الاعتذار والرجوع إلى الحق نماذج وقصص

عناصر الخطبة

  1. المتكبر يرد الحق ولا يقبله
  2. الحق يؤخذ ممن كان
  3. نماذج لقبول السلف للحق وتراجعهم عن أخطائهم
  4. توديع عام واستقبال عام جديد
  5. من علامة توفيق الله للعبد
  6. فضل صيام يوم عاشوراء
اقتباس

انظروا وتأملوا -معاشر المسلمين- إلى صدقِ وسلامةِ قلوب سلفنا الصالح, يفرحون بمن يُخبروهم بأخطائهم وعُيُوبهم, ويتمنى بعضُهم أنْ لو كان غنيًّا فيُكافئ مَن يدُلُّهم على خطئهم, فقارنوا هذا مع حال كثيرٍ من عامَّتنا وخاصَّتنا, حيث يجدون حرجاً إذا نُبِّهوا على خطأٍ فيهم, وينتقدونه بأنه ليس أهلاً أنْ يُخطِّئَهَم, وسلفُنا الصالح -رحمهم الله- يُعلنون في منابرهم أنهم قد أخطؤوا…

الخطبة الأولى:

الحمد لله الملكِ المعبود, الرؤوفِ الرحيمِ الودود, الحمدُ لله الَّذي لم يتَّخذ ولداً وقدَّر خلقهُ تقديرا, وأعوذُ باللهِ العليّ مكانه ذي العرش لم أعلم سواه مجيرا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, شهادةً نتبوأ بها من الجنان السدرَ المخضود, والطلحَ المنضود والظل الممدود, وأشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبده ورسوله, أكرمُ مبعوث وأشرف مولود, صاحبُ المقام المحمود, واللواءِ المعقود, والحوضِ المورود, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلمَّ تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنَّ السلف الصالح -رحمهمُ الله-, ضربوا أروع الأمثلة في قبول الحقّ من أيٍّ أحدٍ كان, والرُّجوعِ إليه, وعدمِ الحرج من ذلك, لعلمهم بأنَّ عدمَ الاعترافِ بالحق: هو الكِبْر بعينه, كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الكِبْر بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناسِ". فالمتكبر يرد الحق، ويُعرض عنه ولا يقبله؛ لأنه معتدٌّ برأيه، جازمٌ بصواب عمله, ومع ذلك يحتقر الناس ويزدريهم؛ لأنه يرى نفسه فوقهم.

وقد سُئل أحدُ الحكماء: "ما التواضع؟" قال: "ألا تقابل أحداً إلا رأيت له الفضل عليك، بكلمةٍ قالها لك، أو معروفٍ أسداه إليك، أو ابتسامةٍ قابلك بها".

علامةُ شكرِ المرء إعلانُ حمده *** فمن كتم المعروف منهم فما شكر

قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ، لَمْ يَشْكُرِ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-". [رواه الإمام أحمد وصححه الألباني] قال ابن القيم -رحمه الله-: "من علامات الخشوع: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا خُولِفَ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ: اسْتَقْبَلَ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ". وقال -رحمه الله-: "لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ, حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ, وَمِمَّنْ تُبْغِضُ, فَتَقْبَلُهُ مِنْ عَدُوِّكَ, كَمَا تَقْبَلُهُ مِنْ وَلِيِّكَ". ا.ه كلامه.

فالحق -يا عباد الله- يُقبل من أيِّ أحد, لِكونه موافقاً للدليل، فلا أثر للمتكلم به في قبوله أو رفضه، ولهذا كان أهل السنة, يقبلون ما عند جميع الطوائف من الحق، ويردون ما عندها من الباطل، بغض النظر عن الموالي منها أو المعادي. قال ابن القيم -رحمه الله-: "فمن هداه الله -سبحانه- إلى الأخذ بالحق حيث كان, ومع مَن كان، ولو كان مع من يُبغضه ويعاديه، وردَّ الباطل مع من كان, ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدى اللهُ لما اختُلف فيه من الحق". ا.ه كلامه, وكان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يقول: "اقبلوا الحق من كلِّ مَن جاء به، وإن كان كافراً أو فاجراً".

وهذه – يا أمة الإسلام- بعض النماذج الجميلة, والأمثلة العظيمة, في قبول الحق, والرُّجوعِ إليه, دون تكبُّرٍ وأنَفة:

قال ابن كثير -رحمه الله-: "سُئل عبد الله بنُ الحسن العنبريُّ -رحمه الله- وهو يومئذ قاضي البصرة, وله مكانةٌ ومنزلةٌ عند الناس, سُئل عن مسألةٍ فأخطأ في الجواب، فقال له صبيٌّ أمام الناس: أخطأتَ أيها القاضي, الحكم فيها كذا وكذا, فطأطأ رأسه قليلاً ثم قال: إذاً أرجع وأنا صاغر، لَأن أكون ذَنَباً في الحق, أحبُّ إليَّ مِن أنْ أكون رأسًا في الباطل". لم يستثقل كلمةَ الحق من صبيٍّ صغير, قالها أمام الناس وأمام مُحبِّيه, فهذا هو الصدقُ والإخلاص.

