كثرة الخطباء وقلة العلماء في آخر الزمان

عناصر الخطبة

  1. كثرة الخطباء الجهلة في هذا الزمان وقلة العلماء
  2. التحذير من علماء السوء
  3. بعض صفات علماء السوء
  4. صفات العلماء والدعاة العاملين
  5. مكانة العلماء
اقتباس

الذين يخشون ربهم حقَّ خشيته؛ فإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- اخْتَصَّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ أَحَبَّ، فَهَدَاهُمْ لِلْإِيمَانَ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ أَحَبَّ، فَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ، فَعَلَّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَفَقَّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَعَلَّمَهُمُ التَّأْوِيلَ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ، رَفَعَهُمْ بِالْعِلْمِ، وَزَيَّنَهُمْ بِالْحِلْمِ، بِهِمْ يُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالضَّارُّ…

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)﴾ [الأحزاب: 70 – 71].

أما بعد:

فإن خيرَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

قال الصحابي الجليل عبدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ في زمن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-: "إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ؛ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ -أي علماؤه- قَلِيلٌ خُطَبَاؤُهُ، قَلِيلٌ سُؤَّالُهُ، كَثِيرٌ مُعْطُوهُ، الْعَمَلُ فِيهِ قَائِدٌ لِلْهَوَى، وَسَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكُمْ زَمَانٌ؛ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ، كَثِيرٌ سُؤَّالُهُ، قَلِيلٌ مُعْطُوهُ، الْهَوَى فِيهِ قَائِدٌ لِلْعَمَلِ، اعْلَمُوا أَنَّ حُسْنَ الْهَدْيِ، فِي آخِرِ الزَّمَانِ، خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ الْعَمَلِ" [الأدب المفرد، ص: 275، رقم: 789].

ولقد صدق ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-، فقد كثُرَ الخطباء في هذا الزمان، وقلَّ العلماءُ الفقهاء، واكتظَّت الفضائياتُ بالخطباءِ والمفتين والدعاة، وبالمفسرين للرؤى والأحلام، واختلط الحابلُ بالنابل، وأصبحَ الإنسان في حَيرةٍ من أمره، من هو العالم على الهدى ليؤخذَ من علمه، ومن أهلُ الضلالِ والهوى ليحذرهم، فأهل العلم ليسوا باللباس واللِّحى، وليسوا بما يقصُّونه من قَصصِ رقائقِ القلوبِ والبكاء، بل العلمُ الخشية، العلمُ مخافةُ اللهِ في السرِّ والعلن، العلمُ اتقاءُ الأعراضِ والأموالِ والدماء.

أمَّا ما يظهرُ للناس أنهُ العالِم! وهو في الحقيقة عَالِمُ الفتن، ومثيرُ الجدل، إنما هو جَاهِلٌ بِعِلْمِهِ مُفْتَتَنُ؛ فهذه صفاته؛ فاعلموا أنه "قَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ -المختارِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, وَعَنْ صَحَابَتِهِ -الأخيار- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-, وَعَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ -رَحِمَهُمُ اللَّهُ- بِصِفَةِ عُلَمَاءٍ فِي الظَّاهِرِ -الذين- لَمْ يَنْفَعْهُمُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ, مِمَّنْ طَلَبَهُ لِلْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ، وَالْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ, وَتَأَكَّلَ بِهِ -أموالَ- الْأَغْنِيَاءَ، وَ-ما- جَالَسَ بِهِ الْمُلُوكَ وَأَبْنَاءَ الْمُلُوكِ؛ -إلاَّ- لِيَنَالَ بِهِ الدُّنْيَا, فَهُوَ يَنْسِبُ نَفْسَهُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ, وَأَخْلَاقُهُ أَخْلَاقُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْجَفَاءِ, فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ, لِسَانُهُ لِسَانُ الْعُلَمَاءِ, وَعَمَلُهُ عَمَلُ السُّفَهَاءِ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 83، 84].

قال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُقَالُ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ, وَفِتْنَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ, فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 87].

وقال مَكْحُولٌ: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مَا يُوعَدُونَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمُهُمْ فِيهِمْ أَنْتَنَ مِنْ جِيفَةِ حِمَارٍ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 88].

-له رائحة منتنة يعرفها الناس من لسانه وفعاله-

وقال الْأَوْزَاعِيُّ: "كَانَ يُقَالُ: "وَيْلٌ لِلْمُتَفَقِّهِينَ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ, وَالْمُسْتَحِلِّينَ الْحُرُمَاتِ بِالشُّبُهَاتِ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 88].

وقال الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ الْعَالِمَ الْمُتَوَاضِعَ, وَيُبْغِضُ الْجَبَّارَ, وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ وَرَّثَهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 95].

وقال مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: "إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ أَشْهَبَ, لَا يُبْصِرُ زَمَانَكُمْ إِلَّا الْبَصِيرُ, إِنَّكُمْ فِي زَمَانِ نَفَخَاتِهِمْ؛ -نفخات علماء السوء- قَدِ انْتَفَخَتْ أَلْسِنَتُهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ, وَطَلَبُوا الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ, فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ, لَا يُوقِعُوكُمْ فِي شَبَكَاتِهِمْ, يَا عَالِمُ! أَنْتَ عَالِمٌ تَأْكُلُ بِعِلْمِكَ؟ يَا عَالِمُ! أَنْتَ تَفْخَرُ بِعِلْمِكَ؟ يَا عَالِمُ! أَنْتَ عَالِمٌ تُكَاثِرْ بِعِلْمِكَ؟ يَا عَالِمُ! أَنْتَ عَالِمٌ تَسْتَطِيلُ -أي تتكبر على غيرك- بِعِلْمِكَ؟ لَوْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ طَلَبْتَهُ لِلَّهِ لَرُئِيَ ذَلِكَ فِيكَ وَفِي عَمَلِكَ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 95].

وعَنْ سُفْيَانَ قَالَ: "أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِي الْمَسَائِلِ وَالْفُتْيَا, وَلَا يُفْتُونَ حَتَّى لَا يَجِدُوا بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتُوا" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 102].

وقَالَ سُفْيَانُ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسْأَلَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسْأَلَ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 104].

وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "إِنَّ شِرَارَ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمٌ يُحِبُّونَ شِرَارَ الْمَسَائِلِ, يُعَمُّونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 110].

فيحبون الإفتاء في سفك الدماء، وأكل الأموال، وهتك الأعراض.

إن بعضَ مَن حملَ العلمَ لم ينفعْهم اللَّهُ بِعلمهم: "فمَنْ كَانَتْ أَوْصَافُهُ وَأَخْلَاقُهُ الْأَخْلَاقَ الْمَذْمُومَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا, لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى هَذَا, وَاتَّبَعَ هَوَاهُ, وَتَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ وَتَجَبَّرَ, وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْعِلْمُ فِي قَلْبِهِ أَثَرًا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ, وَكَانَتْ أَخْلَاقُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ أَخْلَاقَ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْغَفْلَةِ, … فأَخْلَاقِهِ جَافِيَةِ, .. خَرَجَ عَنِ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ, وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ الَّتِي لَا تَحْسُنُ بِالْعُلَمَاءِ, عَلِمَ أَنَّهَا فِيهِ, وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ, لَا يُمْكِنْهُ دَفْعُ ذَلِكَ, وَاللَّهُ الْعَظِيمُ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّهِ.

فَمِنْ صِفَتِهِ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ هَمِّهِ مَعَاشَهُ, مِنْ حَيْثُ نُهِيَ عَنْهُ, مَخَافَةَ الْفَقْرِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ, لَا يَقْنَعُ بِمَا أُعْطِيَ, مُسْتَبْطِئًا لِمَا لَمْ يَجْرِ بِهِ الْمَقْدُورُ أَنْ يَكُونَ, شُغْلُ الدُّنْيَا دَائِمٌ فِي قَلْبِهِ, وَذِكْرُ الْآخِرَةِ خَطَرَاتٌ, يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِالتَّعَبِ، وَالْحِرْصِ وَالنَّصَبِ, وَيَطْلُبُ الْآخِرَةَ بِالتَّسْوِيفِ وَالْمُنَى. يَذْكُرُ الرَّجَاءَ عِنْدَ الذُّنُوبِ, فَيَطْلُبُ نَفْسَهُ بِالْمُقَامِ عَلَيْهَا, وَيَذْكُرُ الْعَجْزَ عِنْدَ الطَّاعَةِ حِينَ هَمَّ بِهَا, فَيَنْزَجِرُ عَنْهَا, وَيَظُنُّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ بِاللَّهِ الظَّنَّ, وَأَنَّهُ وَاثِقٌ بِهِ فِي الْعَفْوِ, وَلَمْ يُضْمَنْ لَهُ, وَلَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ, وَيَثِقُ بِهِ فِي الرِّزْقِ الَّذِي ضُمِنَ لَهُ, يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ, وَيُشْغَلُ بِطَلَبِ رِزْقِهِ, وَقَدْ أُمِرَ بِالطُّمَأْنَينَةِ فِيهِ إِلَى رَبِّهِ, وَيَطْمَئِنُّ وَيَسْكُنُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَوْتِ, وَقَدْ نُدِبَ إِلَى أَنْ يَخَافَهُ, وَلَا يَسْكُنُ عِنْدَ الْحَذَرِ وَالْخَوْفِ مِنْ أَجْلِ رِزْقِهِ, وَقَدْ ضُمِنَ لَهُ, وَأَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَفُوتَهُ مَا قُدِّرَ لَهُ, فَمَا أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْهُ يَخَافُهُ, وَمَا خَوَّفَهُ اللَّهُ مِنْهُ أَمِنَهُ، يَفْرَحُ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الدُّنْيَا, حَتَّى يَنْسَى بِفَرَحِهِ شُكْرَ رَبِّهِ, وَيَغْتَمُّ بِالْمَصَائِبِ حَتَّى تَشْغَلَهُ عَنِ الرِّضَى عَنْ رَبِّهِ, إِنْ نَابَتْهُ نَائِبَةٌ سَبَقَ إِلَى قَلْبِهِ الْفَزَعُ إِلَى الْعِبَادِ, وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ, يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ الْفَرَجَ إِذَا يَئِسَ مِنَ الْفَرَجِ مِنْ قِبَلِ الْخَلْقِ, فَإِنْ طَمِعَ فِي دُنُوٍّ إِلَى مَخْلُوقٍ نَسِيَ مَوْلَاهُ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 118- 119].

عالمُ السوءِ الذي لم ينتفعْ بعلمه؛ الذي يقفُ بأبوابِ السلاطين والأغنياء، وأصحابِ المناصبِ وذوي الجاه، لا ليأمرَ بالمعروف بمعروف، ولا لينهى عن المنكر بلا منكر، ولا ليلقيَ نصحية، أو يقدمَ استشارة، بل "سَكَتَ عَنْ قَبِيحِ مَا يَظْهَرُ مِنْ مَنَاكِيرِهِمْ عَلَى أَبْوَابِهِمْ, وَفِي مَنَازِلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، ثُمَّ زَيَّنَ لَهُمْ كَثِيرًا مِنْ قَبِيحِ فِعَالِهِمْ بِتَأْوِيلِهِ الْخَطَأَ, لِيَحْسُنَ مَوْقِعُهُ عِنْدَهُمْ , فَلَمَّا فَعَلَ هَذَا مُدَّةً طَوِيلَةً, وَاسْتَحْكَمَ فِيهِ الْفَسَادُ, وَلُّوهُ الْقَضَاءَ, فَذَبَحُوهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ, فَصَارَتْ لَهُمْ عَلَيْهِ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ, وَوَجَبَ عَلَيْهِ شُكْرُهُمْ, فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ, لِئَلَّا يُغْضِبَهُمْ عَلَيْهِ, فَيَعْزِلُوهُ عَنِ الْقَضَاءِ, وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى غَضِبِ مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ, فَاقْتَطَعَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى, وَالْأَرَامِلِ وَالْفُقَرَاءِ, وَالْمَسَاكِينِ, وَأَمْوَالَ الْوُقُوفِ، … وَأَمْوَالًا يَعُودُ نَفْعُهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ, فَأَرْضَى بِهَا الْكَاتِبَ وَالْحَاجِبَ وَالْخَادِمَ, فَأَكَلَ الْحَرَامَ, وَأَطْعَمَ الْحَرَامَ, وَكَثُرَ الدَّاعِي عَلَيْهِ, فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَوْرَثَهُ عِلْمُهُ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 122].

وليس من صفات العلماءِ الشعارات، والرايات والانتماءات، فهذه "من سمات أهل البدع، حيث إنهم اتخذوا رؤوسًا جهَّالا، والداعيةُ عندهم -أعني أهل الأهواء والبدع- هو من يخضع لأهوائهم، ويلتزم بآرائهم، ويقول بمقولاتهم، وينشر منشوراتهم وينتصر لها، ولو لم يفقه من الدين شيئا.

ونجد هذا جليًّا في الفِرَق الأولى؛ كالخوارج، فإن دعاتهم ليسوا العلماءَ الأكابر، لا فيهم ولا من غيرهم، بل بضاعتهم في الفقهِ والعلمِ قليلة، وعلى غير طرقٍ سليمة، -ومن قادتهم ذو الخويصرةَ التميميّ، وعبدُ الرحمن بن ملجم قاتلُ عليّ، رضي الله عن أمير المؤمنين علي-.

وكذلك الرافضة؛ دعاتُهم جهالُهم، بل أجهلُ الناسِ وأقلُّهم أحلاما -وأولهم عبدُ الله بن سبأ-.

وهكذا المعتزلةُ -وهم أتباع واصلِ بنِ عطاءٍ الغزَّال، وهو الذي اعتزل مجلسَ العالمِ الجليلِ الحسنِ البصريّ، في مسألة صاحبِ الكبيرة فقط، فنسبت إليه الفرقة-.

والقدرية -وهم الذين يقولون لا قدر، ويجعلون العبدَ خالقَ فعلِ نفسه، وأول من أحدث هذه البدعة فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فِي آخِرِ عصر الصحابة [مختصر معارج القبول، ص: 291].

والجهميةُ، قائدهم جهمُ بن صفوان السمرقنديّ، الضالُّ الذي أخذ مقالته في التعطيل عن الجعد بن درهم، وأخذها الجعدُ عن أبانَ بنِ سمعان، عن طالوتَ عن لبيدٍ الساحر اليهوديّ.

فهذه السلسة الشيطانة.

والقرامطةُ الباطنيّة، نسبة إلى حمدان قرمط، وسموا بالباطنية؛ لزعمهم أن للنصوص ظاهراً عند العامة، وباطناً عند الخاصة [شرح الرسالة التدمرية، للخميس، ص: 102].

وأهل الكلام، وسائر الفرق على هذه السمةِ -غالبا- على تفاوتٍ بينهم.

إنهم يقلُّ فيهم الفقهُ في الدين.

وأكثرُ زعمائِهم ودعاتِهم إنما يمتازون بالولاء لفرقتهم، وبالولاءِ للمقولاتِ التي هم عليها، ولا يفقهون من الدين إلا القليل، ومنهم من لا يفقه شيئا.

وأغلبُ دعاةِ هذه الفرقِ والذين نشروها في الأقاليم الإسلامية قديما من العوامّ، ومن الجهلة، أو الذين لهم أهدافٌ وأغراضٌ شخصيَّةٌ أو شعوبيَّة، أو عصبيَّاتٌ ويسيطرُ عليهم الجهل المهلك.

-وسببُ ذلك الانحطاطِ والبعدِ عن دين الله- اتخاذُهم رؤوسا جهالا -أغلبهم- لا يفقهون من الدين إلا ما يحلو لهم. وغاية ما يملك بعضهم من العلم؛ إنما هو مجردُ أفكار وثقافات أشتات، زادُ كثيرٍ منهم مجردُ العواطف والحركة، حتى كادَ أن يكونَ مصطلحُ الداعي  -إلى الله- عندهم من ليس بعالم، وأنَ العالمَ ليس بداعٍ -إلى الله-.

وأحيانا يقولون: فلان داعيةٌ -أي ليس بعالم-، وفلان شيخ من المشايخ -أي ليس بداعية!- وهذا وقوعٌ فيما حذر منه رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" [صحيح البخاري: 100].

إنَّ قلَّةَ وجودِ العلماء والمشايخ، والمتفقهين في الدين، المتضلِّعين في العلوم الشرعية بينهم، في أكثر الدعوات المعاصرة، مع أن وجودَ أهل العلمِ المتفقهين في الدين شرطٌ من شروطِ الدعوةِ إلى الله -سبحانه وتعالى-، خاصة في الدعواتِ الكبرى، التي ينضوي تحتَ لوائها جماعاتٌ وفئامٌ من الناس، فهذهِ لا ينبغي أنْ يُفْقدَ فيها العالم، أو أن يكونَ العالمُ فيها مغموراً، أو لا يتصدر الدعوة.

إنّ في بعض الدعوات، تجدُ قادتَهم على قلّةٍ في الفقهِ، وضعفٍ في العلم، أو تتلمذوا، واتخذوا شيوخَهم من الأصاغر، وقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك حيث قال: "إن من أشراط الساعة: أن يُلتمسَ العلمُ عندَ الأصاغر" [الصحيحة: 695].

وهذا -والله أعلم- يشمل الأصاغر في العلم، والقدر والسن.

-وممن جعلوا أنفسهم علماء، وتصدروا للدعوة والإفتاء، طائفة يتخذون شيوخَهم الأشرطةَ والأسطواناتِ الممغنطة، والجرائدَ والمجلات، والشبكاتِ العنكبوتيةِ والفضائيات، فكلُّ ذلك لو حُفِظَ عن ظهرِ قلبٍ لا يؤهِّلُ أحدًا للتصدُّر للفتوى والدعوةِ دونَ أخذِ العلمِ عن العلماءِ مشافهة-.

وطائفةٌ يتخذونَ شيوخَهم كتبَهم، وما يرشِّحونه من كتبٍ فكريةٍ أو ثقافية، وأغلبُ ما تعتمد هذه الجماعات على الكتب الفكريةِ والثقافيةِ، أكثرُ من الكتبِ الشرعية، بل فيهم من يتنكَّرُ لكتبِ السلفِ الصالح" [بتصرف من محاضرة: العلماء هم الدعاة، د/ ناصر بن عبد الكريم العقل].

إنّ بعضَ العلماء يكون علمُهم وبالاً عليهم، وهم الذين يأمرون الناسَ بالبرِّ وينسونَ أنفسهم، وهم الذين يقولون ما لا يفعلون، وهم أتباعُ بلعام بن باعوراء؛ الذي كان يأمر وينهى ويخالف الأمر والنهي، عن أُسَامَةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ -أي أمعاؤه- فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ مَا شَأْنُكَ؟! أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟! قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ" [البخاري: 3267، مسلم: 2989].

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يعقلون" [مسند أحمد: 21/ 158، ح 13515، الصحيحة: 291].

أما العلماءُ الذين هم العلماء بحقٍّ وحقيقة، الذين يخشون ربهم حقَّ خشيته؛ فإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وعظُمت صفاتُه- اخْتَصَّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ أَحَبَّ، فَهَدَاهُمْ لِلْإِيمَانَ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ أَحَبَّ، فَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ، فَعَلَّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَفَقَّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَعَلَّمَهُمُ التَّأْوِيلَ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ، رَفَعَهُمْ بِالْعِلْمِ، وَزَيَّنَهُمْ بِالْحِلْمِ، بِهِمْ يُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالضَّارُّ مِنَ النَّافِعِ، وَالْحَسَنُ مِنَ القْبَيِحِ.

فَضْلُهُمْ عَظِيمٌ، وَخَطَرُهُمْ جَزِيلٌ، وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقُرَّةُ عَيْنِ الْأَوْلِياَءِ، الْحِيتَانُ والأسماكُ فِي الْبِحَارِ لَهُمْ تَسْتَغْفِرُ، وَالْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا لَهُمْ تَخْضَعُ، وَالْعُلَمَاءُ فِي الْقِيَامَةِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ تَشْفَعُ، مَجَالِسُهُمْ تُفِيدُ الْحِكْمَةَ، وَبِأَعْمَالِهِمْ يَنْزَجِرُ أَهْلُ الْغَفْلَةِ، هُمْ أَفْضَلُ مَنْ الْعُبَّادِ، وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الزُّهَّادِ -رتبتهم أعلى من أهل الجهاد-، حَيَاتُهُمْ غَنِيمَةٌ، وَمَوْتُهُمْ مُصِيبَةٌ، يُذَكِّرُونَ الْغَافِلَ، وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ، لَا يُتَوَقَّعُ لَهُمْ بَائِقَةٌ، وَلَا يُخَافُ مِنْهُمْ غَائِلَةٌ، بِحُسْنِ تَأْدِيبِهِمْ يَتَنَازَعُ الْمُطِيعُونَ، وَبِجَمِيلِ مَوْعِظَتِهِمْ يَرْجِعُ الْمُقَصِّرُونَ، جَمِيعُ الْخَلْقِ إِلَى عِلْمِهِمْ مُحْتَاجٌ، وَالصَّحِيحُ عَلَى مَنْ خَالَفَ بِقَوْلِهِمْ مِحْجَاجٌ، الطاَّعَةُ لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَاجِبَةٌ، وَالْمَعْصِيَةُ لَهُمْ مُحَرَّمَةٌ، مَنْ أَطَاعَهُمْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمْ عَنَدَ، مَا وَرَدَ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ -وسلطانِهم- مِنْ أَمْرٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَقَفَ فِيهِ؛ فَبِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ يَعْمَلُ، وَعَنْ رَأْيِهِمْ يَصْدُرُ، وَمَاَ وَرَدَ عَلَى أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حُكْمٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ؛ فَبِقَوْلِهِمْ يَعْمَلُونَ، وَعَنْ رَأْيِهِمْ يَصْدُرُونَ، وَمَا أَشْكَلَ عَلَى قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حُكْمٍ؛ فَبِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ يَحْكُمُونَ، وَعَلَيْهِ يُعَوِّلُونَ، فَهُمْ سِرَاجُ الْعِبَادِ، وَمَنَارُ الْبِلَادِ، وَقِوَامُ الْأُمَّةِ، وَيَنابِيعُ الْحِكْمَةِ، هُمْ غَيْظُ الشَّيْطَانِ، بِهِمْ تَحْيَا قُلُوبُ أَهْلِ الْحَقِّ -والإيمان-، وَتَمُوتُ قُلُوبُ أَهْلِ الزَّيْغِ -والطغيان-، مَثَلُهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، إِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ تَحَيَّرُوا، وَإِذَا أَسْفَرَ عَنْهَا الظَّلُامُ أَبْصَرُوا" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 15- 17].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.

وبعد:

"إنهم العلماء؛ أهلُ الحكمة، قال اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 269].

قَالَ مُجَاهِدٌ: "الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 19].

