد ضلوا ضلالاً بعيدًا، وكفروا كفرًا بواحًا.

أما أولئك الذين لا يقرؤونه ولا يتلونه, أو لا يحفظون شيئًا منه, أو يتساهلون في تطبيق بعض تعاليمه، فهؤلاء على خطر عظيم، فلينتبه هؤلاء وأولئك، وليستغلوا ما بقي من أعمارهم بالمراجعة، والمحاسبة قبل فوات الأوان, وقبل أن يقول القائل ليتنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول.

وختامًا -أيها المسلمون- القرآن العظيم أفضل الكتب، نزل به أفضل الملائكة وهو جبريل، وعلى أفضل الخلق وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، على أفضل أمة أُخرجت للناس وهي هذه الأمة، بأفضل الألسنة وأفصحها وهو اللسان العربي المبين، بأفضل شريعة وأكملها وهي ما فيه من الأحكام والسنن والآداب، لذا يجب على كل عبد الإيمان به، والعمل بأحكامه والتأدب بآدابه، وتلاوته على الدوام.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجِلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا حسن تلاوته، وحسن العمل به، وحسن الدعوة إليه.