أهمية التأريخ الهجري وفضل محرم وعاشوراء

عناصر الخطبة

  1. في تعاقب الليل والنهار حكم وفوائد
  2. وجوب اعتبار الأهلة في العبادات
  3. قصة بداية التأريخ الهجري
  4. مفاسد الاعتماد على التأريخ الإفرنجي
  5. فضائل شهر الله المحرم
  6. فضل صيام يوم عاشوراء
اقتباس

لما ظهر في الأمة داء الوهن والضعف, وأصابها العجز والكسل, وتسلط عليها أعداؤها المستعمرون, وأذنابهم المنافقون, فمزقوها شرّ ممزق, وكان من جملة ما ذهب من أساس شخصيتها وعلامات تميزها: التأريخ العربي الإسلامي الهجري, فاستبدل كثير من أبناء الأمة ودولها الذي هو أدنى بالذي هو خير, فأصبح التأريخ الهجري الإسلامي مجهولاً مغموراً, وأصبح التأريخ النصراني الإفرنجي مشهوراً معروفاً. وقد ترتب على هذا التبديل مفاسد كثيرة, منها: عزل أبناء الأمة عن تاريخهم وأمجادهم, وأسلافهم وسالف حضارتهم وعزهم.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، مقلّب القلوب والأبصار، جعل مواقيت للأعمال ومقادير للأعمار، وسخّر الشمس والقمر يجريان بحسبان ومقدار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبرئ قائلها من الشرك بصحة الإقرار، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأطهار وسلم تسليماً.

أما بعد: فيا أيها المؤمنون, اتقوا الله حق تقاته, بامتثال أوامره واجتناب زواجره, فإنها وصيته تعالى للأولين والآخرين.

أيها المؤمنون, إن الله -جل ذكره- خلق الشمس والقمر, وجعل الليل والنهار لحِكَم عديدة, وفوائد كثيرة, ذكرها الله –تعالى- في كتابه الحكيم, في أماكن متفرقة, فمن تلك الحكم والفوائد: أن يعلم الناس من اختلافهما وتعاقبهما وسيرهما في منازلهما عددَ السنين والحساب, وتغيرَ الفصول والبروج, قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ [الإسراء: 12]، وقال عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 5]، فجعل –تعالى- معرفة السنين والشهور مستفادة من سير القمر وتنقله في منازله, وذلك من نعم الله على عباده, ورحمته بهم.

عباد الله: جعل الله الحساب الشرعي الذي ترتبط به عبادات الناس مبنياً على سير القمر, قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]، فهذه الآية العظيمة التي يشاهدها الناس في سمائهم، يبدو الهلال صغيراً في أول الشهر, ثم يتزايد إلى التمام في نصفه, ثم يشرع في النقص وإلى الغياب والزوال في آخر الشهر, وبها يعرف الناس مواقيت عباداتهم, من الصيام, والحج, وأوقات الزكاة, والكفَّارات, وغير ذلك من السنن والمكتوبات.

 عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ. (أخرجه البخاري ومسلم).

عباد الله: فجعل الله اعتبار الأهلة في العبادات هي الشريعة التي جاء بها الأنبياء جميعاً, ولكن اليهود والنصارى حرّفوا ذلك.

أيها المؤمنون, لقد كانت العرب في جاهليتها تؤرّخ بأيامها وأحداثها الكبار, ووقائعها العظام, واستمر ذلك في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-, وخلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-, وأوائل خلافة عمر الفاروق -رضي الله عنه-, ثم إنه مع اتساع الخلافة, توافرت أسباب البحث عن تأريخ يعمل به المسلمون, يجتمعون عليه, فجمع عمر الناس سنة: ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة, فشاورهم من أين يبدأ التأريخ؟ فقال بعضهم: من بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- , وقال آخرون: من متوفاه -صلى الله عليه وسلم- , فقال عمر -رضي الله عنه-: من خروجه -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة, فاتفقوا على ذلك.

ثم إنهم تشاوروا في أي شهر تبدأ السنة, فاتفقوا على أن يكون شهر الله المحرم هو أول الشهور في السنة, وقال بعض أهل العلم: "إن الصحابة -رضي الله عنهم- أخذوا التأريخ بالهجرة من قول الله –تعالى- ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 108], ومهما يكن من أمر, فقد استقر هذا التأريخ في أمة الإسلام, منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا, وأصبح التأريخ بالهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة, كما تميزت به أمة الإسلام عن غيرها من الأمم.

عباد الله: فلما ظهر في الأمة داء الوهن والضعف, وأصابها العجز والكسل, وتسلط عليها أعداؤها المستعمرون, وأذنابهم المنافقون, فمزقوها شرّ ممزق, وكان من جملة ما ذهب من أساس شخصيتها وعلامات تميزها: التأريخ العربي الإسلامي الهجري, فاستبدل كثير من أبناء الأمة ودولها الذي هو أدنى بالذي هو خير, فأصبح التأريخ الهجري الإسلامي مجهولاً مغموراً, وأصبح التأريخ النصراني الإفرنجي مشهوراً معروفاً. وقد ترتب على هذا التبديل مفاسد كثيرة, منها: عزل أبناء الأمة عن تاريخهم وأمجادهم, وأسلافهم وسالف حضارتهم وعزهم.

أيها المسلمون: ومن مفاسد الاعتماد على التأريخ الإفرنجي, وجعله هو الأصل في حياة الأمة وتعاملاتها: ضياع كثير من الشعائر التعبدية, والمعالم الشرعية, فلا يدري المسلم على سبيل المثال متى الأيام البيض, التي رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في صيامها, ولا يعرف ما هي الأشهر الحرم, التي أوجب الله على المؤمنين احترامها وتعظيمها, ولا يعلم ما هي أشهر الحج, التي يُفعل فيها، وغير ذلك من العبادات.

ومن مفاسد التأريخ بتأريخ النصارى الميلادي, وجعله أصلاً في ذلك: الوقوع في الإثم العظيم, والذنب الكبير, الذي نهى الله ورسوله عنه, وهو التشبه بالكفار وتقليدهم, والتبعية لهم, ففيه قول الله تعالى: ﴿ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾[المائدة: 48]، وقال -عزَّ وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ".

عباد الله: فالتأريخ بتأريخ النصارى الميلادي لا يجوز إلا لحاجة, أو تبعاً للتأريخ الهجري, فاحرصوا -بارك الله فيكم- على المحافظة على معالم شخصية أمتكم, وإياكم والتشبه بأعداء الله؛ من اليهود والنصارى والمشركين, والمنافقين والعلمانيين, وغيرهم, فإن الله قد حذركم من ذلك غاية التحذير, فقال جل ذكره: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51].

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما قد سمعتم وأستغفر الله …..

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله إلهَ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 أما بعدُ: فيا أيها المؤمنون, أنتم في شهر عظيم, شرّفه الله –تعالى- وخصه دون سائر الشهور, بأن أضافه إليه, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ" (أخرجه أحمد وابن ماجه، وقال الألباني: حديث صحيح).

فاحفظوا حرمة هذا الشهر يا عباد الله, فإنه من الأشهر الحرم, فبادروا عباد الله بالأعمال الصالحة فيه, لاسيما الصيام.

فأكثروا في هذا الشهر من الصوم, فإن ضعفتم عن ذلك فلا يفوتنكم صيام يوم عاشوراء, فإنه شرع لنا فيه الصيام؛ تقربًا إلى الله –سبحانه-، وشكرًا على نجاة موسى عليه السلام، لهذا صامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصامه أصحابه -رضي الله عنهم-.

عباد الله: ولقد سن لنا نبينا أيضًا صيام اليوم التاسع من هذا الشهر، ففي الحديث الذي أخرجه مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» أي: إن عشت إلى العام المقبل لأصومن التاسع أيضًا، ولكنه مات قبل أن يصومه -صلى الله عليه وسلم-، لهذا يُسنّ صيام هذين اليومين التاسع والعاشر من محرم، فقد رتب الله –سبحانه- على صيامهما أجرًا عظيمًا، فقد ذكر -صلى الله عليه وسلم- أن صيام عاشوراء يُكفِّر السنة التي قبله، فيا له من فضل عظيم.

فصوموا -أيها المؤمنون- اليوم العاشر من هذا الشهر, وصوموا اليوم التاسع, كما هَمَّ نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أن يفعل ذلك.

عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله..