الأدب مع الله

عناصر الخطبة

  1. نِعَم الله تعالى على عباده
  2. علم الله تعالى بالعبد واطلاعه عليه
  3. قدرة الله تعالى على العبد
  4. لطف الله تعالى بعباده
  5. بطش الله تعالى وقوته
  6. حسن الظن بالله تعالى
  7. بماذا تعلو درجة المؤمن؟
  8. الفرق بين السلف والخلف
اقتباس

وينظرُ المسلمُ إلى علمه تعالى به واطلاعه على جميع أحواله، فيمتلئُ قلبه منه مهابةً ونفسه له وقارًا وتعظيمًا، فيخجلُ من معصيته، ويستحي من مخالفته والخروج عن طاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله تعالى؛ إذ ليس من الأدب في شيء أن يجاهر العبدُ سيِّده بالمعاصي أو يقابله بالقبائح والرذائل وهو يشاهده وينظرُ إليه، قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(14)﴾، وقال -جل ذكره-: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ ..

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَ تقاته، فإنّ الله خلقكم لمعرفته وعبادته، فطوبى لمن قامَ بحقّ مولاه وأدَّى الذي أمرَه به وما عنه نهاه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.

معاشرَ المسلمين: المسلمُ ينظرُ إلى ما لله تعالى عليه من مننٍ لا تحصى ونعم لا تستقصى، اكتنفته من ساعة علوقه نطفةً في رحم أمِّه، وتسايره إلى أن يلقى ربَّه -عز وجل-، فيشكرُ الله تعالى عليها؛ بلسانه بحمده والثناء عليه بما هو أهله، وبجوارحه بتسخيرها في مرضاته وطاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله -سبحانه وتعالى-؛ إذ ليس من الأدب في شيء كفرانُ النعم وجحودُ المنعم والتنكرُ له ولإحسانه وإنعامه، والله سبحانه يقول: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾، ويقولُ -سبحانه وتعالى-: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاِ تُحْصُوهَا﴾، ويقول -جل جلاله-: ﴿فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾.

وينظرُ المسلمُ إلى علمه تعالى به واطلاعه على جميع أحواله، فيمتلئُ قلبه منه مهابةً ونفسه له وقارًا وتعظيمًا، فيخجلُ من معصيته، ويستحي من مخالفته والخروج عن طاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله تعالى؛ إذ ليس من الأدب في شيء أن يجاهر العبدُ سيِّده بالمعاصي أو يقابله بالقبائح والرذائل وهو يشاهده وينظرُ إليه، قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(14)﴾ [نوح: 13، 14]، وقال -جل ذكره-: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19]، وقال سبحانه: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس:61].

وينظرُ المسلمُ إلى الله تعالى وقد قَدِرَ عليه وأخذ بناصيته، وأنه لا مفرَّ له ولا مهرَبَ ولا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه، فيفرُّ إلى الله سبحانه، ويطَّرحُ بين يديه، ويفوّضُ أمره إليه، ويتوكلُ عليه، فيكونُ هذا أدبًا منه مع الله ربِّه وخالقه؛ إذ ليس من الأدب في شيء الفرارُ ممن لا مفرَّ منه، ولا الاعتمادُ على من لا قُدْرةَ له، ولا الاتكالُ على من لا حولَ ولا قوةَ له، قال تعالى: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ [هود:56]، وقال -عز وجل-: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات:50]، وقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23].

وينظرُ المسلمُ إلى ألطافِ الله تعالى به في جميع أموره وإلى رحمته له ولسائر خلقه، فيطمعُ في المزيد من ذلك، فيتضرعُ له بخالص الضراعةِ والدعاء، ويتوسّلُ إليه بطيِّب القول وصالح العمل، فيكونُ هذا أدبًا منه مع الله مولاه؛ إذ ليس من الأدب في شيء اليأسُ من ربٍّ رحمته وسعت كلَ شيء، ولا القنوطُ من إحسان قد عمَّ البرايا وألطافٍ قد انتظمت الوجود، قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ [الشورى:19]، وقال: (وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) [يوسف:87]، وقال: ﴿لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر:153].

وينظرُ المسلمُ إلى شدة بطشِ ربِّه وإلى قوةِ انتقامه وإلى سرعةِ حسابه، فيتقيهِ بطاعته، ويتوقاه بعدم معصيته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله؛ إذ ليس من الأدب عند ذوي الألباب أن يتعرضَ بالمعصيةِ والظلمِ العبدُ الضعيفُ العاجزُ للربِّ العزيزِ القادر والقوي القاهر، وهو القائل: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد:11]، والقائل: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج:12]، والقائل: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران:4].

وينظرُ المسلمُ إلى الله -عز وجل- عند معصيته والخروج عن طاعته، وكأنَّ وعيده قد تناوله، وعذابَه قد نزلَ به، وعقابَه قد حلَّ بساحته. كما ينظرُ المسلمُ إليه تعالى عند طاعته واتباع شريعته، وكأنَّ وعده قد صدقه له، وحُلةَ رضاه قد خلعها عليه، فيكونُ هذا من المسلم حُسْنَ ظن بالله.

