سوء الظن (سورة الحجرات)

عناصر الخطبة

  1. إشارة إلى ما في سورة الحجرات من آداب
  2. من معاني الأخوة الإسلامية
  3. خطورة سوء الظن وأثره على المجتمع المسلم
  4. حال المؤمن في السراء والضراء
  5. واقع الأمة المرير وبغيها على بعضها البعض
  6. واجب المسلم اليوم
اقتباس

وإن من أشد الأمراض الاجتماعية فتكاً بالأفراد والجماعات، من أشد الأجواء الاجتماعية إفساداً للمجتمع المسلم وتمزيقاً لصفة وهدماً لكيانه سوء الظن والتجسس والغيبة، وكل واحدة منها تحتاج إلى وقفة، لكننا نبدأ اليوم بأولها بإشارة وجيزة لها تكملة -إن شاء الله- وهو سوء الظن، فعن عمر الفاروق -رضي الله عنه- قال: “لا تظنن بكلمة من أخيك إلا خيراً وأنت تجد لها محملاً على الخير”، لأن أخاك المسلم الأصل فيه أنه لا يريد بك إلا الخير…

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات:12].

في سلسلة تسجيلنا لسورة الحجرات نصل اليوم إلى هذه الآية، الآية الثانية عشرة من هذه السورة الكريمة، وقد تضمنت هذه الآية مجموعة من الأحكام الجليلة والآداب الرفيعة التي تنظم العلاقات بين المؤمنين، وتبني مجتمعاً إسلامياً قوياً متماسكاً يتكون من أفراد مؤمنين متحابين يظللهم مبدأ الأخوة الإسلامية، وتجمع قلوبهم وشائج المحبة الإيمانية، وشعارهم: "المسلم أخو المسلم"، هذا الشعار الذي أطلقه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليكون الأساس المتين الذي يقوم عليه كيان المجتمع الإسلامي.

نعم المسلم أخو المسلم، ومن معاني هذه الأخوة أن يؤثر المسلم أخاه المسلم ويقدمه على نفسه، وهذا نموذج من أرفع نماذج هذه الأخوة، ودرجة من أعلى درجاتها، وهي درجة الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين-، وهي الدرجة التي مدح بها الأنصار على وجه الخصوص في القرآن العظيم، فإن لم يبلغ المسلم هذه المرتبة العظيمة الرفيعة في علاقته مع أخيه المسلم فالتي تليها، وهي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لا يبلغ المسلم مرتبة الإيمان الحقيقي الكامل إلا بهذا، فإن لم يبلغ المسلم في تعامله مع أخيه المسلم حتى هذه المرتبة الثانية فأقل ما يجب عليه أن يكف لسانه ويده عن أخيه المسلم، فلا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يسبه ولا يغتابه ولا يلمزه ولا ينبذه ولا يحقره ولا يسيء به الظنون، هذا هو واجب المسلم على أخيه المسلم، وبدون هذا ليس هناك إلا الدمار والخراب وتمزق الصفوف وتباغض القلوب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".

أي المسلم الحقيقي الصحيح الإسلام هو من هذا حاله وشأنه؛ إذ إن من معاني الإسلام الأمان والسلامة، فإن الإنسان بدخوله في الإسلام يسلم من يد المسلمين وألسنتهم، يسلم من سيوفهم، يأمن على نفسه وعلى دمه وعلى ماله وعرضه، كما أن الآخرين يأمنونه على أنفسهم وعلى دمائهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم، فإن هذا من معاني الإسلام، فالإسلام يكون بهذا كالسياج للإنسان، هو سياج من الأمن والسلام والسلامة، هذا من معاني الإسلام، ومن لم يكن بهذه المثابة فإن في إسلامه خللاً كبيراً وفي إيمانه نقصاً خطيراً.

وإن من أشد الأمراض الاجتماعية فتكاً بالأفراد والجماعات، من أشد الأجواء الاجتماعية إفساداً للمجتمع المسلم وتمزيقاً لصفة وهدماً لكيانه سوء الظن والتجسس والغيبة، وكل واحدة منها تحتاج إلى وقفة، لكننا نبدأ اليوم بأولها بإشارة وجيزة لها تكملة -إن شاء الله- وهو سوء الظن، فعن عمر الفاروق -رضي الله عنه- قال: "لا تظنن بكلمة من أخيك إلا خيراً وأنت تجد لها محملاً على الخير"، لأن أخاك المسلم الأصل فيه أنه لا يريد بك إلا الخير، فإذا صدرت منه كلمة أو موقف أو تصرف يحتمل احتمالات كثيرة، الخير واحد منها، فعليك أن تحمله على الخير.

أما إن كان ليس هناك أي محمل لكلمته على الخير فأنت وذاك، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك دمه وماله، وأن لا يظن به إلا خيراً". صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وروى مالك بإسناده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث".

كم نوفر على أنفسنا -نحن المسلمين- من جهود وطاقات تبدد، وكم ندرأ عن أنفسنا من مفاسد لو تأدبنا بهذه الآداب القرآنية وامتثلنا لهذه التوجيهات النبوية.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

قال سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن شأن المؤمن كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"، نعم هذا هو حال المؤمن، وهذا هو شأنه، قوي ثابت في كلا الحالين، في الرخاء وتوافر النعم هو شاكر لربه ذاكر لربه لا ينسى ربه -عز وجل-، ولا ينسى القيام بحقه، وإن كانت هذه أصعب من الأخرى فإن الرخاء من طبائعه وعاداته أنه ينسي ويطغي.

وفي الضراء عند تكالب المصائب والنقم تجد المؤمن صابراً قوياً محتسباً؛ لأنه موقن بأن كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره، والله -عز وجل- لا يقضي إلا بالحق، ولا يقدر شيئاً إلا لحكمة، وفي هذه الأيام نعيش جميعاً في حزن وأسى لما أصاب العرب والمسلمين، وقد فزعنا ببغي الإخوان وعدوان الجيران، وهو أشد مرارة ومصابًا في النفس من البغي والعدوان لو جاء من العدو الصريح، إنها هجمة جاهلية تدفعها دسائس أجنبية، فبعد سقوط قبلتنا الأولى في يد ذلك العدو الصهيوني البغيض بدأت الآن بوادر المرحلة الأخرى، وهي مرحلة خطيرة جداً، المستهدف فيها أهل الإسلام والإيمان، المقصود منها إشغالهم عن عدوهم الحقيقي وتمزيق صفوفهم وتمزيق كلمتهم، إن أعداء الإسلام والمسلمين لا تنتهي أطماعهم عند حد، والمسلمون اليوم والعرب على وجه الخصوص يعيشون في انحطاط وتدهور سياسي نتيجة تكالب الأعداء وفساد النفوس وضعف الإيمان، تكالب الأعداء علينا من كل جانب، وتسلطوا علينا وعلى مقدراتنا، ولا ينجينا من هذه الشرور وهذه الفتن إلا يقظة إيمانية وصحوة إسلامية، وأن نعود إلى ديننا، ونهب هبة واحدة، هبة الإيمان في وجه عدونا وفي وجه أذنابه الذين كلما خمدت فتنة أوقدوا فتنة أخرى، وكلما أطفأ الله ناراً للحرب أشعلوها، لا ينجينا من هذه الفتن والشرور إلا اليقظة الإيمانية والصحوة الإسلامية، وأن نعود إلى ديننا ونلجأ إلى ربنا -عز وجل-.

أيها المسلمون: استعدوا للدفاع عن أنفسكم وعن أموالكم وعن أعراضكم وعن حياضكم وعن دياركم، إذا كنتم قد نسيتم ذلك الأمر الإيماني، ألم يأمركم ربكم من قبل فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال:60]. فإذا كنتم نسيتم ذلك فتذكروه الآن، فها هي مصائب الزمان تذكركم بذلك وتنبهكم إلى أنكم يجب عليكم دائماً أن تضعوا هذا الأمر الإلهي نصب أعينكم في حياتكم، يجب على المسلمين جميعاً أن يجعلوه نصب أعينهم دائماً، إذا كنتم قد نسيتم هذا الأمر الإلهي فتذكروه الآن وأعدوا أنفسكم، فإن المؤمن الحقيقي دائماً لا يخلو من أحد حالين: إما جهاد وإما إعداد للجهاد، لكن الفرق بين المؤمن وغيره أن المؤمن جهاده عن رسالة ودفاعه عن دين.

أيها المسلمون: استعدوا للقاء عدوكم، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا"، وهل هناك أشجع وأقوى وأثبت وأصبر من المسلم المؤمن القوي الإيمان عند اللقاء!! ولكنه مع ذلك ليس من دعاة الفتن ولا من هواة الحروب، لكنه إذا اضطر إلى اللقاء فما أصبره على ذلك وما أثبته على ذلك؛ لأنه موقن بأنه لا يخلو من أحد مصيرين: إما جنة عرضها السماوات والأرض، وإما نصر مؤزر.

فنسأل الله تعالى أن يقينا شرور أنفسنا، وأن يقينا من شرور أعدائنا، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يلهم ولاة أمورنا رشداً ويعينهم وينصرهم على ما فيه صلاح الأمة والدفاع عن الدين.