وهذا الإمامُ المفسرُ البَقاعيُّ -رحمه الله- يقول في كتابه (مقاصدُ النظر): "ما تركت أحداً ممن يُلِمُّ بي إلا قلتُ له: من وجد لي خطأً فليخبرني به لِأُصْلحه ، ووالله الذي جلَّت قدرته، وتعالَتْ عظمته، لو أن لي سعةً تقومُ بما أُريد, لكنتُ أبذل مالاً لمن يُنبهني على خطئي، فكلما نبهني أحدٌ على خطأ أعطيته ديناراً. ولقد نبهني غيرُ واحدٍ على أشياءَ فأصلحتها، وكنت أدعو لهم وأُثني عليهم".

وقال ابن العربي -رحمه الله-: "أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ قال: جِئْت مَجْلِسَ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ- والجوهريُّ من أئمة اللغة وحُفَّاظها- قال: وَحَضَرْت كَلَامَهُ عَلَى النَّاسِ, فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِي أَوَّلِ مَجْلِسٍ جَلَسْت إلَيْهِ: إنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَلَّقَ وَظَاهَرَ وَآلَى, فَلَمَّا خَرَجَ تَبِعْته وقُلْت لَهُ: سَمِعْتُك تَقُولُ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَدَقْت, وَطَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَدَقْت , وَقُلْت: وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, وَهَذَا لَمْ يَكُنْ, وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ; لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ; وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

فَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ وَقَبَّلَ رَأْسِي وَقَالَ لِي: أَنَا تَائِبٌ مِنْ ذَلِكَ, جَزَاك اللَّهُ عَنِّي مِنْ مُعَلِّمٍ خَيْرًا, ثُمَّ انْقَلَبْتُ عَنْهُ, وَبَكَّرْت إلَى مَجْلِسِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي, فَأَلْفَيْته قَدْ سَبَقَنِي إلَى الْجَامِعِ, وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ, فَلَمَّا دَخَلْتُ مِنْ بَابِ الْجَامِعِ وَرَآنِي, نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَرْحَبًا بِمُعَلِّمِي, أَفْسِحُوا لِمُعَلِّمِي, فَتَطَاوَلَتْ الْأَعْنَاقُ إلَيَّ, وَحَدَّقَتْ الْأَبْصَارُ نَحْوِي حَتَّى بَلَغْتُ الْمِنْبَرَ, وَأَنَا لِعَظْمِ الْحَيَاءِ, لَا أَعْرِفُ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ أَنَا مِنْ الْأَرْضِ, وَالْجَامِعُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ, وَأَسَالَ الْحَيَاءُ بَدَنِي عَرَقًا, وَأَقْبَلَ الشَّيْخُ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا مُعَلِّمُكُمْ, وَهَذَا مُعَلِّمِي.

لَمَّا كَانَ بِالْأَمْسِ قُلْت لَكُمْ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَطَلَّقَ وَظَاهَرَ , فَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَقُهَ عَنِّي وَلَا رَدَّ عَلَيَّ, فَاتَّبَعَنِي هذا إلَى مَنْزِلِي, وَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا, وَأَعَادَ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ, وَأَنَا تَائِبٌ عَنْ قَوْلِي بِالْأَمْسِ, وَرَاجِعٌ عَنْهُ إلَى الْحَقِّ; فَمَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ حَضَرَ فَلَا يُعَوِّلْ عَلَيْهِ, وَمَنْ غَابَ فَلْيُبَلِّغْهُ مَنْ حَضَرَ, فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا, وَجَعَلَ يَحْفُلُ فِي الدُّعَاءِ, وَالْخَلْقُ يُؤَمِّنُونَ".

قال ابن العربي -رحمه الله-: "فَانْظُرُوا -رَحِمَكُمْ اللَّهُ- إلَى هَذَا الدِّينِ الْمَتِينِ, وَالِاعْتِرَافِ بِالْعِلْمِ لِأَهْلِهِ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَإِ, مِنْ رَجُلٍ ظَهَرَتْ رِيَاسَتُهُ, وَاشْتُهِرَتْ نَفَاسَتُهُ, لِغَرِيبٍ مَجْهُولِ الْعَيْنِ, لَا يُعْرَفُ مَنْ وَلَا مِنْ أَيْنَ, فَاقْتَدُوا بِهِ تَرْشُدُوا". ا.ه كلامه.

وهذا الحافظ عبد الغنيِّ -رحمه الله- ألَّف كتابًا فيه أوهامُ وأخطاءُ الحاكم أبي عبدِ اللهَ, صاحبِ الْمُستدركِ على الصحيحين، فلما وقف عليه الحاكمُ -رحمه الله-, جعل يقرأه على الناس، ويعترف لعبد الغنيِّ بالفضل، ويشكره على ذلك، ويرجعُ إلى ما أصاب فيه من الردِّ عليه، -رحمهما الله-.

انظروا وتأملوا -معاشر المسلمين- إلى صدقِ وسلامةِ قلوب سلفنا الصالح, يفرحون بمن يُخبروهم بأخطائهم وعُيُوبهم, ويتمنى بعضُهم أنْ لو كان غنيًّا فيُكافئ مَن يدُلُّهم على خطئهم, فقارنوا هذا مع حال كثيرٍ من عامَّتنا وخاصَّتنا, حيث يجدون حرجاً إذا نُبِّهوا على خطأٍ فيهم, وينتقدونه بأنه ليس أهلاً أنْ يُخطِّئَهَم, وسلفُنا الصالح -رحمهم الله- يُعلنون في منابرهم أنهم قد أخطؤوا, وأنَّ فلانًا من الناس هو مَن دلَّهم على ذلك, ويشكرونه ويُثنون عليه أمام الناس.

فما أعظم هذا المنهجَ -يا أمة الإسلام- فلْنسر على هذا الخُلُقِ العظم, ولْنقبلِ الحق ونأخذْ به, ولا نتحرَّجْ أبداً من ذلك, ولْنعترفْ بالفضل لمن جاء به.

نسأل الله -تعالى- أنَّ يُعيننا على قبول الحق وأخذه, وردِّ الباطلِ ودحره, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الواحدِ القهار، يُكوِّرُ النهار على الليل, ويُكوِّرُ الليل على النهار، والصلاة والسلام على الْمُصطفى الْمُختار، وعلى آله وصحبه الأخيار, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم القرار.

أما بعد:

أيها المسلمون: ها نحن قبل أيامٍ أنهينا عامًا كاملاً, قضينا فيه ما يحلوا لنا من سفريَّاتٍ وجلسات, كم نطق لسانُنا فيه من كلمة, وكم شاهدت أعيننا فيه من صورة, وكم تقلبنا فيه من نعمة, وكم عقدنا فيه من نيَّة, هذا ما نذكر ونستحضره, وما لا نذكره أكثر وأعظم, وهكذا سنفعل هذا العام, سنكرر ما فعلناه في العام السابق, ثم ماذا؟ ثم تنتهي أعمارُنا ونحن على ذلك, ثم نقف بين يدي اللهَ تعالى, فيسألنا عن كلِّ شيءٍ ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49].

انقضاء العام هو انقضاءٌ للأعمار, قال الحسن البصري -رحمه الله-: "يا ابن آدم: إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك". وما أجمل أنْ نتأمل هذه الآية – يا عباد الله-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 23].

أمة الإسلام: إن من علامة توفيق الله للعبد: أن يستفتح عامه بأعمال صالحة، وطاعاتٍ جليلة، وإن من أعظم الطاعات والقربات: صيامُ شهر الله المحرم أو بعضِه. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفضلُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ المكتوبةِ الصلاةُ في جوفِ الليلِ, وأفضلُ الصيامِ بعدَ شهرِ رمضانَ, صيامُ شهرِ اللهِ المحرَّمِ" [رواه مسلمٌ].

ويتأكَّدُ صيامُ يومِ عاشوراءَ, وهوَ العاشِرُ مِنْ محرَّمٍ؛ فقدْ حثَّ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – على صِيامهِ, لنيلِ ثوابِهِ واغتنامِهِ, فعَنْ أبي قَتَادَةَ -رضي الله عنه-, أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-, سُئِلَ عنْ صيامِ يومِ عاشوراءَ فقالَ: "يكفِّرُ السنةَ الماضيةَ". [رواه مسلمٌ].

ويسنُّ صِيامُ التاسِع مَعَه؛ لقولِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم -: "لِئنْ بَقيتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ التاسعَ" أي : مع العاشر. [رواه مسلم].

نسأل الهه تعالى أنْ يُحْسن ختامنا, وأنْ يختم عامنا الْمُنصرم بالمغفرة والرحمة, إنه على كلِّ شيءٍ قدير.