ومن الأدب: حُسنُ الظنِّ بالله -عز وجل-؛ إذ ليس من الأدب أن يُسيءَ المرءُ ظنَّه بالله تعالى فيعصيه ويخرج عن طاعته، ويظنُّ أنه غير مطّلعٍ عليه ولا مؤاخذٍ على ذنبه، والله يقول: (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [فصلت:22، 23].

كما أنه ليس من الأدب مع الله أن يتقيه المرءُ ويطيعه ويظنُ أنه لا يجازيه بحسنِ عمله، ولا هو متقبّلٌ منه طاعته وعبادته، وهو -عز وجل- يقول: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ) [النور:52]، ويقول سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97]، ويقول تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام:160].

بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسُنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيّناتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

معاشر المسلمين: إن شكرَ المسلمِ ربَّه تعالى على نعمه، وحياءَه منه تعالى عند الميل إلى معصيته، وصدق الإنابة إليه، والتوكل عليه، ورجاء رحمته، والخوف من نقمته، وحُسن الظن به في إنجاز وعده وإنفاذ وعيده فيمن شاء من عباده؛ هو أدبه مع الله، وبقدر تمسكه به ومحافظته عليه تعلو درجته، ويرتفعُ مقامه، وتسمو مكانته، وتعظمُ كرامته، فيصبحُ من أهلِ ولاية الله ورعايته ومحطِّ رحمته ومتنزّل نعمته، ومن عاداه فقد آذنه الله بالحرب.

وهذا أقصى ما يطلبه المسلمُ ويتمناه طولَ حياته، كان بعضُ التابعين يدورُ قبيل الفجر ليسمعَ أصواتَ العُباد الذاكرين التالين لكتاب الله، كما كان دأبُ الصحابة -رضوان الله عليهم-، ومضى زمانٌ فطافَ بالفسطاطِ الذي كان ينزلُ فيه، فلم يسمع داعيًا ولا تاليًا، فقال: "ما بالُ أهلِ هذا الفسطاط قد أمنوا ما خافه أسلافهم؟!".

إنها كلمةٌ من عيون الحكمة، تصوّر المفارقة بين حال السلف والخلف، الأسلافُ خافوا غضبَ الله وانتقامه، فاستحقوا العزةَ والكرامة في الدنيا والآخرة والأمنَ يوم القيامة، أما الخلفُ فقد أمنوا واطمأنوا إلى الحياة الدنيا، ولم يزعجهم خوفُ العذاب في الآخرة، ولم يبالوا بعواقب الذنوب وآثارها المدمّرة في المجتمع، فسلّط الله عليهم من الأعداء من ينتقصُ أطرافهم ويجوسُ خلالَ ديارهم. ومن هنا كان الخليفةُ الراشدُ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول لجنوده: "إنما أخشى عليكم ذنوبكم أكثرَ من خشيتي عليكم من أعدائكم". كان استشعارُ الخطرِ والإعداد للسفر طريقَ الصالحين من أسلافنا الذين كانوا يرون أعمالهم الصالحة -مهما كثرت- قليلة، وذنوبهم -مهما قلَّت- عظيمةً وبيلة.

عن عبد الرحمن بن زياد أن أباه اشتكى وجعًا، فكتب إلى بكر بن عبد الله المزني أن ادعُ الله لي، فكتب إليه بكرٌ يقول: "إنه أتاني كتابُك تسألني أن أدعوَ لك، وحُقَّ لعبدٍ عملَ ذنبًا لا عذرَ له فيه وخافَ موتًا لا بُدَّ له منه أن يكون مشفقًا، وسأدعو لك، ولستُ أرجو أن يُستجابَ لي بقوةٍ في عملي ولا براءة ٍمن ذنب. والسلام".

هكذا كانوا حذرين، مشفقين، مع كثرةِ أعمالهم الصالحة وشدةِ اجتهادهم في طاعة الله سبحانه واقترابهم من منهج القدوة الصالحة، فما بالُ الذين يأمنون على أنفسهم مع كثرةِ ذنوبهم وشدة تقصيرهم وانشغالهم بالتنافس على المظاهر والأعراض الفانية؟! لقد كان تعليلُ سقوط بعض المدن الإسلامية خلالَ تاريخنا المحزن بكثرة ِما كان فيها من ذنوبٍ وآثامٍٍ مقبولاً لدى أهل البصائر والتدبر في كتاب الله، فهموه من قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ [الكف:59]، وقوله -عزَّ من قائل-: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء:16]. ولكنَّ البعض كان يُماري في ذلك، حتى ليقول ابنُ شرفٍ القيرواني في رثائه للقيروان حين خرَّبها بنو هلالٍ في القرن الخامس الهجري:

تُراها أصيبتْ بالكبائرِ وحدها *** ألم تكُ قِدْمًا في البلادِ الكبائرُ

ونقولُ له: نعم، إنَّ كلَ مدينةٍ تفشو فيها الكبائرُ، فلا يأمنُ أهلُها غضبَ اللهِ وعقابَه، "فلا تأمنوا ما خافه أسلافكم".

اللهم ارزقنا ولايتك، ولا تحرمنا رعايتك، واجعلنا لديك من المقربين.

ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير…