العفة تاج الوقار

عناصر الخطبة

  1. قصة وعبرة
  2. فضائل العفة عن الحرام
  3. أهمية العفة عن المحرمات
  4. الحث على لزوم العفة في الحل والترحال.
اقتباس

كان شابًّا ذا عبادة وورع.. لازم المسجد الجامع، وكان حريصًا على صلاة الجماعة.. وكان حسن السمت، وسيم الوجه ممشوق القامة، فنظرت إليه امرأة ذات جمال وحسب فشغفت به، وطال ذلك عليها، فوقفت له يومًا على طريقه أمام منزله، فقالت له: يا فتى! اسمع مني كلمات أكلمك بها، ثم اعمل ما شئت، فأطرق مليًّا، وقال لها: هذا موضع تهمة.. وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعًا..

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أهله، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ممتثلين أمر بارئكم تعالى الذي قال في محكم التنزيل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

أيها الأحبة في الله: كان شابًّا ذا عبادة وورع.. لازم المسجد الجامع، وكان حريصًا على صلاة الجماعة.. وكان حسن السمت، وسيم الوجه ممشوق القامة، فنظرت إليه امرأة ذات جمال وحسب فشغفت به، وطال ذلك عليها، فوقفت له يومًا على طريقه أمام منزله، فقالت له: يا فتى! اسمع مني كلمات أكلمك بها، ثم اعمل ما شئت، فأطرق مليًّا، وقال لها: هذا موضع تهمة.. وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعًا..

فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك.. وأنتم معاشر العباد في مثال القوارير.. أي شيء يعيبه.. وجملة ما أكلمك به أن جوارحي كلها مشغولة بك.. فالله الله في أمري وأمرك..

فمضى الشاب إلى منزله، وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي، فأخذ قرطاسًا وكتب كتابًا، ثم خرج من منزله، فإذا بالمرأة واقفة في موضعها، فألقى إليها الكتاب ورجع إلى منزله.

وكان الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. اعلمي أيتها المرأة، أن الله -تبارك وتعالى- إذا عُصي حلم، فإذا عاود العبد المعصية ستره، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله -عز وجل- لنفسه غضبة تضيق منها السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه؟!

فإن كان ما رأيت باطلاً، فإني أذكرك يومًا تكون السماء كالمهل، وتصير الجبال كالعهن، وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي، فكيف بإصلاح غيري.

وإن كان ما ذكرت حقًّا، فإني أدلك على طبيب هو أولى بالكلوم الممرضة، والأوجاع الممرضة، ذلك رب العالمين، فاقصديه على صدق المسألة، فإني متشاغل عنك بقوله -عز وجل-: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)﴾ [غافر: 18- 19] فأين المهرب من هذه الآية؟

أوصيك بحفظ نفسك من نفسك.. وأذكرك قوله -عز وجل-: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: 60].

العفة ذلك الجمال الذي لا يراه إلا مَن امتُحِنَ كهذا فصبر، لا يحسّ به إلا يوسف -عليه السلام- ومن وُضع في أتون الاختبار فعصمه الله باستعفافه.

العفة عما حرم الله هي تاج الفضيلة، سوار المروءة، وخاتم التقوى.

العفة عن شهوة الفرج إذا تيسرت: هي ميزان الصبر على البلوى، والشكر على النعمى. ومن أحب المكارم اجتنب المحارم.

عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء” (رواه الشيخان).

إن من أعظم ما يخشى على شبابنا اليوم هذه الفتن التي تموج كموج البحر، وتجثم كقطع الليل المظلم، وقد أحاطت بهم من كل ناحية، فالتلفاز يغري، والإنترنت يقرب، وجمر العار يتلهب:

الموت خير من ركوب العار *** والعار خير من ركوب النار

والله من هذا وهذا جاري

والداعي إلى ذلك شيئان: أحدهما إرسال الطرف، والثاني اتباع الشهوة. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن أنه فال لعلي -رضي الله عنه-: “يا عليّ لا تتبع النظرة النظرة، فإن الأولى لك، والثانية عليك” (أبو داود وحسنه الألباني).

وقال عيسى ابن مريم -عليه السلام-: “إياكم والنظرة بعد النظرة، فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بصاحبها فتنة“.

وقال علي رضي الله عنه: “العيون مصايد الشيطان”.

وكنت متى أرسلت طرفك رائدًا  *** لقلبك يومًا أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر

عن علي -رضي الله عنه- قال: أردف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفضل، ثم سار حتى أتى الجمرة، فرماها، فأتته امرأة شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير، وقد أدركته فريضة الله تعالى في الحج، أفأحج عنه؟ قال: نعم، قال: ولوى عنق الفضل، فقال له العباس: يا رسول الله! لويت عنق ابن عمك… قال: “رأيت شابًّا وشابة، فخفت الشيطان عليهما” (رواه الترمذي وحسنه الألباني).

