نعمة السكن وآداب الاستئذان عليه

عناصر الخطبة

  1. نعم الله على عباده كثيرة
  2. البيوت من نعم الله على العباد
  3. ضوابط الدخول على الناس في بيوتهم
  4. القرآن منهاج حياة
  5. الاستئذان أدب رفيع وفوائده جمة
  6. إيضاح لمفهوم العورات
  7. آداب الاستئذان
  8. السكن والطمأنينة في البيوت نعمة جليلة
اقتباس

السكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشردون الذين لا بيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة.. ولا يعرف أهميتها حق المعرفة إلا أولئك المداهمون في دورهم في أي لحظة، أو المعرضة بيوتهم لنيران أعدائهم وقصفهم.. وكم في هذا العالم من خائف وشريد وطريد.. نعم إن التذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة العظيمة؛ فيستجيشها.. ويذكي الشكر لله على ما أنعم به علينا ..

أيها الإخوة: نعم الله على عباده كثيرة منها ما منَّ به عليهم من إيجاد البيوت، فقال سبحانه لافتًا أنظارهم لهذه النعمة: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ(80)﴾ [النحل: 80] في هذه الآية يذكرنا تعالى بنعمه السكن، ويستدعي منا شكرها والاعتراف بها، فقد أوجد لنا الدور والقصور ونحوها تكنُّنا من الحر والبرد وتسترنا وأولادنا وأمتعتنا.. نَفِيءُ إليها فتسكن أرواحنا وتطمئن نفوسنا ونأمن على عوراتنا وحرمتنا.. ونُلقي في كَنَفِها أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب..

(وَجَعَلَ لنا مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ) من الجلد نفسه أو مما نبت عليه، من صوف وشعر ووبر. ﴿بُيُوتًا﴾ خفيفة الحمل تكون لنا في السفر والمنازل التي لا قصد لنا في استيطانها، فتقينا ومتاعنا من الحر والبرد والمطر.

والبيوت أيها الأحبة: لا تكون كذلك إلا حين تكونُ حرمًا آمنًا لا يستبيحه أحدٌ إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس.. لذلك أمر الله تعالى بالاستئذان وأوجبه فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)﴾ [النور: 27- 29].

نعم إن القرآن منهاج حياة، يعتني بكل جوانب الحياة الاجتماعية وغيرها كبيرها وصغيرها والاستئذان أدب رفيع، يحفظ للبيوت حرمتها، وإنها لحرمات عظيمة تطويها بيوت المسلمين، وأي حرمة أعظم من هذه الحرمة التي تجعل المصطفى صلى الله عليه وسلم يهدر عين من اطلع على دار قوم بغير إذنهم، ففي الصحيحين من حديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ»، وفيهما عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ». (قال في النهاية المِدْرَى والمِدْرَاة: شيء يُعْمل من حَديد أو خَشبٍ على شَكْل سِنّ من أسْنان المشْطِ وأطْوَل منه يُسرَّح به الشَّعَر المُتَلبِّد ويَسْتَعْمله من لا مُشط له).

إن الاستئذان يحقق للبيوت حُرمتَها ويجنبُ أهلَها الحرجَ الواقعَ من المفاجأة والمباغتة، والتأذي بانكشاف العورات.. والعوراتُ كثيرة نعني بها غيرَ ما يتبادر إلى الذهن من عورة البدن وحدها، وإنما يضاف إليها عورات الطعام، وعورات اللباس، وعورات الأثاث التي لا يحب أهل البيوت أن يفاجئَهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد.. وهي عورات المشاعر والحالة النفسية فكم من الناس من لا يحب أن يراه أحدٌ وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر، ولا وهو غاضب من أمر مغضب.. ولا وهو يتوجع لألم يخفيه عن الأقرباء..

أيها الإخوة: لا يحل للمسلم أن يدخل بيتًا غير بيته إلا بإذن سواء أكان الباب مفتوحًا أو مغلقًا.. سواء أكان فيه ساكن أم لم يكن.. لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا(27)﴾ أي تستأذنوا وعبر بالاستئناس إيحاء بلطف الاستئذان ولطف الطريقة؛ لأن للبيوت حرمتها فلا يجوز أن تنتهك هذه الحرمة.. ولأن الاستئذان ليس للسكان أنفسهم خاصة.. بل لأنفسهم ولأموالهم؛ لأن الإنسان كما يتخذ البيت سترًا لنفسه يتخذه سترًا لأمواله التي يكره اطلاع الناس عليها..

أيها الأحبة: ولما أوجب الله سبحانه الاستئذان جعل له آدابًا على المستأذن أن يتأدب بها.. الأول: أن يستأذن ثلاثًا فإن لم يجبه أحد فلينصرف.. قال أبو سعيد: «كنتُ في مجلسٍ من مجالسِ الأنصار، إِذ جاء أبو موسى كأنه مَذْعورٌ، فقال: استأذنتُ على عمرَ ثلاثًا فلم يُؤذَنْ لي، فرجعتُ، فقال عمر: ما مَنَعَكَ.؟ قلتُ: استأذنتُ ثلاثًا، فلم يُؤذَنْ لي، فرجعتُ، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِذا استأذَنَ أحدُكُم ثلاثًا، فلم يُؤذَنْ له فلْيَرْجِعْ، فقال: والله لَتُقِيمنَّ عليه بَيِّنة..! أمِنْكم أحدٌ سمعَهُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم.؟ قال أُبَيُّ بنُ كعبٍ: فوالله لا يقومُ معك إِلا أصغرُ القوم، فكنتُ أصغرَ القوم، فقمتُ معه، فأخبرتُ عمرَ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك». رواه البخاري ومسلم.

ومنها أن لا يستقبل الباب بوجهه بل يجعله عن يمينه أو شماله فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى بابًا يريد أن يستأذن لم يستقبله، جاء يمينًا وشمالاً، فإن أُذن له وإلا انصرف. رواه البخاري في الأدب المفرد، وقال الألباني حديث حسن صحيح.. وعن هُزَيْلِ بن شرحبيل رضي اللَّه عنه قال: جاء رجلٌ وفي رواية: سعد فوقف على باب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب وفي رواية: مستقبلَ الباب فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذانُ من النظر. أي يمينا أو شمالا. رواه أبو داود وصححه الألباني..

أيها الإخوة: لقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل العلة في هذا الأمر وهي أن الاستئذان من أجل النظر.. لأن المستأذن إذا وقف تلقاء الباب فإنه يطلع على ما في الدار إذا فتح الباب، وأكثر ما يحصل النظر في البيوت بغير إذن ناتجٌ عن المخالفة في الوقوف على الباب أثناء الاستئذان وهو أمر محرم، فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن؛ فإن فعل فقد دخل». (أي إذا نظر إلى جوف البيت فقد دخل) رواه البخاري في الأدب المفرد وقال الألباني حديث صحيح.

ومن الآداب أيضًا أن يرعى المستأذن الوقت فلا يحضر في وقت غير مناسب وإن تيسر له ترتيب وقت زيارته هاتفيًّا قبل الزيارة فحسن لما فيه من حفظٍ لوقته والراحة لأخيه المسلم. وفقنا الله جميعًا لفعل الخيرات.

الخطبة الثانية:

أما بعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70- 71].

أيها الإخوة: ومن الآداب التي أهملها كثير من الناس عدم ذكر اسمه إذا قيل له" من؟ أو من بالباب؟ فتجده يقول: أنا! والواجب على المستأذن أن يخبر باسمه فإن ذلك أدعى وأسرع لإجابته وتلبيةِ طلبه وهو أكثرُ طمأنينة لأهل البيت بقدومه.. في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي فَدَقَقْتُ الْبَابَ؛ فَقَالَ: مَنْ ذَا.؟ فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: أَنَا. أَنَا كَأَنَّهُ كَرِهَهَا. قال بن القيم رحمه الله: وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم أَنّ الْمُسْتَأْذِنَ إذَا قِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ.؟ يَقُول: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَوْ يَذْكُرُ كُنْيَتَهُ أَوْ لَقَبَهُ وَلَا يَقُولُ أَنَا، كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ لَمّا اسْتَفْتَحَ بَابَ السّمَاءِ فَسَأَلُوهُ مَنْ.؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ.. وَاسْتَمَرّ ذَلِكَ فِي كُلّ سَمَاءٍ..

ومن الآداب: دق الباب بلطف فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَت أبواب رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم تُقْرَعُ بِالأَظَافِيرِ. رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني. وكون الصحابة يقرعون الباب بالأظافير من المبالغة في الأدب والتوقي والإجلال.. وهذا حسنٌ لمن قرب محله من بابه، أما من كان بعيدًا عن الباب فبقدر ما يبلغه. وفي هذا الزمان يسر الهح للناس وسائل الاتصال بين الباب وداخل المنزل لكن على المسلم أن يتجنب إزعاج الناس بدق الباب بعنف أو الضغط على جرس الباب باستمرار حتى لا يزعج أصحاب البيت ويؤذيهم..

ومن الأدب أن يجلس الزائر حيث يطلب منه صاحب البيت أن يجلس وإن لم يطلب منه الجلوس في مكان معين فليجلس حيث انتهى به المجلس.. ومن الآداب أن يرجع إذا لم يؤذن له امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [النور: 28] ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة، ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم، أو النفرة منكم. فللناس أسرارهم وأعذارهم. ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم في كل حين. والله بما تعملون عليم.. فهو المطلع على خفايا القلوب، وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات..

وبهذا يضمنُ الإسلام للبيتِ حرمتَه، ليضمنَ له أمنَه وسلامَه واطمئنانَه. فلا يدخله داخلٌ إلا بعد الاستئذان، ولا يقتحمه أحدٌ بغير حق باسم السلطان، ولا يتطلعُ أحدٌ على من فيه لسبب من الأسباب، ولا يتجسسُ أحد على أهله في غفلة منهم أو غيبة، فيروع أمنهم، ويخل بالسكن الذي يريده الإسلام للبيوت..

وبعد أيها الإخوة: السكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشردون الذين لا بيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة.. ولا يعرف أهميتها حق المعرفة إلا أولئك المداهمون في دورهم في أي لحظة، أو المعرضة بيوتهم لنيران أعدائهم وقصفهم.. وكم في هذا العالم من خائف وشريد وطريد.. نعم إن التذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة العظيمة؛ فيستجيشها.. ويذكي الشكر لله على ما أنعم به علينا..