آداب الاستئذان حصن حصين من أن تشيع الفاحشة بين المحارم

عناصر الخطبة

  1. أهمية أدب الاستئذان
  2. ضرورة استئذان الزائر قبل دخول بيت المزور
  3. صيغة الاستئذان وأجر من لم يؤذن له
  4. تحريم التطلع والنظر إلى بيوت الغير
  5. استئذان المحارم على بعضهم البعض
  6. إسلام المنصفين من الكفار بعد معرفتهم على أدب الاستئذان
  7. وجوب استئذان على الأعمى
  8. استحباب استئذان الزوج على زوجته
اقتباس

أدبٌ لو فقهه الكفار وحده لأسلموا، رفَع فيه الإسلام الأسرةَ المسلمة إلى أعلى قمم الطهارة والعفاف والستر، بل والذوْق بين الأمم قاطبة. والاستئذان قسْمان: قسمٌ للزائرين ممّن هم يأتون من خارج أهل البيت، وقسمٌ: استئذان أهل البيت بعضهم بعضا. فأما…

الخطبة الأولى:

إخوة الإيمان: من خير أهل الإيمان عند الله -تعالى- أهل الأخلاق العالية؛ يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: “إنَّ خِيارَكم أحاسِنُكم أَخلاقًا“.

ومن آداب الإسلام الراقية: أدبُ الاستئذان، أدبٌ لو فقهه الكفار وحده لأسلموا، رفَع فيه الإسلام الأسرةَ المسلمة إلى أعلى قمم الطهارة والعفاف والستر، بل والذوْق بين الأمم قاطبة.

والاستئذان قسْمان: قسمٌ للزائرين ممّن هم يأتون من خارج أهل البيت، وقسمٌ: استئذان أهل البيت بعضهم بعضا.

فأما القسم الأول: استئذان الأقارب والأرحام والزوار؛ جاءت امرأةٌ من الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فقالت: “يا رسول الله إنِّي أكون في بيتي على حالٍ لا أحبُّ أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل عليَّ، وإنَّه لا يزال يدخل عليَّ رجلٌ من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فأنزل الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)﴾ [النور: 27 – 29].

والذي يأتي من خارج البيت إمَّا أن يكون من أهل البيت، أو من الأقارب والزائرين، فإن كان من أهل البيت، وجَب عليه أن يُشعر أهله بقدومه عند دخوله؛ قال تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: 61]، ومعنى: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي سلِّموا على أهليكم، فالداخل إلى بيته حين يسلِّم على أهله فكأنما سلَّم على نفسه، فهم جزءٌ منه؛ ولذلك من وصايا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لخادمه أنس بن مالك -رضِي الله عنْه- قال له: “يا بنيَّ! إذا دخلتَ على أهلك فسلِّم، يكن بركةً عليك، وعلى أهل بيتك“.

وإذا كان الداخل من الأقارب والزائرين فإنه يجِبُ عليه الاستئذان، لا يدخل حتَّى يُؤذَن له، فلا يدخل الرجل دارَ أخيه أو أخته، أو دار عمِّه أو خاله، أو دار ابنه أو ابنته دون استِئذانِ مَن في الدار، لا بُدَّ أن يترك لهم فرصةَ الاستِعداد لاستِقباله، روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: “الاستئذان ثلاث فإن أُذن لك وإلا فارجع”، قال مالك: “الاستئذان ثلاث لا أحب أن يزيد أحد عليها إلا من عَلِم أنه لم يُسمَع، فلا أرى بأساً أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع“.

وصورة الاستئذان: أن يقول الرجل: السلام عليكم أأدخل؟ فإن أُذن له دخل، وإلا انصرف من بعد الثلاث.

وهنا لطيفة غاية في الأهمية لنعْلمها ولنرْض بها: فاعلم أن عوْدتك ورجوعك من باب من لم يأذن لك أنت مأجورٌ على هذا الرجوع، فرجوعك بعد الثلاث، ذلك امتثالا وطاعة لله، يأجرك الله عليه ويثيبك، فلا يحمل الشيطان الكره في قلبك على من لم يأذن لك، فلعلّه أشرف لك -أيها الزائر- العوْدة من الدخول واللقاء، ولعلّه يرغب لك عدم الأذى، ولعلّه أكمل وأشرف لأهل الدار من أن يُرى منهم وضْعاً، السّتر في حقهم أحبّ وأشرف، فأحوال الناس كثيرة والظروف متغيرة، وخذ الجانب الحسن، فهو أكمل وأشرف للجميع، قال تعالى: ﴿وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ [النور: 28].

وعلى أهل البيت أن يجعلوا ستراً على بابهم، لئلا تُكشف عوراتهم، وتظهر سوءاتهم، وعلى المُستأذن أن يطرق الباب برفق ولين بدون إزعاج أهل البيت، وأن لا يستقبل الباب بوجهه بل يبتعد يميناً أو يسارا؛ فعند أبي داود عن عبد الله بن بُسر قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى باب قوم، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم“.

وعليه أن يُفصح عن اسمه أو كنيته عند سؤاله عن ذلك؛ لما روى الشيخان عن جابر -رَضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلمَ- في دَيْنٍ كان على أبي، فدققت الباب فقال: “من ذا؟” فقلت: أنا، فقال: “أنا، أنا” كأنه كرهها.

أيها الناس: ومن آداب البيوت: أنه يحرم النظر والتطلع إلى بيوت الغير؛ لأن في ذلك كشفاً للعورات وهتكاً للأستار، وقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة -رضي َالله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: “لو أن امرءًا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح”، قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [النور: 30].

إخوة الإيمان: أما القسم الثاني: قسم استئذان أهل البيت بعضهم بعضا إذا كانت أبواب الحجر مغلقة، فيستأذن الأخ على أخته وأخيه، والابن على أمه وأبيه، ونحو ذلك، وهو أدبٌ مهمٌ تعلّمُه، والحرص على تعليمه، يجب على الآباء أن يأمروا أطفالهم المميّزين ويعلموهم أن يستأذنوا عليهم، وخصوصا في الأوقات الثلاث: قبل صلاة الفجر، وعند الظهيرة، وبعد صلاة العشاء؛ حيث يكون الآباء في حالة لا يحبون أن يَطّلِع عليها لا صغيرًا أو كبيرًا، يقول الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 58].

وكثير من المسلمين لم يعمل بهذه الآية؛ فعن عبد الله بن عباس -رضي َالله عنها- قال: “آية لم يؤمن -يعمل- بها أكثر الناس: آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن عليَّ”، روى مالك عن صفوان بن سُليم عن عطاء بن يسار أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلمَ- سأله رجل فقال: يا رسول الله أستأذن على أمي؟ فقال: “نعم” قال الرجل: إني معها في البيت، فقال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلمَ-: “أستأذن عليها” فقال الرجل: إني خادمها، فقال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلمَ-: “استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟!”، قال: لا، قال: “فاستأذن عليها“، وقال عبد الله بن مسعود -رضي َالله عنه-: “عليكم إذن على أمهاتكم“، وروى البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أنه كان إذا بلغ بعض ولده الحُلُم، عزله، فلم يدخل عليه إلا بإذن، قال صلى الله عليه وسلمَ: “إنما جُعِلَ الاستئذانُ من أجل البصر“.

فيؤخذ من هذا الحديث العموم: أنه يُشرع الاستئذان على كل أحد رجلاً كان أو امرأة، مع شرط بلوغ الحُلُم، فيستأذن الأبناء من الآباء داخل غرف البيت، ويستأذن الإخوان والأخوات على الأخوات والإخوان، لا يدخلون إلا بعد الاستئذان، لا يدخلون فتنكشف عوراتهم ويثير الشيطان شرره بينهم، فأدب الاستئذان وشرعيته أدبٌ عظيم، حصن حصين بين المحارم من أن تشيع الفاحشة بينهم؛ ففي الحديث السابق هذا الحكم في حق الأم قال صلى الله عليه وسلمَ للرجل: “استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟!”، فمَن مِثْلها من المحارم كالبنات والأخوات والعمات والخالات من باب أولى.

الخطبة الثانية:

إخوة الإيمان: والله لو علم أهل الإنصاف من الكفار جمال أدب الاستئذان لأسلموا، أوربي أسلم وقُبل بالجامعة الإسلامية، وبحكم عملي كنت قريبا منه، شديد الحرص على مرافقته وحثه على دعوة والديه لعلهما يسلما فأنال بعض الفضل، حتى أكثرت عليه، فغضب مرّة وأشار بيده بشدة، وقال: ماذا تقول في أب وأم يخرجان من غرفتهما عراة ليس عليهم أي لباس يجولون في البيت، أولئك ليسوا بناس؟

اللهم لك الحمد على الإسلام، ولك الحمد على نعمة الستر والعفاف.

قال العلماء: يجب على الأعمى الاستئذان كما هو البصير وإنما خرج قوله صلى الله عليه وسلمَ: “إنما جُعِلَ الاستئذانُ من أجل البصر” مخرج الغالب، فما هو محرّم على البصير، محرّم على الأعمى.

وأما دخول الزوج على زوجته فإنه لا يجب عليه الاستئذان بل يُستحب؛ روى الشيخان عن جابر -رضي َالله عنه- قال: “فلما قدمنا المدينة ذهبنا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً -أي عشاءً- لكي تمتشط الشَّعِثةُ -أي المرأة المتفرق شعر رأسها- وتستحد المُغيبةُ” والمُغيبةُ: المرأة التي غاب عنها زوجها.