كان يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها

عناصر الخطبة

  1. حاجة العباد وافتقارهم لتوفيق الله تعالى
  2. كيف ينال المسلم توفيق الله ومعونته؟
  3. فقه صلاة الاستخارة وأهميتها
  4. حقيقة الاستخارة تفويض الاختيار إلى الله
  5. وصايا وتنبيهات مهمة بخصوص الاستخارة والاستشارة
  6. وجوب الرضا بقضاء الله وقدره بعد الأخذ بالأسباب الشرعية.
اقتباس

الواجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمتها إليه والتبرؤ من الحول والقوة، وينبغي له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها، حتى يستخير الله فيه، ويسألَه أن يحملَه فيه على الخير، ويصرفَ عنه الشر؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كل أمر والتزامًا لذُلِ العبودية له، وتبركًا باتباع سُنَّةِ نبيّه -صلى الله عليه وسلم- في الاستخارة، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن؛ لشدة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلها كشدّةِ حاجتهم إلى القراءة في كل الصلوات..

الخطبة الأولى:

الحمد لله..

أيها الإخوة: لقد خلق الله -تعالى- الإنسان، وميزه بالعقل والتدبير، وبه يميز بين الخير والشر والصواب والخطأ.. فيختار ما ينفعه.. ومع ما أعطاه الله -سبحانه- من العقل إلا أنه لم يكله على عقله وتدبيره.. بل شرع له رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبيلاً يعينه على تحقيق الصواب والخير وهو الاستخارة، وكان ويحثهم عليها ويعلمهم دعاءها كما يعلمهم السورة من القرآن.. فما هي الاستخارة وما صفة صلاتها وما هي أحكامها..

أيها الأحبة: لقد كان رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحث أصحابه على الاستخارة وهي: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.. والخير وهو كل معنى زاد نفعه على ضرره.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا [أي: صلاتها ودعائها] كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، يَقُولُ:

«إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ [أي: أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه]، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ.

اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي» قَالَ: «وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» [أي: يذكر الأمر الذي يستخير من أجله في أثناء دعائه] (رواه البخاري).

قال الطيبي -رحمه الله-: "في هذا الحديث إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لجعلهما تلوين للفريضة والقرآن.. عندما قال الراوي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، وعندما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ».

وحقيقة الاستخارة: تفويض الاختيار إلى الله -سبحانه- فإنه الأعلم بخير الأمرين للعبد.. والقادر على ما هو خير لمستخيره إذا دعاه أن يختار له، فلا يخيِّب أمله والخائب من لم يظفر بمطلوبه..

قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله- تعالى: "شُرعت الاستخارة للإنسان إذا هم بالأمر وأشكل عليه هل في إقدامه خير أم في إحجامه خير؛ فإنه يستخير الله.. وإذا استخار الله بصدق وإيمان فإن الله يعطيه على ما يستدل به على أن الخير في الإقدام أو الإحجام.. إما بشيء يلقيه في قلبه ينشرح صدره لهذا أو لهذا، وإما برؤيا يراها في المنام، وإما بمشورة أحدٍ من الناس وإما بغيره".

أيها الإخوة: وملخص كلام شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله- في صلاة الاستخارة: "أن يصلّي المرء ركعتين من غير الفريضة في أيّ وقت من اللّيل أو النّهار في غير وقت النهي إلا في أمر يخشى فواته قبل خروج وقت النهي؛ فلا بأس أن يستخير ولو في وقت النهي.. أما ما كان فيه الأمر واسعًا فلا يجوز أن يستخير وقت النهي فلا يستخير بعد صلاة العصر وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مقدار رمح.. وكذلك عند زوالها حتى تزول لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه يقرأ فيهما بما شاء بعد الفاتحة، ثمّ يدعو بالدّعاء الّذي رواه البخاريّ من حديث جابر -رضي اللّه عنه-.

وإذا انتهى وانشرح صدره بأحد الأمرين بالأقدام أو الإحجام فهذا المطلوب يأخذ بما ينشرح به صدره؛ فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبقي مترددًا أعاد الاستخارة مرة ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة إذا لم يتبين له شيء بعد الاستخارة فإنه يشاور أهل الرأي والصلاح ثم ما أشير عليه به فهو الخير إن شاء الله؛ لأن الله -تعالى- قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة ميلا إلى شيء معين حتى يستشير فيجعل الله -تعالى- ميل قلبه بعد المشورة..

أيها الأحبة: هناك أمور ينبغي التنبه لها منها:

أولها: بأيهما يبدأ بالاستخارة أم الاستشارة؟

قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "الصحيح أن المقدم الاستخارة فقَدِمْ أولاً الاستخارة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ».. إلى آخره ثم إذا كررتها ثلاث مرات ولم يتبين لك الأمر فاستشر، ثم ما أشير عليك به فخذ به وإنما قلنا: إنه يستخير ثلاث مرات لأن من عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا دَعَا دعا ثلاثاً والاستخارةُ دعاء وقد لا يتبين للإنسانِ خيرَ الأمرين من أول مرة بل قد يتبين في أول مرة أو في الثانية أو في الثالثة وإذا لم يتبين فليستشر.

