العفة

عناصر الخطبة

  1. معنى العفة وأهميتها
  2. فضل العفة
  3. صور العفة ومجالاتها
  4. ثمار العفة
اقتباس

ومن ثمرات العفة -أيها المسلمون-: النجاة من عواقب الفواحش؛ فالعفيف في مأمن من عواقب الشهوات، وما تورثه من أضرار وعقوبات على النفس والمجتمع؛ لأن العفة فضيلة عظيمة والفضيلة سياج للفرد والمجتمع، وإن من أسباب سقوط المجتمعات…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)﴾[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

أيها المسلمون: خلق عظيم، وسجية كريمة؛ يسمو بها الأفراد وترتفع بفشوها المجتمعات، وتستقيم معها الأخلاق وتكسِب صاحبها الأمن والسعادة في الدنيا ويوم التلاق؛ أعرفتم هذه السجية؛ إنها العفة، والمراد بها؛ تنزيه النفس وضبطها عن الانسياق وراء الشهوات، والكف عن المحرمات والترفع عن سفاسف الأمور ورذائل الأخلاق وخدش المروءة والحياء.

ولعظيم منزلة العفة وأهميتها أرشد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها بقوله، “أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا؛ حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طُعمة“(رواه أحمد).

ولأن الأجر على قدر المشقة؛ فإن ثواب أهل العفاف عند الله عظيم، وأجرهم وافر كريم؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “كان فيمن كان قبلكم رجل اسمه الكفل، وكان لا ينزع عن شيء“، وفي رواية: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله؛ فأتى امرأة علم بها حاجة؛ فأعطاها عطاء كثيرا -وفي رواية: ستين دينارا-؛ فلما أرادها على نفسها ارتعدت، وبكت، فقال: “ما يبكيك؟ قالت: “لأن هذا عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة؛ فقال: “تفعلين أنت هذا من مخافة الله؟ فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك ووالله لا أعصيه أبدا؛ فمات من ليلته فأصبح مكتوب على بابه: إن الله -تعالى- قد غفر للكفل؛ فعجب الناس من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلى نبي زمانهم بشأنه“(رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن).

وللعفة صور ومجالات متعددة؛ فمن ذلك: العفة عن سؤال الخلق؛ كحال اللذين قال الله -تعالى- عنهم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 273].

ومن صور العفة: عفة اللسان؛ فلا تنطق بالكذب والزور والغيبة واللغو والفجور؛ كما وصف الله عباده الله المؤمنين؛ فقال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[الفرقان: 72].

وفي عفة اللسان نجاة للعبد في الدنيا والآخرة، ويدل على ذلك حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: “قلتُ يا رسولَ اللهِ ما النَّجاةُ قال أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِكَ“(حسن للترمذي).

ومن مجالات العفة وصورها: عفة الفرْج، وقد عدَّ الله اللذين يحفظون فروجهم من جملة المفلحين؛ فقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ(6)﴾[المؤمنون: 5- 6]

وأكمل صور العفة -أيها المؤمنون-: عفة الدِين؛ وصدق الإمام محمد بن الحنفية -رحمه الله-؛ حيث قال: “الكمال في ثلاثة؛ العفة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة“.

عباد الله: ولسجية العفة ثمار باسقة ومكاسب رابحة؛ فمن ذلك: نيل وعد المتقين؛ فالعفة من أجلى مظاهر التقوى، وأنصح صورها؛ لأن العفيف حينما يصد عن الفواحش وأسبابها إنما يتقي بعفته سوء الحساب، وقد وعد الله -جل وعلا- المتقين وعدا حسنا، وبشرهم ببشارات عظيمة كريمة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾[الطلاق: 5]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾[يوسف: 90]، وغيرها من البشارات في القرآن والسنة؛ فأين شهوة ساعة من هذه الكرامات الرفيعة؟! وأين خسارة صبوة الهوى من هذا الجزاء الأوفى؟!

فيا مفاز المتقي *** ورح عبد قد وقي

سوء الحساب الموبق *** وهول يوم الفزع

ويا خسار من بغى *** ومن تعدى وطغى

وشب نيران الوغى *** لمطعم أو مطمع

ومن ثمار العفة كذلك: تفريج الكروب؛ فقد جاء في قصة أصحاب الغار، الذين انطبقت عليهم الصخرة أن أحدهم توسل إلى الله؛ كما روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: “سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “انطلقَ ثلاثةُ نَفَر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيتُ إِلى غار، فدخلوه؛ فانحدرتْ صَخرَة من الجبل، فسَدت عليهم الغارَ، فقالوا: إِنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إِلا أن تَدْعُوا الله بصالح أعمالكم، “اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها فقالت: “اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار؛ فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا“(البخاري).

