الإسراف والتبذير

عناصر الخطبة

  1. عواقب الإسراف والتبذير
  2. وسطية الأمة المحمدية
  3. الأدلة على حرمة الإسراف والتبذير من الكتاب والسنة
  4. مظاهر الإسراف والتبذير
اقتباس

إن الإسراف والتبذير داء فتاك يهدد الأمم والمجتمعات، ويبدد الأموال والثروات، وهو سبب للعقوبات والبليات العاجلة والآجلة. فمن ذلك -يا عباد الله- أن الإسراف سبب للترف الذي ذمّه الله تعالى وعابه وتوعد أهله في كتابه؛ إذ قال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45)﴾ ..

أما بعد: 

أيها المسلمون: إن الإسراف والتبذير داء فتاك يهدد الأمم والمجتمعات، ويبدد الأموال والثروات، وهو سبب للعقوبات والبليات العاجلة والآجلة.

فمن ذلك -يا عباد الله- أن الإسراف سبب للترف الذي ذمّه الله تعالى وعابه وتوعد أهله في كتابه؛ إذ قال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45)﴾ [الواقعة:41-45]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم".

فإياكم -يا عباد الله- أن تكونوا من المترفين، فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة.

أيها المؤمنون: التبذير والإسراف سبب يؤدي بصاحبه إلى الكبر وطلب العلو في الأرض، قال –صلى الله عليه وسلم-: "كلوا واشربوا وتصدقوا من غير سرف ولا مخيلة".

فالحديث يدل على أن الإسراف قد يستلزم المخيلة وهي الكبر، فإن الكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه: ﴿كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى(7)﴾ [العلق:6، 7].

عباد الله: إن الإسراف والتبذير يؤدي إلى إضاعة المال وتبديد الثروة، فكم من ثروة عظيمة وأموال طائلة بددها التبذير وأهلكها الإسراف وأفناها سوء التدبير.

فاتقوا الله -عباد الله-، فإن الله نهاكم عن إضاعة المال، ففي حديث المغيرة قال: سمعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال". رواه البخاري.

والإسراف إضاعة للمال وتخوُّض فيه بغير حق، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة"، وهذا كما قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر: 43].

عباد الله: إن الإسراف سبب من أسباب الضلال في الدين والدنيا، وعدم الهداية لمصالح المعاش والمعاد، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر:28]، وقال سبحانه: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ [الزخرف:5]، وقال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يونس:12].

أيها المؤمنون: إن من عقوبة الله تعالى للمسرفين أن جعلهم إخوانًا للشياطين، فقال سبحانه: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)﴾ [الإسراء:26، 27].

فاتقوا الله -عباد الله-، وذروا ظاهر الإثم وباطنه، واعلموا أن الإسراف يشمل جميع التعديات التي يتجاوز بها العبد أمر الله وشرعه، سواء كان ذلك في الإنفاق أو في غيره.

فتوبوا -عباد الله- من الإسراف كله، فإن الله دعاكم إلى ذلك فقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ(54)﴾ [الزمر:53، 54].

فاتق الله -يا عبد الله- وتب إلى الله من التفريط والتقصير، وأعدَّ للسؤال جوابًا، فإن الله سائلك عن هذا المال: من أين اكتسبته وفيم أنفقته؟!

الخطبة الثانية:  

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

واعلموا أن تقوى الله تعالى لا تتم للعبد إلا بالأخذ بمكارم هذه الشريعة وفضائلها علمًا، وامتثالها في الحياة واقعًا وعملاً.

أيها المؤمنون: إن من فضل الله تعالى علينا أن شرع لنا دينًا قيمًا وجعلنا بين الأمم أمةً وسطًا، وسطًا في الأحكام والشرائع، ووسطًا في الآداب والفضائل، فالحمد لله على ذلك كثيرًا كثيرًا، وشكرًا له بكرة وأصيلاً.

عباد الله، أيها المؤمنون: إن من معالم تلك الوسطية المباركة ما ذكره الله تعالى في كتابه عند ذكر صفات أحبابه والخلَّص من عباده، قال -تبارك وتعالى-: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان:67]، أي: كانوا في نفقاتهم الواجبة والمستحبة على العدل والوسط، لا وَكسَ ولا شَطَطَ، فعباد الرحمن هم الحكماء العدول في نفقاتهم، لا يتجاوزون ما حده الله وشرعه، ولا يقصرون عما أمر به وفرضه.

أيها المؤمنون: إن الناظر في أحوال كثيرٍ من الناس اليوم يرى ويشهد غياب هذه الخصلة عن جوانب عديدة من حياة الناس، فكم هم الذين تورطوا في الإسراف والتبذير في جميع الشؤون والأمور، إسراف في المآكل والمشارب، إسراف في الملابس والمراكب، إسراف في الشهوات والملذات.

أيها المؤمنون: إن الله -جل وعلا- قد نهى عن الإسراف والتبذير في آيات كثيرة، فقال تعالى: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام:141]، وقال -جل ذكره-: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)﴾ [الإسراء:26-27]، وقال سبحانه: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء:29]، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر:43].

وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسراف في الأمر كله، فنهى عن الإسراف في المآكل والمشارب والألبسة، بل ونهى عن الإسراف في الصدقات، فقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة". رواه أحمد وغيره بسند جيد.

وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن الإسراف في الوضوء، ففي النسائي وابن ماجه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد عن هذا فقد أساء وتعدى وظلم". قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "كره أهل العلم الإسراف فيه -أي: في الوضوء- وأن يجاوزوا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-".

عباد الله: إن الله -جل وعلا- أنعم عليكم نعمًا عظيمة كثيرة، فكان من ذلك أن أغناكم بعد فقر، وأطعمكم بعد جوع، وهداكم بعد ضلالة، وفتح لكم من أبواب الخير وسبل الرزق ما لم يكن لكم على بال.

فاشكروا الله تعالى على ذلك حق شكره، واعلموا أن ذلك كله لا يغنيكم عن فضله ومنّه.

أيها المؤمنون: إن ما تصاب به النفوس عند الغنى وكثرة العرض ووفرة المال التجاوز والطغيان، قال الله تعالى: ﴿كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى(7)﴾ [العلق:6، 7].

وصدق الله العظيم؛ فإنه لما فُتح علينا من الدنيا ما فتح وتوالى على كثير منا النعم، اغترّ فئام من الناس بهذا الطيف العارض والظل الزائل، فطغوا وتجاوزوا حدود الله تعالى؛ فأسرفوا وبذروا وتخوضوا في مال الله بغير حق، فظهر في حياة الناس مظاهر الإسراف والتبذير.

فمن هذه المظاهر ومن تلك المعالم التي تورّط فيها كثير من الناس اليوم: الإسراف في المآكل والمشارب، فترى من الناس من يجتمع على مائدته من ألوان الطعام وصنوف الشراب ما يكفي الجماعة من الناس، ومع ذلك لا يأكل إلا القليل من هذا وذاك، ثم يلقي باقيه في الفضلات والنفايات، فليت شعري أنسي هؤلاء المسرفون أم تناسوا أن من الناس أمَمًا يموتون جوعًا، لا يجدون ما يسدّون به حرارة جوعهم ولظى عطشهم؟! أم نسي هؤلاء قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر:8]؟! قال ابن القيم -رحمه الله-: "والنعيم المسؤول عنه نوعان: نوع أُخِذ من حله وصرف في حقه، فيسأله عن شكره، ونوع أُخذ بغير حله وصرف في غير حقه، فيسأل عن مستخرجه ومصرفه".

أيها المؤمنون: إن من معالم التبذير في حياة الناس اليوم: الإسراف في المراكب والملابس والمساكن، فتجد أقوامًا تحملوا الديون العظيمة، وأرهقوا ذممهم وشغلوها ليحصل أحدهم على السيارة الفلانية أو الثوب الفلاني أو المسكن الفاخر والبيت الفارِه، تكاثرٌ وتفاخر، سفَه في العقل وضلال في الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أيها المؤمنون: إن من الإسراف المذموم ما يفعله كثير من حدثاء الأسنان أو سفهاء الأحلام من إضاعة الأوقات وتبديدها في الملاهي والملذات والشهوات؛ فتجد الواحد من هؤلاء يصرف عمره وخاصة نشاطه وفكره ووقته في لهو ولعب وسهر وتسلية، لا في عمل دنيا ينتفع به، ولا في عمل آخرة ينجو به، غفلة وطيش، ضلال وزيغ، ضياع لمصالح المعاش، وذهاب لمصالح المعاد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عباد الله: إن من الإسراف والتبذير: الإسراف في استخدام المرافق الحيوية التي تقوم عليها حياة الناس اليوم من ماء وكهرباء ونحو ذلك؛ فالماء الذي هو أرخص موجود وأعز مفقود يهدر بالكميات الكبيرة الهائلة بلا عتاب ولا حساب، وكأننا نعيش على ضفاف أنهار لا تتوقف وآبار لا تنضب، غفلة وإهمال، تبذير وإساءة استعمال، ولا شك أن الواقع المرير الذي نعيشه يخالف ما جاءت به شريعة أحكم الحاكمين، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الإسراف في الماء، ولو كان استعماله في عبادة فضلاً عن غيرها.

فاتقوا الله -عباد الله- وتعاونوا جميعًا -رعاةً ورعيةً- على ترشيد هذا الأمر، فإن قلة المياه وشُحّهَا أحد التحديات الكبرى لكثير من دول العالم اليوم، فإن لم نكن على وعي بهذا الأمر يوشك أن نقع فيما لا تحمد عقباه.

أيها الإخوة الكرام: أما الإسراف في الكهرباء فذاك أمر قلّ من ينجو منه، فكم هم الذين يضعون في بيوتهم أو متاجرهم أو مجالسهم من الإضاءة أو التكييف ما يزيد على حاجة المكان، وكم هم الذين لا يطفأ لهم نور في ليل أو نهار!!

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، فإن الله ورسوله ينهيانكم عن ذلك.

عباد الله: إن من أعظم التبذير أن تستعمل المال الذي تفضل الله به عليك في معصية الله تعالى، فالله -جل وعلا- ينعم عليك ويتفضل وأنت تخالفه وتحاده، قال الله تعالى: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)﴾ [الإسراء:26، 27].

قال قتادة -رحمه الله-: "التبذير: هو النفقة في معصية الله وفي غير الحق وفي الفساد".