الشتاء عبر وأحكام

عناصر الخطبة

  1. في تعاقب فصول العام حِكَم بالغة
  2. الشتاء ربيع المؤمن
  3. غنيمة العابدين
  4. أين المشمرون للغنيمة الباردة؟
  5. لماذا وصف السلف الشتاء بالعدو؟
  6. من آيات الله في الشتاء
  7. ضرورة تذكر المحرومين في الشتاء
  8. كم من كساء لفقير نجى من عذاب!
  9. بعض أحكام الشتاء في الوضوء والاستدفاء
اقتباس

قال ابن رجب -رحمه الله-: “يا من تُتلى عليه أوصاف جهنم، ويشاهد تنفسها كل عام حتى يحس به ويتألم، وهو مُصِرّ على ما يقتضي دخولها مع أنه يعلم، ستعلم إذا جيء بها تُقاد بسبعين ألف زمام من يندم؟! ألك صبر على سعيرها وزمهريرها؟! قل وتكلم، ما كان صلاحك يرجى، والله أعلم”.. إن مما يجدر بالمؤمن إذا قرصه البرد وتدفأ له، أن يذكر إخوانا له، ليس لهم ما يستدفئون به، وأن يتذكر العراة الذين لا يجدون مأوى ولا كسوة…

الخطبة الأولى

إن الحمد لله…

أما بعد فيا أيها المؤمنون: إن لله الحِكَم البالغة والدلائل الظاهرة في تقليب الليل والنهار، وفي تعاقب فصول العام، من تطلع إليها وتفكر فيها أورثه الله الإنابة إليه والعمل الصالح، وها نحن نعيش شيئًا من ذلك، ولعلنا نلقي الضوء على بعض دلائل هذا التغير والتحول لتحصل لنا الإنابة والعمل الصالح، كما قال -تعالى-: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]، وقال: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ(21)﴾ [الذاريات: 20- 21].

عباد الله: إن مرور الشتاء على الناس في هذه الأيام يدعو بالتفكر فيما يقع من خلاله من عِبَر، فمن نعم الله على الناس في الشتاء أن الليل فيه يطول، والنهار يقصر، فهو كما قيل: ربيع المؤمن، طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه، وهو كما قال بعض العلماء: الشتاء هو الغنيمة الباردة.

 وقال عمر: "الشتاء غنيمة العابدين".

 وقال ابن مسعود: "مرحبًا بالشتاء؛ تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".

وقال الحسن: "نعم زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويل يقومه، ونهاره قصير فيصومه".

فمن تفكر بهذه الطريقة علم أن الله -جل في علاه- أراد بالناس الخير في طول الليل وقِصَر النهار، ولكن أين المشمرون للغنيمة الباردة؟

معاشر المسلمين: إن الشتاء من جهة طول الليل وقصر النهار نعمة، إلا أن السلف كانوا يعدون الشتاء من أعداء المؤمن الذين يجب على المؤمن أخذ الحذر منه والاستعداد له، روى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال: "كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم بالوصية: إن الشتاء قد حضر وهو عدو، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعاراً و دثاراً، فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه". اهـ.

وقال الأصمعي: "كانت العرب تسمي الشتاء: الفاضح، قال أبو عمرو بن العلاء: إني لأبغض الشتاء لنقص الفروض، وذهاب الحقوق، وزيادة الكلفة على الفقراء.

وقال بعض السلف: "البرد عدو الدين"، يشير إلى أنه يفتّر عن كثير من الأعمال ويثبط عنها فتكسل النفوس بذلك.

أيها المؤمنون: ومن آيات الشتاء أنه يذكر بزمهرير جهنم، ويوجب الاستعاذة كما قال الله -عز وجل- عن أهل الجنة ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً﴾ [الإنسان: 13].

 وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفَسين نفَس في الشتاء ونفَس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير".

قام زبيد اليامي ذات ليلة للتهجد، فعمد إلى مطهرة له كان يتوضأ منها، فغمس يده في المطهرة، فوجد الماء بارداً شديداً،  كاد أن يجمد من شدة برده، فذكر الزمهرير ويده في المطهرة، فلم يخرجها حتى أصبح، فجاءته جاريته وهو على تلك الحال، فقالت: ما شأنك يا سيدي؟ لِم لا تصلي الليلة، كما كنت تصلي، وأنت قاعد هنا على هذه الحالة؟! فقال: ويحك إني أدخلت يدي في هذه المطهرة فاشتد عليّ برد الماء فذكرت به الزمهرير، فوالله ما شعرت بشدة برده حتى وقفتِ عليّ، فانطوي لا تحدثي بهذا أحداً ما دمت حياً، فما علم بذلك أحد حتى مات -رحمه الله-.

وروي عن ابن عباس أنه قال: "يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها، فيسألون الحر".