هم أهلُ الموعظةِ الحسنة، وهم أهل الجدال بالتي هي أحسن "فمَنْ كَانَتْ صِفَاتُهُ فِي عِلْمِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَخْلَاقِهِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-؛ أَنْ يَأْمَنَ شَرَّهُ مَنْ خَالَطَهُ, وَيَأْمَلَ خَيْرَهُ مَنْ صَاحَبَهُ, لَا يُؤَاخِذُ بِالْعَثَرَاتِ, وَلَا يُشِيعُ الذُّنُوبَ عَنْ غَيْرِهِ -والزلاّت-, وَلَا يَقْطَعُ بِالأخبار -الكاذبات- والْبَلَاغَاتِ, وَلَا يُفْشِي سِرَّ مَنْ عَادَاهُ, وَلَا يَنْتَصِرُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْهُ, ذَلِيلٌ لِلْحَقِّ, عَزِيزٌ عَنِ الْبَاطِلِ, كَاظِمٌ لِلْغَيْظِ عَمَّنْ آذَاهُ, شَدِيدُ الْبُغْضِ لِمَنْ عَصَى مَوْلَاهُ, يُجِيبُ السَّفِيهَ بِالصَّمْتِ عَنْهُ, وَالْعَالِمَ بِالْقَبُولِ مِنْهُ, لَا مُدَاهِنٌ وَلَا مُشَاحِنٌ، وَلَا مُخْتَالٌ وَلَا حَسُودٌ وَلَا حَقُودٌ, وَلَا سَفِيهٌ وَلَا جَافٍ, وَلَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ, وَلَا طَعَّانٌ وَلَا لَعَّانٌ, وَلَا مُغْتَابٌ وَلَا سَبَّابٌ. يُخَالِطُ مِنَ الْإِخْوَانِ -والأصحاب- مَنْ عَاوَنَهُ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ, وَنَهَاهُ عَمَّا يَكْرَهُ مَوْلَاهُ, وَيُخَالِقُ بِالْجَمِيلِ لَا يَأْمَنُ شَرَّهُ, إِبْقَاءً عَلَى دِينِهِ, سَلِيمُ الْقَلْبِ لِلْعِبَادِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ, يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ مَا أَمْكَنَ فِيهِ الْعُذْرُ, لَا يُحِبُّ زَوَالَ النِّعَمِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ, يُدَارِي جَهْلَ مَنْ عَامَلَهُ بِرِفْقِهِ, إِذَا تَعَجَّبَ مِنْ جَهْلِ غَيْرِهِ، ذَكَرَ أَنَّ جَهْلَهُ أَكْثَرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ, لَا يَتَوَقَّعُ لَهُ بَائِقَةً, وَلَا يَخَافُ مِنْهُ غَائِلَةً, النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ, وَنَفْسُهُ مِنْهُ فِي جَهْدٍ" [مَنْ أخلاق العلماء، للآجري، ص: 64- 65].

قَالَ مَسْرُوقٌ: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَخْشَى اللَّهَ, وَبِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الْجَهْلِ أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 70].

وقال يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ: "الْعَالِمُ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ, وَخَشْيَةُ اللَّهِ الْوَرَعُ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 70].

وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقَّ الْفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ, وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ, وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مَكْرَ اللَّهِ, وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ إِلَى غَيْرِهِ, وَلَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ, وَلَا خَيْرَ فِي تَفَقُّهٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ, وَلَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ" [أخلاق العلماء، للآجري، ص: 72].

هذا هو العالم الفقيه.

فمَنْ هُم العلماءُ الذين لحومهم مسمومة، وأعراضهم مصونة، إنهم "العالمون بشرع الله، والمتفقهون في الدين، والعاملون بعلمهم على هدًى وبصيرة، على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسلفِ الأمَّة، الداعون إلى الله بالحكمة التي وهبهم الله إياها: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269].

والحكمة، العلم والفقه.

هم ورثة الأنبياء، … والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، إنما ورثوا هذا العلم".

إنهم حُجَّةُ اللهِ، في أرضِ اللهِ، على خَلْقِ الله.

"العلماء هم أهلُ الحلِّ والعقدِ في الأمَّة، وهم أولوا الأمرِ الذين تجبُ طاعتهم، قال تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].

قال مجاهد: هم أولوا العلم والفقه.

العلماء هم المؤتمنون على مصالحِ الأمَّةِ العظمى؛ على دينها، وعلى دنياها وأمنها.

العلماء هم أهلُ الشورى الذين تَرجِعُ إليهم الأمَّةُ في جميع شئونها ومصالحها -في دينها ودنياها-.

العلماء هم أئمةُ الدين، والإمامةُ في الدين فضلٌ عظيم، وشرفٌ ومنزلةٌ رفيعة، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].

إنهم أهلُ الذكر من العِباد الذين يستفتيهم الناس ويسألونهم، كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].

العلماء أفضلُ الناس لرِفْعة مكانتهم عند الله، كما قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].

العلماء هم أزكى الناس، وأخشاهم لله، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].

وهم الأجدرُ أن يكونوا همُ القادة والسادة، والرُّوَّادُ في الدعوة إلى الله -تعالى-.

العلماء هم الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر بالعلم والحكمة، والموعظة الحسنة.

العلماء هم شهداءُ الله على الناس، الذين أشهدهم الله على توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته -سبحانه- وبشهادة ملائكته؛ وفي هذا تزكيتُهم وتعديلُهم، فقال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ) [آل عمران: 18].

أهلُ العلم؛ لهم سَمْتٌ أساسُه التواضع -وأصله عدم التكبُّرِ والتجبُّر على الناس، وبالتالي- لهم حقٌّ على الأمة -بالاحترام والتوقير، والسمعِ والطاعةِ، والاتباع والتقدير-.

العلماء لا يرفعونَ فوقَ رؤوسهم رايات، ولا يضعون لهم شعارات، ولا يطلبون لأنفسهم انتماءات، ونحو ذلك مما هو من لوازم بعض الدعوات والحركات.

فالعلماء يجبُ على الأمَّةِ أن تلتفَّ حولهم، وعلى عامَّةِ الناس أن يقصدوهم، وطلبةُ العلم بخاصة أن يلازموهم".

إنهم من أشدِّ الناسِ خشيةً لله -سبحانه-، فلا يحلُّون ما حرَّم الله، ولا يحرِّمون ما أحلَّ الله، مهما كان من  إغراءٍ أو إكراه، إنهم أرحمُ الناس بالناس، وأبعدُ الناس عن أموال الناس، وأعراضهم ودمائهم.

إنهم خيار الناس فهم "الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ" [الأدب المفرد: 323].

إنهم الذين فقَّههم الله في الدين، وبصَّرَهم بالشريعة، وهداهم إلى الصراط المستقيم، والمنهاج القويم، والشرعة السوية.

يقولون الحقَّ ولو على أنفسهم والأقربين، بالحكمة والموعظة الحسنة، لم يؤثِّر فيهم هوىً أو انتماء، ولم يميلوا إلى فكرةٍ أو حركة، لم يطمعوا لجاهٍ أو مالٍ أو سلطان، هؤلاء اليوم قِلَّةٌ قليلةٌ بهذه الصفات، ولكنَّ بركاتِهم كبيرة، وأعمالَهم كثيرة، والناس في النهاية يرجعون إلى أقوالهم ويستنيرون بآرائهم، فإذا ماتوا، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.

عباد الله: ألا أنبئكم بالعالم الفقيه؟

إنَّه مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَيِّسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَلَا يَدَعُ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى مَا سِوَاهُ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ، وَلَا عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، وَلَا قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ.

اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْأَرْبَعِ, مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ, وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ, وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ, وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ.

وأقم الصلاة.

بطاقة المادة

المؤلف فؤاد بن يوسف أبو سعيد
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية