لا تغضب

عناصر الخطبة

  1. قصة معن بن زائدة مع أعرابي تعمد إغضابه وحلم معن عنه وإكرامه له
  2. خطر الغضب ومعايبه
  3. حلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وعفوه وكرمه
  4. الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في الحلم ومجاهدة النفس على ترك الغضب
  5. بعض الوسائل المعينة على ترك الغضب والتخلص منه
اقتباس

الغَضَبُ جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ في القَلْبِ فَيَفُورُ منْهَا دمُ القَلْبِ، وَتَنْتَفِخُ الأَوْدَاجُ، وَيَذْهَبُ العَقْلُ، وَتَخِفُّ الحَرَكَاتُ، وَتَنْشَأُ مِنْهُ هيئةٌ قبيحَةٌ، وأَقْوالٌ شَّنِيعَةٌ، وفِعَالٌ ذَّميمَةٌ، وأخلاقٌ رَدِيئةٌ، ويُثيرُ الحَسَدَ، والحِقْدَ، والعَدَاوَةَ، وانتقَامَ المَغْضُوبِ عَليْهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ، وإِرادَةَ السُّوءِ له، والشَّمَاتَةَ بمَصَائِبِهِ، والغَمَّ بسُرُورِهِ، وَإِخْفَاءَ مَحَاسِنِهِ، وَ…

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي مَنَّ على مَنْ شاءَ من عبادِه بمكارمِ الأخلاقِ، وهداهم لما فيه فلاحُهم، وسعادتُهم في الدنيا ويومَ التَّلاقِ.

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملكُ العظيمُ الخلَّاقُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أكرمَ النَّاسِ في الأعمالِ والأخلاقِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسلمَ تسليماً كثيراً.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:200].

أما بعد:

تَذَاكَرَ جماعةٌ فيما بينَهم آثارَ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، وأخبارَ كَرَمِهِ، مُعْجَبِينَ بما هوَ عليهِ من وَفْرَةِ الحِلْمِ، ولِينِ الجانبِ، وغالَوْا في ذلكَ كثيًرا، فقامَ أعرابيٌّ، وأَخَذَ على نفسِهِ أنْ يُغضبَهُ، فأَنْكرُوا عليهِ، ووَعَدُوهُ مِائَةَ بعيرٍ إنْ هوَ فعلَ ذلك.

فعَمَدَ الأعرابيُّ إلى بعيرٍ فسَلَخَهُ، وارْتَدَى بإهابِهِ، واحْتَذَى ببَعْضِهِ جاعلاً باطِنَهُ ظاهرًا، ودَخلَ عليهِ، وأَنْشَأَ يقولُ:

أَتَذْكُرُ إذْ لِحافُكَ جِلْدُ شاةٍ *** وإذْ نَعْلاكَ مِنْ جِلْدِ البَعيرِ

قالَ مَعْنٌ: "أَذْكُرُهُ ولا أَنْسَاهُ".

فقالَ الأعرابيُّ:

فَسُبْحَانَ الَّذي أعطاكَ مُلكًا *** وعَلَّمَكَ الجلوسَ على السَّريرِ

فقالَ مَعْنٌ: "إنَّ اللهَ يُعِزُّ مَنْ يَشاءُ ويُذِلُّ مَنْ يَشاءُ".

فقالَ الأعرابيُّ:

فَلَسْتُ مُسَلِّماً إنْ عِشْتُ دَهرًا *** على مَعْنٍ بتسليمِ الأميرِ

فقالَ مَعْنٌ: "السَّلامُ خَيْرٌ، وليسَ في تَرْكِهِ ضَيْرٌ".

فقالَ الأعرابيُّ:

سأَرْحَلُ عنْ بلادٍ أنتَ فيها *** ولوْ جارَ الزَّمانُ على الفقيرِ

فقالَ مَعْنٌ: "إنْ جاورْتَنَا فَمَرْحَبًا بالإقامةِ، وإنْ جَاوَزْتَنَا فمَصحوبًا بالسَّلامَةِ".

فقالَ الأعرابيُّ:

فجُدْ لي يا ابنَ ناقصةٍ بمالٍ *** فإنِّي قدْ عَزَمْتُ على الْمَسيرِ

فقالَ مَعْنٌ: "أَعْطُوهُ ألفَ دِينارٍ تُخفِّفْ عنهُ مَشاقَّ الأسفارِ" فأَخَذَهَا، وقالَ:

قليلٌ ما أَتَيْتَ بهِ وإنِّي *** لأَطْمَعُ منكَ في المالِ الكثيرِ

فثنِّ فقد أتاك الملك عفواً *** بِلا عَقْلٍ ولا رَأْيٍ مُنيرِ

فقالَ مَعْنٌ: "أعطُوهُ أَلْفًا ثَانِيًا كيْ يكونَ عَنَّا راضيًا".

فتقدَّمَ الأعرابيُّ إليهِ، وقبَّلَ الأرضَ بينَ يديهِ، وقالَ:

سَأَلْتُ اللهَ أنْ يُبْقِيَكَ دهرًا *** فمالَكَ في البَرِيَّةِ منْ نظيرِ

فمنكَ الجُودُ والإفضالُ حقًّا *** وفيضُ يَدَيْكَ كالبحرِ الغَزيرِ

فقالَ مَعْنٌ: "أَعْطَيْنَاهُ على هَجْوِنَا أَلْفَيْنِ، فلْيُعْطَ أَرْبَعَةً على مَدْحِنَا".

قالَ الأعرابيُّ: "بأبي أيُّهَا الأميرُ ونفسي؛ فأَنْتَ نسيجُ وَحْدِكَ في الحِلْمِ، ونَادِرَةُ دَهْرِكَ في الْجُودِ، ولقدْ كُنْتُ في صِفاتِكَ بينَ مُصدِّقٍ ومُكَذِّبٍ، فلمَّا بَلَوْتُكَ صَغُرَ الخبرُ، وأَذْهبَ ضَعْفَ الشَّكِّ قُوَّةُ اليقينِ، وما بَعَثَني على ما فَعَلْتُ إلاَّ مِائَةُ بعيرٍ جُعِلَتْ لي على إِغْضَابِكَ".

فقالَ لهُ الأميرُ: "لا تثريبَ عليكَ، ووصلَهُ بِمِائَتَيْ بعيرٍ؛ نِصْفُها للرِّهَانِ والنِّصْفُ الآخَرُ لهُ".

فيا عبادَ اللهِ: كم أشعلَ الغضبُ من فَتيلٍ؟ وكم أردى من قتيلٍ؟ بسببِه تَرمَّلَ كثيرٌ من الزوجاتِ، وتَيَتَّمَ كثيرٌ من الأبناءِ والبناتِ، تُسفكُ بحضورِه الدِّماءُ، وتُزهقُ بسببِه الأرواحُ، ويخرجُ من المكانِ، والنَّاسُ ما بينَ قاتلٍ ومقتولٍ.

يدخلُ في البيتِ الذي امتلأَ سعادةً وفرحاً، ويقلبُه في لحظةٍ أحزاناً وتَرَحاً، وبعدَ أن كانت العائلةُ في سرورٍ واجتماعٍ، أصبحَ الأبُ أسيرَ الهمومِ ندمانُ، والأمُّ في بيتِ أهلِها لا تُفارِقُها الأحزانُ، والأولادُ بينهم تائهينَ حيارى، إن تركوا أباهم ضاعوا، وإن ذهبوا مع أمِّهم ضاعوا.

كم أثارَ القطيعةَ بينَ الأرحامِ، فلا كلامَ بينَهم ولا زياراتٍ ولا سلامَ.

بسببِه تفرَّقَ الأحبابُ، ومنه اختلفَ الأصحابُ، وبه تهدمُ علاقاتٌ بُنيَتْ في سنينٍ، ويتحوَّلُ الرَّجلُ العاقلُ بسببِه مجنوناً من المجانينَ.

وهنا تتجلى عِظمُ وصيَّةِ الناصحِ الأمينِ -صلى الله عليه وسلم- لذلك الرَّجلِ الذي قالَ له: أَوْصِنِي؟ فَقَالَ -مُوصِيًا لَهُ-: "لاَ تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ -الرَّجلُ السُّؤَالَ- مِرَارًا، والنَّبيُّ -عليه الصلاة والسلام- لا يزيدُ على قولِه: "لاَ تَغْضَبْ" لِعِلْمِهِ بِعُمُومِ نَفْعِهَا، فهو يُرْشِدُ إلى كُلِّ مَا هُوَ أَنْفَعُ.

فالغَضَبُ جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ في القَلْبِ فَيَفُورُ منْهَا دمُ القَلْبِ، وَتَنْتَفِخُ الأَوْدَاجُ، وَيَذْهَبُ العَقْلُ، وَتَخِفُّ الحَرَكَاتُ، وَتَنْشَأُ مِنْهُ هيئةٌ قبيحَةٌ، وأَقْوالٌ شَّنِيعَةٌ، وفِعَالٌ ذَّميمَةٌ، وأخلاقٌ رَدِيئةٌ، ويُثيرُ الحَسَدَ، والحِقْدَ، والعَدَاوَةَ، وانتقَامَ المَغْضُوبِ عَليْهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ، وإِرادَةَ السُّوءِ له، والشَّمَاتَةَ بمَصَائِبِهِ، والغَمَّ بسُرُورِهِ، وَإِخْفَاءَ مَحَاسِنِهِ، وَإِظْهَارَ مَعَائِبِهِ، وغَيرَ ذلكَ من الأمورِ السيَّئةِ.

فدلَّ ذلك على أن الغضبَ هو جماعُ الشَّرِّ، وأن التحرُّزَ منه هو جماعُ الخيرِ.

ومن تأملَ في سيرتِه عليه الصلاة والسلام وهو يبحثُ عن سرِّ ذلك الثَّناءِ العظيمِ، من ربِّ العرشِ العظيمِ في قولِه تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم:4].

فإنه سيجدُ الحِلْمَ ظاهراً في أخلاقِه ومواقفِه.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ، غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ؟ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.

لا تَضْربَنَّ بِه في حِلمِه مَثلاً *** فَماله في البَرايا يُعرفُ المَثلُ

قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: "مَا مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ لِأَنْ أُخَالِطَهُ، فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ مِنْ جَهْلِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا مِنَ الْحُجُرَاتِ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-، فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ كَالْبَدَوِيِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بُصْرَى قَرْيَةُ بَنِي فُلَانٍ قَدْ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَكُنْتُ حَدَّثْتُهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَتَاهُمُ الرِّزْقُ رَغَدًا، وَقَدْ أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ وَشِدَّةٌ وَمَحُوطٌ مِنَ الْغَيْثِ، فَأَنَا أَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ طَمَعًا، كَمَا دَخَلُوا فِيهِ طَمَعًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ تُعِينَهُمْ بِهِ فَعَلْتَ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: مَا بَقِيَ مَعَكَ مِنْهُ شَيْءٌ؟.

قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ لَكَ أَنْ تُبِيعَنِي تَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: "لَا يَا يَهُودِيُّ، وَلَكِنِّي أُبِيعُكَ تَمْرًا مَعْلُومًا إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا أُسَمِّي حَائِطَ بَنِي فُلَانٍ".

قُلْتُ: نَعَمْ، فَبَايَعَنِي، فَأَطْلَقْتُ هِمْيَانِي فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَعْطَاهُ الرَّجُلَ، وَقَالَ: "احْمِلْ إِلَيْهِمْ وَأَعِنْهُمْ".

قَالَ زَيْدٌ: فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحِلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى جِنَازَةٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ دَنَا مِنْ جِدَارٍ لِيَجْلِسَ إِلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَقْضِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي، فَوَ اللهِ مَا عَلِمْتُكُمْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمُطْلٌ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُمَاطَلَتِكُمْ عِلْمٌ، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ، وَإِذَا عَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهٍ كَالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ، أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَسْمَعُ، وَتَصْنَعُ مَا أَرَى، اكْفُفْ يَدَكَ، فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلَا مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ.

وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَبَسُّمٍ، ثُمَّ قَالَ: "يَا عُمَرُ، أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا؛ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ، وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التَّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ، فَأَعْطِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا رُعْتَهُ".

قَالَ زَيْدٌ: فَذَهَبَ بِي عُمَرُ فَأَعْطَانِي حَقِّي وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُزِيدَكَ مَكَانَ مَا رُعْتُكَ، فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لَا، فَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ، قَالَ: الْحَبْرُ؟ قُلْتُ: الْحَبْرُ، قَالَ: فَمَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ فَعَلْتَ بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا فَعَلْتَ، وَقُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ؟ قُلْتُ: يَا عُمَرُ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا تُزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، فَقَدْ خَبَرْتُهُمَا، فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- نَبِيًّا، وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مَالِي صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فَرَجَعَ عُمَرُ وَزَيْدٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ زَيْدٌ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَتَابَعَهُ.

وَشَهِدَ مَعَهُ مَشَاهِدَ كَثِيرَةً، وتُوُفِّيَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، فرَحِمَ اللهُ زَيْدًا.

فيا أهلَ الإيمانِ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فإيَّاكم والغضبَ، فإنه إذا حضرَ أصبح هو الآمرَ النَّاهي، اسمع إلى قولِه تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾[الأعراف:150].

ففعلَ أموراً: ﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾[الأعراف:150].

ثُمَّ قالَ تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾[الأعراف:154].

فكأنَ الغضبَ هو الذي كانَ يقولُ له: ألقِ الألواحَ من يدِك، وكانَ فيها كلامُ اللهِ -تعالى-، وأمسكْ برأسِ أخيكَ ولحيتِه، وهو نبيٌّ من الأنبياءِ، والإنسانُ الغضبانُ يكونُ تحتَ تصرُّفِ الغضبِ وأمرِه.

فأوصيكم ونفسي بتركِ الغضبَ، ومجاهدةِ النَّفسِ في ردِّه، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ".

ولعلك إذا سعيتَ في أسبابِ الحلمِ أن تكونَ يوماً أحلمَ من معنٍ، الذي يُضربُ به المَثلُ في الحلمِ، بل ما هو خيرٌ لكَ من ذلك، وهو الاقتداءُ بسيِّدِ البشرِ، صاحبِ الخُلُقِ العظيمِ، والمقامِ الكريمِ -صلى الله عليه وسلم-.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ رَسُولِنَا الْكَرِيمِ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاَةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَنَسْأَلُهُ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَفَرَّدَ بِالْعَظَمَةِ وَالْجَلاَلِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ كَرِيمُ الشِّيَمِ وَالْخِصَالِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ خَيْرِ صَحْبٍ وَآلٍ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مَا تَعَاقَبَتِ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فيا عبادَ اللهِ: قد لا يستطيعُ الإنسانُ أن يمنعَ نفسَه من الغضبِ، ولكنَّ هناكَ أموراً يستطيعُ الإنسانُ أن يتَّخلصَ بها من الغضبِ.

منها: الاستعاذةُ باللهِ من الشَّيطانِ؛ فعن سليمانَ بنِ صُرَدَ -رضي الله عنه- قالَ: "كنتُ جالسًا مع النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورَجلانِ يَسْتَبَّانِ، فأحدُهما احْمَرَّ وجْهُه، وانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُه، فقالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُمَا يَجِدُ لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ".

ومنها: السكوتُ عندَ الغضبِ؛ كما في حديثِ: "وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ".

حتى لا يتلفظَ بشيءٍ، فيندمُ عليه حينَ لا ينفعُ النَّدمُ.

ومنها: جلوسُ القائمِ، واضطجاعُ القاعدِ عند الغضبِ؛ كانَ أبو ذَرٍّ -رضي الله عنه- يَسْقِي عَلَى حَوْضٍ لَهُ فَجَاءَ قَوْمٌ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُورِدُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، وَيَحْتَسِبُ شَعَرَاتٍ مِنْ رَأْسِهِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا؛ فَجَاءَ الرَّجُلُ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الْحَوْضَ فَدَقَّهُ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ قَائِماً فَجَلَسَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ لِمَ جَلَسْتَ ثُمَّ اضْطَجَعْتَ؟ قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لنَا: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْ".

ومنها: العلمُ بأن القوَّةَ الحقيقيَّةَ، هي في كظمِ الغيظِ، وعدم الاستسلامِ لثورةِ الغضبِ، فالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِقَوْمٍ يَصْطَرِعُونَ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟" قَالُوا: فُلَانٌ مَا يُصَارِعُ أَحَدًا إِلَّا صَرَعَهُ، قَالَ: "أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟ رَجُلٌ كَلَّمَهُ رَجُلٌ فَكَظَمَ غَيْظَهُ فَغَلَبَهُ وَغَلَبَ شَيْطَانَهُ، وَغَلَبَ شَيْطَانَ صَاحِبِهِ".

واللهُ -سبحانه وتعالى- وصفَ أهلَ الجنَّةِ بقولِه: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[آل عمران:134].

وقالَ عنهم: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾[الشورى:37].

ومنها: معرفةُ أجرِ تركِ الغضبِ، قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ علِّمْني عملًا أدخُلُ به الجَنَّةَ؟ قالَ: "لا تغضَبْ ولك الجَنَّةُ".

بل ومعرفةُ ما لكَ من الأجرِ إذا كظمتَ غيظَكَ عندَ الغَضبِ، كما في الحديثِ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ -عز وجل- عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ".

وعليكم بالدُّعاءِ الدُّعاءِ، والالتجاءِ الالتجاءِ، فلا يُنجينا إلا من في السَّماءِ.

اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الإِخْلاَصِ فِي الغَضَبِ وَالرِّضا، وَنَسْأَلُكَ القَصْدَ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى، وَنَسْأَلُكَ نَعِيماً لاَ يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَنَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الكَرِيمِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.

‏اللَّهُمَّ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذْ هَدَيتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ.

اللَّهُمَّ أَلهِمْنَا ‏‏رُشدَنَا، وَأَعِذْنَا مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا.

اللَّهُمَّ اهدِنَا لأَحسَنِ الأَعمَالِ، وَأَحسَنِ الأَخلاقِ لا يَهدِي لأَحسَنِهَا إِلاَّ أَنتَ، وَقِنَا سَيِّئَ الأَعمَالِ، وَسَيِّئَ الأَخلاقِ لا يَقِي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنتَ.

اللهم أصلحْ فسادَ قلوبِنا، وارحمْ ضعفَنا، وحَسِّنْ أخلاقَنا.

اللهم اجمعْ كلمةَ المسلمينَ على التَّوحيدِ يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم ألِّفْ بينَ قلوبِهم.

اللهم إنا لأنفسِنا ظالمونَ، ومن كثرةِ ذنوبِنا خائفونَ، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ يا أرحمَ الراحمينَ، فاغفرْ لنا إنك أنت الغفورُ الرحيمُ.

سبحانَك اللهم وبحمدِك، نشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ نستغفرُك ونتوبُ إليك.