 وعن مجاهد قال: "يهربون إلى الزمهرير، فإذا وقعوا فيه حطّم عظامهم حتى يسمع لها نقيض".

وعن كعب قال: إن في جهنم برداً هو الزمهرير، يُسقط اللحم، حتى يستغيثوا بحَرّ جهنم".

وقد قال الله -عز وجل-: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا(26)﴾ [النبأ: 24- 26]، وقال الله -تعالى-: ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ [ص: 57]، قال ابن عباس: "الغساق: الزمهرير البارد الذي يحرق من برده". أجارنا الله -تعالى- من جهنم بفضله وكرمه.

قال ابن رجب -رحمه الله-: "يا من تُتلى عليه أوصاف جهنم، ويشاهد تنفسها كل عام حتى يحس به ويتألم، وهو مُصِرّ على ما يقتضي دخولها مع أنه يعلم، ستعلم إذا جيء بها تُقاد بسبعين ألف زمام من يندم؟! ألك صبر على سعيرها وزمهريرها؟! قل وتكلم، ما كان صلاحك يرجى، والله أعلم".

 كم يكون الشتاء ثم المصيف***وربيع يمضي ويأتي الخريف 

وارتحال من الحرور إلى البرد *** وسيف الردى عليك منيف 

    يا قليل المقام في هذه الدنيا*** إلى كمّ يغرك التسويف؟! 

    يا طالب الزائل حتى متى*** قلبك بالزائل مشغوف؟!

   عجباً لامرئ يذل لذي الدنـــــ*** ـيا ويكفيه كل يوم رغيف!

اللهم ارزقنا شكر نعمك يا رب العالمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين…

 أما بعد فيا أيها الناس: إن مما يجدر بالمؤمن إذا قرصه البرد وتدفأ له، أن يذكر إخوانا له، ليس لهم ما يستدفئون به، وأن يتذكر العراة الذين لا يجدون مأوى ولا كسوة، خرج صفوان بن سليم في ليلة باردة بالمدينة من المسجد، فرأى رجلاً عارياً فنزع ثوبه وكساه إياه، فرأى بعض أهل الشام في منامه أن صفوان بن سليم دخل الجنة بقميص كساه، فقدم المدينة، فقال: دلوني على صفوان، فأتاه فقصَّ عليه ما رأى.

ورأى مسعر أعرابياً يتشرق في الشمس وهو يقول:  

جاء الشتاء وليس عندي درهم***ولقد يُخص بمثل ذاك المسلم 

 قد قطع الناس الجباب وغيرها***وكأنني بفناء مكة محرم 

   فنزع مسعر جبته فألبسه إياها، ورُفع إلى بعض الوزراء الصالحين أن امرأة معها أربعة أطفال أيتام وهم عراة جياع، فأمر رجلاً أن يمضي إليهم، وحمل معه ما يُصلحهم من كسوة وطعام، ثم نزع ثيابه وحلف: لا لبستها ولا دفئت حتى تعود وتخبرني أنك كسوتهم وأشبعتهم، فمضى وعاد فأخبره: أنهم اكتسوا وشبعوا، وهو يرعد من البرد فلبس حينئذ ثيابه.

فنحن عباد الله يجب علينا أن نتلمس المساكين، ونكسوهم بما نستطيع، فكم من كسوة كانت سببًا في دخول الجنة.

أيها الناس: كلما كانت الطاعة شاقة على النفس كلما عظم الأجر، فإسباغ الوضوء في شدة البرد من أفضل الأعمال، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط".

وفي فصل الشتاء تكثر الأمراض، فالصبر على ذلك واحتساب الأجر ينفع القلب والبدن، فإياك أخي المسلم أن تتضجر من شدة الزكام أو السعال أو الحمى، فإنها مكفّرات، أخرج البخاري في صحيحه من حديث سعد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".

ومما يحتاج إليه الناس في الشتاء إيقاد النار والاستدفاء بها، وهذا يذكّر العبد بنار الآخرة عند التدبر، قال الله -تعالى-: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً﴾ [الواقعة: 73]، يعني: نار الدنيا من رآها تذكر نار الآخرة، وكان كثير من السلف لا يطيق أن ينظر إلى نار الحدادين.

ومن الأحكام التي ينبغي للمسلم أن يتعلمها أن المسلم مأمور بإطفاء النار عند النوم، أو عند الخروج من المنزل، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى قال: احترق بيت على أهله في المدينة ليلاً فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم".

عباد الله: ما أحسن التفكر في هذه الأمور التي تورث الإخبات إلى الله، والانتفاع بتصرف الأيام والليالي.

اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، أواهين منيبين يا رب العالمين.

 اللهم اغفر لنا ولوالدين ولجميع المسلمين….

اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك.

 اللهم آمنا في دورنا وأوطاننا..

اللهم فرج عن إخواننا..

سبحان ربك رب العزة عما يصفون…..