العلمانية وخطرها

عناصر الخطبة

  1. وجوب تتبع طرق الشر والتحذير منها
  2. العلمانية ومفهومها
  3. أنواع الجاهلية   
  4. الفصل بين العقيدة، والسلوك والمعاملات هدف العلمانية
  5. حكم العلمانية
  6. بعض صور الإفساد العلماني.
اقتباس

لقد شاعت في دنيا المسلمين اليوم، فلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين منا ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات لو قدر لها أن تنتشر، لم تأت على شيء إلا جعلته كالرميم، ومن تلك الأفكار، الفكر الصليبي (غير الديني)، وهو ما يسمى بالعلمانية، التي تسربت إلى مجتمعات المسلمين، ولعل أحد التحديات الخطيرة، التي تواجه أهل السنة الجماعة في هذا العصر هي إسقاط اللافتات الزائفة، وكشف المقولات الغامضة، وفضح الشعارات الملتبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية، التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة…

الخطبة الأولى:

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي النجاة غدًا، والمنجاة أبدًا، والعاقبة للتقوى.

أيها المسلمون: لقد أنزل الله الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ففتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا، وبدد بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، فأصبحت عبادة الأصنام في ميزان المسلم إفكًا قديمًا، ويعجب المسلم فيما يعجب، من سخف المشركين، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا﴾ [الكهف:17].

عباد الله: غير أنه يجب أن نذكر دائمًا أن البلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين الإنس والجن مستمرون في ترويج الضلال، حتى زخرفوه بكل لون، وروجوا له بكل لسان: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام:112]، ومن الواجب أن نتتبع طرق الغي، بالتحذير منها وكشف مراميها وأبعادها، وسد السبل على دعاتها، حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين أو كيد الكائدين.

ولقد شاعت في دنيا المسلمين اليوم، فلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين منا ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات لو قدر لها أن تنتشر، لم تأت على شيء إلا جعلته كالرميم، ومن تلك الأفكار، الفكر الصليبي (غير الديني)، وهو ما يسمى بالعلمانية، التي تسربت إلى مجتمعات المسلمين، ولعل أحد التحديات الخطيرة، التي تواجه أهل السنة الجماعة في هذا العصر هي إسقاط اللافتات الزائفة، وكشف المقولات الغامضة، وفضح الشعارات الملتبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية، التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.

ومدلول هذا المصطلح وفكره، هو إقامة الحياة على غير دين، سواء بالنسبة للأمة أو الفرد، إن هذه العلمانية، لهي أكبر نقيض للتوحيد.

عباد الله: ولقد تغيرت بعض مظاهر العبادة، فلم يعد هناك تلك الأوثان التي كان العرب في شركهم يعبدونها، ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الأوثان القديمة أوثان أخرى، كالحزبية والقومية والعلمانية، والحرية الشخصية والجنس وغيرها… وعشرات الأوثان الجديدة، إن العلمانية- عباد الله – تعني بداهة : الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شرع الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة من الطواغيت من دون الله، فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة:44].

عباد الله: والجاهلية أنواع: منها جاهلية الإلحاد بالله سبحانه وإنكار وجوده، فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين، ومنها اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وهي جاهلية الاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين واليهود والنصارى، وفيها اعتراف بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية، مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم مسلمين من العلمانيين، ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحققوه بمجرد نطقهم بالشهادتين، وأدائهم للشعائر التعبدية، مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين، ومع استسلامهم لغير الله من العبيد.

عباد الله: والعلمانية تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة والتعامل مع غير الله وفق أمر غيره، وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله، لأن أهل الجاهلية الأولى لم ينكروا وجود الله، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان:25]، وكذلك لدى أهل الجاهلية الأولى بعض الشعائر التعبدية، قال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً﴾ [الأنعام:136]، ومع ذلك فقد حكم الله عليه بأن ذلك كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها صفرًا في ميزان الإسلام.

عباد الله: وكذلك فإن بيننا اليوم ممن يقولون: إنهم مسلمون، من يستنكرون وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية، وفي مجتمعنا الواسع أناس حاصلون على الشهادات العليا من بعض جامعات العالم، يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام واختلاط الرجال مع النساء على الشواطئ والمنتزهات؟! وما للإسلام وتعليم العلوم الطبيعية؟! وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها بدون محرم وتصرفها في شؤونها؟!.

وهم يتساءلون ثانيًا: بل بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! وما للدين والسياسة والحكم ؟! بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد أفسدته، فلا يذهبنّ بنا الترفع كثيرًا عن أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى، حين قالوا لنبي الله شعيب: (أَصلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا) [هود:87].

والعالم اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة وسلوك الشخص في الحياة والمعاملات المادية، تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ، أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بالتطرف!! أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعوا شعار: "الدين لله والوطن للجميع" من أدعياء الإسلام من العلمانيين، الذين أفسدوا البلاد والعباد؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.