أيها الشاب.. هذه الإجازة قد أقبلت بجرانها، بفراغ إذا استسلمت له فلن تطيقه، فأشغل نفسك بخير حتى لا تشغلك بالباطل، أشغل نفسك بما يحب الله، حتى لا تشغلك بما يحب الشيطان، وإني ناصح لك، مشفق عليك، محب أشد الحب لك.. إياك أن تضع نفسك موضع التهم، أو تجلس في مجالس اللهو، أو تسافر إلى أماكن الرذيلة، وإن سافرت إلى بلد ما لغاية شريفة، فلتعلم أن أهل السوء بالمرصاد، والبغايا طالبات العهر والزنا -شرّف الله سمع الحاضرين والملائكة- كالحشرات، يتسللن إلى كل مسكن وغرفة، فاحذرهن على دينك.

شاب طيار، حين وصل إحدى الدول ذهب ليستريح في غرفته، صلى وذكر الله، فإذا بالباب يطرق، فذهب ليفتحه، فإذا به يسمع صوتًا رقيقًا، وشابة تقول له: أأنت فلان؟ قال: نعم، فقالت: إني أريد أن أتحدث معك في غرفتك.. وتفاجأ هذا الشاب الصالح من هذا الطلب الغريب الذي يخلو من الحياء.. فكيف يسمح لها بالدخول.. وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، فاعتذر لها بأنه لا يستطيع إدخالها في غرفته؛ لأنه مُتْعَب، ولكنها كانت مصرة على الدخول..

فأخذت تطرق عليه الباب بقوة، وترجوه أن يفتح لها، وقالت: إنها تشعر بالوحدة والملل، وتريد أن تقضي معه وقتًا ممتعًا لن ينساه، ففكر في كذبة سريعة تريحه من هذه المحنة، فقال لها: إنني مصاب بالإيدز، وما إن أكمل كلمته حتى سمع خطواتها وهي تسرع بالهرب بعيدًا عن غرفته، وتنفس أخونا الشاب العفيف نفس الراحة، وهدأت نفسه، وحمد الله الذي صرف عنه هذا الشر العظيم، وشعر بانتصاره على هواه والشيطان الرجيم.

كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني *** منه الحياء وخوف الله والحذر

كذلك الحـب لا إتيان فاحشة *** لا خير في لذة من بعدها سقر

أيه الأحبة في الله.. توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية:

الحمد لله أهل الثناء والحمد، وأشهد إلا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الشهوة خادعة للعقول، وغادرة بالألباب، ومحسنة الفضائح، تخفي عواقبها، وتكشف مغرياتها، وإنما تروّض وتسخر في الخير والنماء بمثل هذه الأمور:

أحدها غضّ الطرف عن إثارتها، والثاني: ترغيبها في الحلال عوضًا وإقناعًا بالمباح بدلاً مما حرّم الله، فإن الله ما حرَّم شيئًا إلا أغنى عنه بمباح من جنسه؛ لما علمه من نوازع الشهوة، وتركيب الفطرة؛ ليكون ذلك عونًا على طاعته، وحاجزًا عن مخالفته، وقال عمر -رضي الله عنه-: “ما أمر الله –تعالى- بشيء إلا وأعان عليه، ولا نهى عن شيء إلا وأغنى عنه“.

والثالث: إشعار النفس بتقوى الله –تعالى- في أوامره، واتقاؤه في زواجره، وإلزامها ما ألزم من طاعته، وإعلامها أنه لا يخفى عليه ضمير، ولا يعزب عنه قطمير، وأنه يجازي المحسن، ويكافئ المسيء، وبذلك نزلت كتبه، وبلغت رسله. روى ابن مسعود أن آخر ما نزل من القرآن: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

وآخر ما نزل من التوراة: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت“، وآخر ما نزل من الإنجيل: “شر الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئًا” وآخر ما نزل من الزبور: “من يزرع خيرًا يحصد زرعه غبطة“، فإذا أشعرها ما وصفت انقادت إلى الكف، وأذعنت بالاتقاء، فسلم دينه، وظهرت مروءته.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 1- 11]، حفظنا الله وإياكم من كل سوء وفاحشة ومكروه.

ثم صلوا وسلموا على خير الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصادق المصدوق الذي أمرنا الله جل وعلا بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، أخص منهم الخلفاء الراشدين المهديين من بعده؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنّك يا أكرم الأكرمين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.