ثانيها: هل يخصص نافلة للاستخارة ويدعو بعدها أم يمكن أن تكن الاستخارة بعد أي نافلة؟

قال ابن حجر -رحمه الله-: "إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معا أجزأ.. لأن المراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عقبها أو فيها، وظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر".

ثالثها: مع من تكون الاستخارة والاستشارة؟

قال شيخنا: الاستخارة مع الله، -عز وجل- يستخير الإنسان ربه الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وذلك إذا هم بأمر وهو لا يدري عاقبته ولا يدري مستقبله..

أما الاستشارة: فمع أهل الرأي والصلاح والأمانة؛ وذلك أن الإنسان عنده قصور وخلق ضعيفا قد تشكل عليه بعض الأمور ويتردد فيها.. هنا يأتي دور الاستشارة..

ويجب فيمن تستشيره أن يكون ذا رأى وخبرة في الأمور، وتأن وتجربة وعدم تسرع، وأن يكون صالحًا في دينه لأن من ليس بصالح في دينه ليس بأمين حتى وإن كان ذكياً وعاقلاً ومحنكاً في الأمور..

فإذا لم يكن صالحا في دينه فلا خير فيه، وليس أهلا لأن يكون من أهل المشورة؛ لأنه إذا كان غير صالح في دينه؛ فإنه ربما يخون والعياذ بالله ويشير بما فيه الضرر أو يشير بما لا خير فيه..

ولو كان رجلا صالحاً ديناً أميناً لكنه مغفل ما يعرف الأمور، أو متسرع لا خبرة له؛ فهذا أيضا لا تحرص على استشارته؛ لأنه ربما إذا كان مغفلاً لا يدري عن الأمور يأخذ الأمور بظواهرها ولا يعرف شيئاً مما وراء الظواهر وكذلك إذا كان متسرعاً فإنه ربما يحمله التسرع على أن يشير عليك بما لا خير فيه، فلابد في المستشار أن يكون ذا خبرة وذا رأي وصلاح في الدين..

رابعها: قال ابن أبي جمرة -رحمه الله تعالى-: "الاستخارة في الأمور المباحة وفي المستحبّات إذا تعارضا في البدء بأحدهما، أمّا الواجبات وأصل المستحبّات والمحرّمات والمكروهات كلّ ذلك لا يستخار فيه. وقال: الحكمة في تقديم الصّلاة على دعاء الاستخارة: أنّ المراد حصول الجمع بين خيري الدّنيا والآخرة فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصّلاة لما فيها من تعظيم اللّه والثّناء عليه والافتقار إليه مآلاً وحالاً".

أسأل الله -تعالى- بمنه وكرمه أن يجعلنا من المستنين بسنة نبينا إنه جواد كريم..

الخطبة الثانية:

أما بعد: فلقد جاء فضل الاستخارة وخيرُها في حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى الله عَزَّ وَجَلَّ"، قال ابن حجر -رحمه الله- بالفتح: "أخرجه أحمد وسنده حسن".

وقد قيل الأحمق من قطعه الاستبداد عن الاستخارة، والعجب بنفسه عن الاستشارة، وكفى بمدحها قوله -تعالى- ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ(159)﴾ [آل عمران: 159] لكن لا يشاور إلا أمينًا حاذقًا ناصحًا مجربًا ثابت الجأش غير معجب بنفسه، ولا متلون في رأيه ولا كاذب في مقاله، فمن كذب لسانه كذب رأيه ويجب كونه فارغ البال وقت الاستشارة..

وقال بعض الحكماء: "من أُعطي أربعاً لم يمنع أربعاً: من أُعطي الشكر لم يُمنع المزيد، ومن أُعطي التوبة لم يُمنع القبول، ومن أُعطي الاستخارة لم يُمنع الخيرة، ومن أُعطي المشورة لم يُمنع الصواب".

قال بعض السّلف: "من حقّ العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرّأي الفذّ ربّما زلّ، والعقل الفرد ربّما ضلّ".

فعلى هذا، فمن ترك الاستخارة والاستشارة يخاف عليه من التّعب فيما أخذ بسبيله لدخوله في الأشياء بنفسه دون الامتثال للسّنّة المطهّرة وما أحكمته في ذلك.

وبعد أيها الإخوة: الواجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمتها إليه والتبرؤ من الحول والقوة، وينبغي له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها، حتى يستخير الله فيه، ويسألَه أن يحملَه فيه على الخير، ويصرفَ عنه الشر؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كل أمر والتزامًا لذُلِ العبودية له، وتبركًا باتباع سُنَّةِ نبيّه -صلى الله عليه وسلم- في الاستخارة، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن؛ لشدة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلها كشدّةِ حاجتهم إلى القراءة في كل الصلوات..

فإذا قدَّرَ اللهُ للمستخير شيئًا بعد هذه الاستخارة فهو خير له يمضي ويتوكل على الله، وإن صرف الله همته عنه فهذا يعني بأنه ليس بخير له..

وينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكونَ على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة؛ فإنه يدعو كريمًا، وقد قال ابنُ عيينة: "لا يمنعن أحداً الدعاءُ ما يعلم في نفسه يعني من التقصير؛ فان اللهَ قد أجاب دعاء شرِ خلقه وهو إبليس حين ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(15)﴾ [الأعراف:14،15].

وصلوا وسلموا..