ومنها: الفلاح وثناء الله -تعالى-؛ فالناس يفرحون بثناء البشر والمخلوقين ويعتزون بذلك؛ فالطالب يفرح بثناء معلمه عليه أمام زملائه، والطالبة تسعد بثناء معلمتها، وحين يكون الثناء والتزكية ممن له شهرة بين الناس تعلو قيمة الثناء؛ فكيف إذا كان الثناء من خالق البشر جميعا، وخالق السماوات والأرض بمن فيهن؟! قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(7)﴾[المؤمنون:1-7].

إنه ثناء لا يعدله ثناء، وهو شهادة من رب الأرض والسماء لهؤلاء الأصفياء بالإيمان، وإخبار عن فلاحهم لما حملوا من الصفات الكريمة المشتملة على حفظ الفرج والتجافي عن الفواحش؛ فهل يستبدل عاقل بذلك شهوة عاجلة ولذة فانية.

ليس الظريف بكامل في ظرفه *** حتى يكون عن الحرام عفيفا

فإذا تعفف عن معاصي ربه *** فهناك يُدعى في الأنام عفيفا

ومن ثمرات العفة -أيها المسلمون-: النجاة من عواقب الفواحش؛ فالعفيف في مأمن من عواقب الشهوات، وما تورثه من أضرار وعقوبات على النفس والمجتمع؛ لأن العفة فضيلة عظيمة والفضيلة سياج للفرد والمجتمع، وإن من أسباب سقوط المجتمعات والشعوب والحضارات، تفشي الرذائل والموبقات؛ فعقوبة الزنا فظيعة، وأضراره شنيعة، ومفاسده أشد فتكا بالزاني من السموم، وأعظم بطشا بعرضه ونفسه وماله وجسده من عدو ظلوم! فما هو إلا لذة فانية، وشهوة منقضية تذهب لذاتها، تبقى تبعاتها، فرح ساعة لا شهر، وغم سنة بل دهر، طعام مسموم أوله لذة وآخره هلاك؛ فالعامل عليها والساعي لها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب، فيندم حين لا ينفع الندامة، ويستقيم حين لا تقبل الاستقامة؛ فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته؛ فإن الله يقبل عليه بتوليته ومحبته وعطفه ورحمته، وإن الله إذا أقبل على العبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم فإذا أحب عبدا أحبوه، وإذا والى وليا والوه”(طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم).

اللهم اهدنا بهداك واجعل عملنا في رضاك.

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه من كل ذنب وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

الخطــبة الثانـية:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

عباد الله: ومن ثمار العفة؛ أن المتعفف عن الحرام وما في أيدي الناس يعفه الله؛ فيبارك له فيما بين يديه ويصون وجهه عن الحاجة إلى الناس، ويستره عن الشماتة، ويوشك أن ييسر الله له الرزق من حيث لا يحتسب؛ ففي النسائي بإسناد صحيح عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: سرحتني أمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتيته وقعت فاستقبلني وقال: “من استغنى أغناه الله عز وجل، ومن استعف أعفه الله عز وجل، ومن استكفى كفاه الله عز وجل”، وفي الصحيحين عنه أيضاً إن ناسًا سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم حتى نفد ما عنده، قال: “ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خير وأوسع من الصبر“.

ومن ثمرات العفة: أنها تجمع خلال الخير كلها؛ بينما الفاحشة تجمع خلال الشر كلها، قال ابن القيم -رحمه الله- وهو يعدد لنا خلال الشر الذي تكتسب من هذه الفاحشة الشنيعة الزنى: “والزنى يجمع خلال الشر كلها؛ من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة؛ فلا تجد زانيا معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله؛ فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرم، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته”؛ إضافة إلى سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين، وظلمة القلب وطمس نوره، وذهاب حرمة فاعله، وسقوطه من عين خالقه، وأعين عباده.

فاسألوا الله -أيها المؤمنون- العفة والعفاف، والهداية لأحسن الأخلاق والأوصاف، وتأسوا بمحمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن عبد مناف؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم-كثيرا ما يدعو ربه؛ فيقول: “اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى“(رواه مسلم).

هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير والشافع يوم المصير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56].