التفكر في القرآن الكريم

عناصر الخطبة

  1. التفكر أصل الطاعات
  2. ثمرات التفكر
  3. التفكر في القرآن الكريم .
اقتباس

فالفكر هو الذي ينقل من موت الغفلة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحابِّ، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سِجْن الدُّنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضِيقِ الجهل إلى سَعَةِ العلم ورَحْبِه، ومن مرَض الشهوة والإخلادِ لهذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمَى والصَّمَم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله، والعقل عنه، ومن أمراض الشُّبُهات إلى بَرد اليقين وثلج الصدور؛ فأصل كل طاعة إنما هو الفكر والتَّدبُّر.

الحمد لله الذي أنزل الكتاب المبين، لنقرأه تدبُّرًا، ونتأمله تبصُّرًا، ونسعد به تذكرا، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدِّق به، ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه. 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله المرسلين، وقيُّوم السموات والأرضين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فيا عباد الله: التفكُّر والتدبُّر هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها، وهو من أفضل أعمال القلب وأنفعها له، وهو يدعو إلى العمل، حتى قيل: "تفكُّر ساعة خيرٌ من عبادة سنة"، وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: التفكُّر في نعم الله من أفضل العبادة. وقال عبدالله بن المبارك لبعض أصحابه، وقد رآه متفكِّرًا: أين بلغتَ؟ قال:الصراط. وقال بِشر: لو فكَّر الناس في عظمة الله ما عصوه. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به.

فالفكر هو الذي ينقل من موت الغفلة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحابِّ، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سِجْن الدُّنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضِيقِ الجهل إلى سَعَةِ العلم ورَحْبِه، ومن مرَض الشهوة والإخلادِ لهذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمَى والصَّمَم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله، والعقل عنه، ومن أمراض الشُّبُهات إلى بَرد اليقين وثلج الصدور؛ فأصل كل طاعة إنما هو الفكر والتَّدبُّر.

و"التدبُّر" هو النظر في أدبار الأمور وعواقبها. و"الفكر" هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة؛ مثال ذلك إذا أحضر قلبه العاجلة وعيشها ونعيمها وما يقترن به من الآفات وانقطاعه وزواله، ثم أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها ولذته ودوامه وفَضْلَهُ على نعيم الدنيا، وجزم بهذين العلمين، أثمر له ذلك علمًا ثالثًا، وهو أن الآخرة ونعيمها الفاضل الدائم أولى عند كل عاقل بإيثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة.

وكذلك إذا فكر في عواقب الأمور، وتجاوز فكره مبادءها، ووضعها مواضعها، وعلم مراتبها، فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة فتجاوز فكره لذَّتَه وفرَحَ النفسِ به إلى سوء عاقبته وما يترتب عليه من الألم والحزن الذي لا يقاوم تلك اللذة والفرحة، من فكَّر في ذلك فلا يكاد يُقدم عليه.

وكذلك إذا ورد على قلبه وارد الراحة والدعة، والكسل والتقاعد عن مشقة الطاعات وتعبها، حتى عبر بفكره إلى ما يترتب عليها من اللذات والخيرات، والأفراح التي تغمر تلك الآلام، استقبلها بنشاط وقوة وعزيمة.

وكذلك إذا فكر في منتهى ما يستعبده من الجاه والمال والصُّور، ونظر إلى غاية ذلك بعين فكره، استحيا من عقله ونفسه أن يكون عبدًا لذلك.

وكذلك إذا فكر في آخر الأطعمة المفتخرة التي تفانت عليها نفوس أشباه الأنعام، وما يصير إليه أمرها عند خروجها، ارتفعت همته عن الاعتناء بها وجعلها معبود قلبه الذي إليه يتوجه، وله يرضى ويغضب، ويسعى ويكدح، ويوالي ويعادي، كما جاء في المسند، عن الضحاك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا ضحاك! ما طعامك؟" قال: يا رسول الله: اللحم واللبن. قال: "ثم يصير إلى ماذا؟" قال: إلى ما قد علمت. قال: "فإن الله تبارك وتعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا"، وفي المسند أيضًا عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا، وإن قَزّحَه وَمَلَّحَهُ فانظروا إلى ما يصير". وإن قزحه: وضع فيه الأبازير.

وأنفع التفكر -يا عباد الله- التفكر في القرآن، فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتفكر والتدبر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين؛ وهو الذي يورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة، والتوكل، والرضا، والتفويض، والشكر، والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله؛ وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه.

فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة؛ فقراءة آيةٍ بتفكر وتفهم خيرٌ من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وهي أنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن؛ وهذه كانت عادة السلف، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المَائدة:118]".

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا تهذوا القرآن هذا الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، لا يكن همُّ أحدكم آخرَ السورة". وقال الحسن -رحمه الله-: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً. فالقرآن يدعو إلى أن يتفكر الإنسان في صفات نفسه ليتميز له المحبوب لربه منها من المكروه له، ويدعو إلى التفكر في صفات معبوده وأفعاله وأحكامه.

عباد الله! كما أن الفكر هو أصل كل طاعة فكذلك هو أصل كل معصية، فالمعصية إنما تحدث من جانب الفكرة، فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة فيبذر فيها حب الأفكار الردية، فيتولد منه الإرادات والعزوم، فيتولد منها العمل. فإذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة فيما خُلق له وفيما أمر به، وفيما أُعدَّ له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم، لم يجد لبذره موضعًا.

والكبر -يا عباد الله- من أسباب منع التفكر، قال الحسن -رحمه الله- في قول الله عز وجل: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعرَاف:146] قال: أمنعهم التفكر فيها.

فاتقوا الله عباد الله، وعليكم بالتدبر في كتاب الله، والعمل به، لتنالوا محبة الله، والقرب منه، والفوز برضاه يوم لقاه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29].

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيِّمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا، ماكثين فيه أبدًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها السموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، أنزل عليه كتابه المبين، الفارق بين الهدى والضلال والشك واليقين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: فيا عباد الله: ليس شيء أنفع للقلب في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل وجمع الفكر فيه على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقهما وأسبابهما، وغاياتهما، ومآل أهلهما، وتُتِل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتُثبِّت قواعد الإيمان في قلبه، وتُشَيِّد بنيانه، وتوطدَ أركانه، وتُريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذات ربه تعالى وأسماءه وصفاته، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وتفرقهم فيما يتفرقون فيه. فعليكم -عباد الله- بتدبر كتابه، فإنه أحسن الحديث، وعليكم بسنة نبيكم وهَدْيِه، فإن خير الهدي .