أيها المسلمون: إن من عادة المنافقين من علمانيين وحداثيين وغيرهم من المنتسبين لهذا الدين، عدم الإنكار الصريح والواضح، وعدم إظهار العداء السافر للإسلام، وهم يتخذون سلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين، لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة، من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات، يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة قلوب القلة التي قد تفضحهم وتشوش عليهم وتكشفهم للناس، هؤلاء الذين يرفعون شعارات العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره ولكن رويدًا رويدًا، فهم يحرصون على كل طريق يوصل لوسائل الإعلام.

عباد الله: إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية، لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا ريب ولا التباس، ولكن الخفاء والريب والالتباس، إنما يحدث عمدًا من دعاة العلمانية أنفسهم، لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا اهتداء بجاهليتهم في بلاد المسلمين إلا من خلال راياتهم الزائفة، التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحقرهم ضد إخوانهم الصادقين الداعين بحقيقة هذا الصراع، المنبهين إلى خطرهم الداهم على الدين وأهله، ومن هؤلاء ـ عباد الله ـ يجب التوقي والحذر، وأن لا يغتر المسلمون بكونهم من بني جلدتهم ويتكلمون بلغتهم، فلقد جاء في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم" فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دَخَن"، قلت: وما دَخَنه؟ قال: "قوم يَسْتَنون بغير سنتي، ويَهْدُون بغير هديِي، تعرف منهم وتنكر" فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها" فقلت : يا رسول الله، صفهم لنا، قال: "نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا…" الحديث. وفي لفظ لمسلم: "وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جُثمان إنس"، ولقد صدق الله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص:41، 42].

نسأل الله أن يحفظ على المسلمين دينهم، وأن يكفيهم شر الأشرار، وكيد الفجار، وأن يرزقهم اليقظة من إفساد المفسدين ونفاق المنافقين.

وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولعموم المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: وللمستفهم أن يقول: كيف يكون بعض المسلمين دعاة على أبواب جهنم؟ فالجواب هو أنهم كذلك ببثهم الفساد والانحراف، وإشاعة الفاحشة في مثل صور فاتنة، أو مقالات تخدش الحياء، من خلال الصحافة مثلاً أو في مجال التعليم، بزرع المبادئ الهدامة بين الطلاب من خلال كوادر غير أمينة، أو من خلال منظري التطوير التعليمي في سائر البقاع، فيما يقدمونه من الحد والتقليص لما يقوي صبغة الله في نفوس الطلاب ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة:138]، أو التقليل من شأن العلوم الدينية، في مقابل الحرص الدؤوب على تكثيف ما عداها.

ويكون الإفساد ببث أفكار تسيء إلى الإسلام وأهله وتحارب الدعوة إليه، وتزدي الدعاة وتسخر منهم، وتنادي بعزل دين الناس عن دنياهم وهذا ما طالعتنا به جريدة محلية تدعى "الوطن" وهي بحق مثيرة الفتن، في عددها الصادر يوم الثلاثاء قبل الماضي السادس من شهر صفر، تحت عنوان: "دعاة لا معلمون"، لكاتب دعي حاقد على الدعوة والدعاة، ساءته حراسة الفضيلة قبل ذلك فقال فيما قاله: "إن سببًا رئيسًا أدى إلى تدني مستوى التعليم في بلادنا، وهو اهتمام كثير من المؤسسات والأفراد بما يسمى "الدعوة"، فأنكر المخيمات والمعارض الدعوية، إلى أن قال: "لهذا أصبحنا محاطين (بالدعوة) و(الدعاة) من كل جانب"، وينفر ممن يذكر الناس بالموت وأهمية الحجاب والجهاد والتحذير من الدجال والسحر، ويستنكر أن تدخل الدعوة في علوم الطبيعة والرياضيات، واتهم المناهج في بلادنا أنها هي السبب في وجود هؤلاء الدعاة، وكأنها جريمة لا تغتفر، حيث قال: "فقد اصطبغت الكتب الدراسية جميعها بصبغة دينية"، إلى أن قال مستنكراً: "فلا تدرس مادة اللغة الإنجليزية مثلاً ذاتها، بل لتكون وسيلة للدعوة إلى الله، وتمتلئ كتب هذه المادة بالحديث عن الإسلام" انتهى كلام هذا المغرض.

أيها المسلمون: إن هذا الحاقد على الدعوة والدعاة لا يعدو قدره، إلا أن الواجب على كل مسلم أن يقوم بما أوجب الله عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن دين الله، والإنكار على الجريدة، والرفع عنه لولاة الأمر لمحاسبته وتأديبه، ليتعظ هو نفسه، وليرتدع به غيره، أما أن يترك الحبل على الغارب لكل دعي جاهل ليحارب الإسلام في أرضه، دون أن يقف من أهل الغيرة أحد في وجهه ووجه كل من سانده و أعانه فلا يسوغ أبدًا: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ [سبأ:46]، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].

اللهم اصلح أحوالنا ..

بطاقة المادة

المؤلف إبراهيم بن محمد الفارس
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية