التوكل على الله

عناصر الخطبة

  1. حقيقة التوكل على الله
  2. ثمرات التوكل في حياة العبد
  3. التوكل من أعظم الواجبات على العبد
  4. لا تعارض بين التوكل والأخذ بالأسباب
اقتباس

وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلّها، وتفويض الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه. قال سعيد بن جبير: “التوكل جماع الإيمان”، وقال وهب بن منبه: “الغاية القصوى التوكل”، وقال الحسن: “إن توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته”.

الخطبة الأولى:

إنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِيراً.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

أما بعد:

أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى واعبدوه؛ فإنكم لم تخلقوا في هذه الدّنيا عبثًا، وإنما خلِقتُم لعبادَةِ ربّكم.

أيها الإخوة: حديثنا اليوم عن خصلة من الخصال التي يحبها الله -عز وجل-، والتحلي بها من الواجبات التي أوجبها علينا ربنا، وكثيرًا ما تمر علينا حينما نقرأ كتاب الله، أتدرون ما هذه الصفة الكريمة التي تحلّى بها المؤمنون الصادقون؟! إنها صفة التوكل على الله -عز وجل-، قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [ آل عمران :159]، أي: اعتمد على حول الله وقوته، متبرِّئًا من حولك وقوتك.

وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلّها، وتفويض الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه.

قال سعيد بن جبير: "التوكل جماع الإيمان"، وقال وهب بن منبه: "الغاية القصوى التوكل"، وقال الحسن: "إن توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته".

وعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا". رواه أحمد وقال شاكر: صحيح الإسناد.

إن من أعظم الأسباب التي تجلب الرزق التوكلَ على الله، قال بعض السلف: "بحسبك من التوسّل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه، فكم من عبد من عباده قد فوّض إليه أمره فكفاه منه ما أهمه"، ثم قرأ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2،3].

أيها الأحبة: لو حقّق الناس التوكل على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدوّ والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير، وقال تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران:160].

من علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه وأن من نصره الله لا غالب له ومن خذله لا ناصر له؛ فوّض أموره إليه وتوكل عليه ولم يشتغل بغيره.

وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]، والمعنى أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ولا التفتوا إليه، بل أخلصوا لله وازدادوا طمأنينة ويقينًا، وقالوا: حسبنا الله، أي: كافينا الله، والوكيل هو من توكل إليه الأمور، أي: نعم الموكول إليه أمرنا، أو الكافي أو الكافل.

والمؤمنون يعتمدون بقلوبهم على ربهم في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية، ويثقون بأن الله تعالى سيفعل ذلك. والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا به.

وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159]. إن الخلّةَ التي يحبها الله ويحبّ أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون، بل هي التي تميّز المؤمنين عن غيرهم، والتوكل على الله وردّ الأمر إليه في النهاية هو الحقيقة التي غفل عنها الكثير، وهي حقيقة أنّ مردَّ الأمر كله لله، وأن الله فعال لما يريد.

وقال تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران:174]، قال العلماء: لما فوضوا أمورهم إليه واعتمدوا بقلوبهم عليه أعطاهم من الجزاء أربعة معانٍ: النعمة، والفضل، وصرف السوء، وإتباع الرضا، فرضَّاهم عنه ورضي عنهم.

أيها الأحبة: وهنا فائدة لطيفة، وهي تقديم الجار والمجرور في قوله: ﴿وَعَلَى اللهِ﴾ تفيد الحصر، لم يقل: "فليتوكّل المؤمنون على الله"، وإنما قال: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، فتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، أي: على الله توكلوا لا على غيره؛ لأنه قد علم أنه الناصر وحده، فالاعتماد توحيد محصّل للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار.

وفي تلك الآية الأمر بالتوكل على الله وحده، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكّله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المؤيد ببرهانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيرًا. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:281].

أما بعد:

أيها الإخوة: إن التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، كما أن حب الله ورسوله واجب، وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمَر بالوضوء والغسل من الجنابة، ونهى عن التوكل على غير الله، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود :123]، وقال: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التغابن : 13].

إذا توجّه العبد إلى الله بصدق الافتقار إليه واستغاث به مخلصًا له الدين أجاب دعاءه وأزال ضرره وفتح له أبواب الرحمة، فبذلك يذوق العبد من حقيقة التوكل والدعاء لله ما لم يذقه غيره.

ومن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخلّ بواجب التوحيد، فهو كما أنه مأمور بالأخذ بالأسباب فكذلك هو مأمور بالتوكل؛ ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب، فمن رجا نصرًا أو رزقًا من غير الله خذله الله كما قال علي -رضي الله عنه-: "لا يرجُوَنّ عبد إلا ربه، ولا يخافَنَّ إلا ذنبه"، وقد قال تعالى: ﴿مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر:2].

أيها الإخوة: إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه ونصره وهداه، فأسبغ عليه نعمه، فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.

فإذا كان الأمر كذلك فينبغي للعبد التوكل على الله والاستعانة به ودعاؤه ومسألته دونما سواه، ويقتضي أيضًا محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عباده وإسباغ نعمه عليهم وحاجة العباد إليه في هذه النعم، والقرآن مملوء من ذكر الآيات التي تتحدث عن حاجة العباد إلى ربهم دونما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعَدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا، فإذا استشعرنا ذلك -أيها الإخوة- حقّقنا التوكّلَ على الله والشكر له ومحبته على إحسانه.

وبتجربة الناس والواقع والاستقراء: ما علّق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل. والعبد مفتقر دائمًا إلى التوكل على الله والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلا بد أن يشهد دائمًا فقره إلى الله وحاجته إلى أن يكون معبودًا له وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه.

وصلوا على نبيكم يعظم الله أجركم، فقد قال: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا". رواه مسلم.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهراً وباطنًا، اللهم احشرنا في زمرته واسقنا من حوضه واجمعنا معه في جنات النعيم..

اللهم ارض عن أصحابه الطيبين وآل بيته المكرمين، وعنا معهم ووالدينا ومن نحب يا رب العالمين.

اللهم اجعل هذه الجمعة نصراً لإخواننا المسلمين في سوريا، اللهم اجبر كسرهم، وفرّج همومهم، انصر مجاهدهم، وآوِ مشردهم، واكسُ عاريهم، وأطعم جائعهم، واشف مريضهم، وولّ عليهم خيارهم، وأعدهم إلى بلاهم سالمين غانمين، اللهم أدفئ شتاءهم.

اللهم عليك بعدو الله وعدوهم، اللهم شتت شمله، واهزم جنده، واقتله بيد أنصاره وأعوانه، اللهم عليك بمن تحالف معه ونصره، اللهم وفُلَّ عنه أنصاره واقذف الرعب في قلوبهم.

اللهم اجعل هذه الجمعة فرجًا لكل صابر، وشفاءً لكل مريض، ورحمة ومغفرة لموتانا وموتى المسلمين.