ذم التكلف لأجل إرضاء الناس – المجاملة – الأعراف – الكتمان – المحبة والكراهة – كتمان الْمشاعر

عناصر الخطبة

  1. إرضاء الناس غاية لا تدرك
  2. من ألوان التكلف المذموم
اقتباس

ومن التكلُّفِ المذموم: التكلف في المجاملة، ومراعاةِ مشاعرِ الآخرين. والْمُجَامَلَة: هي حُسْنُ العِشْرَة، والمُصانَعةُ واللِّينُ، واللطفُ في الكلام، وهي ضد الْمُصارحة. والكثير من الناس يتكلَّف المجاملة، إلى حدٍّ يصل إلى إحراج نفسه، والْمُداهنةِ في دينه، والتنازلِ عن حقوقه. فربما ارتكب أحدٌ حماقةً أو تصرُّفاً سيِّئاً في حقِّه، أو في حقِّ بعض الناس، فيُجامله خشية أنْ يُواجهه، أو يأخذَ في خاطره، فهذه المجاملة أضرَّت بهما جميعاً…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيراً.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، فالتقوى سببٌ لتيسير وتسهيل الأمور الصعاب: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾.

معاشر المسلمين: كان الحديث في الجمعةِ الماضية عن ذمِّ التكلف، وذكرتُ بعض أنواعه، وبقي الحديثُ عن أنواعٍ أخرى مُنتشرةٍ بين كثيرٍ من الناس، فمن ذلك: التكلف في إرضاء الناس، بأنْ لا يردَّ لهم طلباً، وخاصةً من الأصدقاء والأقارب، وربما يكون في تحقيق طلبهم وحاجتهم، ضررٌ وكُلْفَةٌ عليه.

ومن المعلوم أنَّه لا يُمكن إرضاءُ الناس أبداً، فما علينا إلا أنْ نرضي الله أولاً، ثم نحرص بقدر الإمكان، على إرضاء الأقارب والأصدقاء وغيرهم، فيما يكون في مقدورنا وإمكاننا.

وبعض الناس مهما فعلت معه لا يُمكن إرضاؤه، وينطبق في هذا قولُ الشاعر:

ضَحِكْتُ فقالوا ألا تحتشم *** بَكَيْتُ فقالوا ألا تبتـسم

صَمَتُّ فقالوا كليلُ اللسان *** نطَقتُ فقالوا كثيرُ الكَلِم

حَلِمتُ فقالوا صنيعُ الجبان *** ولو كان مقتـدراً لانتقم

يقولـون شَذَّ إذا قلتُ لا *** وإمَّعـةً حـين وافقتـهم

فأيقنـت أنيَ مهما أردت *** رضا الناسِ لابد ليْ أَنْ أُذَم

ولْنأخذ هذه القاعدة الحكيمة، من الإمام الشافعيِّ -رحمه الله-: "رضا الناسِ غايةٌ لا تُدرك، ورضا اللهِ غايةٌ لا تُترك، فلا تدعْ ما لا يُترك، إلى ما لا يُدرك".

نعم، لا تدع ما لا يُترك، وهو رضا الله، إلى ما لا يُدرك، وهو رضا الناس.

فالناس لو أرضيتهم ما نفعوك، ولو أسخطهم ما ضرُّوك.

ومن التكلُّفِ المذموم: التكلف في المجاملة، ومراعاةِ مشاعرِ الآخرين..

والْمُجَامَلَة: هي حُسْنُ العِشْرَة، والمُصانَعةُ واللِّينُ، واللطفُ في الكلام، وهي ضد الْمُصارحة. والكثير من الناس يتكلَّف المجاملة، إلى حدٍّ يصل إلى إحراج نفسه، والْمُداهنةِ في دينه، والتنازلِ عن حقوقه.

فربما ارتكب أحدٌ حماقةً أو تصرُّفاً سيِّئاً في حقِّه، أو في حقِّ بعض الناس، فيُجامله خشية أنْ يُواجهه، أو يأخذَ في خاطره، فهذه المجاملة أضرَّت بهما جميعاً، أضرَّت بالأول حيث لم يجد من يَرْدَعُه، فيتمادى في خطئه وتصرُّفهِ السيِّئِ، وأضرَّت بالآخَرِ حيث اعتُدي عليه، أو أُخذ بعض حقِّه، بل ويتعدَّى الضرر إلى غيرهما، حيث سُيَكَرِّرُ خطأه مع كلِّ أحد.

ومن جاملَ صاحبه فلم يُخبره بعيبه فقد غشَّه، وأضرَّ به ضرراً بالغًا.

وقد رمى بك في تيهاء مهلكةٍ *** مَن بات يكتمك العيب الذي فيكَ

ومن التكلُّفِ المذموم: التكلف في تعظيمِ العادات والأعراف، حتى أصبح التمسُّك بها عند بعض الناس أو القبائل، أشدَّ وأهمَّ من التمسك بالدين، فأصبحتْ هذه العاداتُ تحكمُهم، يغضبون ويُحبُّون لأجلها، ولو أخلَّ بعضُهم بمُهمَّات وأساسيَّات الدين، لما تأثر وتحرَّك لأجلها، ولو أخلَّ بما تعارفوا عليه لأقام الدنيا وأقعدها.

ولسان حالهم كما قال الشاعرُ الجاهليُّ:

ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ *** غويْتُ وإنْ تَرشُدْ غَزَّيَةُ أَرشُدِ

وصدق فيهم قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة:170].

فاللهُ تعالى يذمُّ أولئك الذين رفضوا اتّباع دعوة النبيّ الأكرم -صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وسلم-، لاتِّباعهم ما وجدوا عليه آباءَهم، وتقليدِهم سنَّةَ وعاداتِ أجدادهم.

ومن التكلُّفِ المذموم: التكلُّفُ في ستر وإخفاءِ الأعمال والأمور العادية، من زواجٍ ورحلةٍ وبناء مسكنٍ.

فبعض الناس، يُبالغ مُبالغةً مُنكرةً، في عدم البوح لأقربائه، بل وأعمامِه وأخوالِه بما أنعم الله عليه من نعمٍ وفضائل، كأنْ يكتم عن أخصِّ وأقربِ الناس إليه قربَ زواجه، أو عن رحلاته وسفريَّاته.

وإنَّه من المحزن حقًّا ما نراه مِمَّن قلَّ يقينه، وضعُفَ إيمانه، من الخوف الهلع، والجُبْن والفزع، من العائنين والسَّحرة، حتى وصل الحال ببعضهم أنْ كتمَ وأخفى ما أنعم الله عليه خشيةَ العين، وهذا من ضعفِ إيمانِه ويقينِه بالله، وانْعدامِ ثقته بحفظِ الله.

فأين يقينُه بالأذكار والأوراد التي هي حِرزٌ متين، وحِصْنٌ حصين، من العائن والساحرِ، والشَّيطانِ الفاجر، أين إيمانه بقول الله -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، أين إيمانه بقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.

وبعضهم يتعلَّل بأنَّه إذا أخبر بما قام به، أو حصل عليه: أنه سيُتَّهم بأنه مغرورٌ أو مُعجبٌ بنفسه، أو أنه يتباهى بذلك.

وبعضهم يتعلَّل بإخفائه ذلك، بأنَّه لا يُريد أنْ يعتقد الناس أنه خفيفُ العقل، يُفشي أسراره وخُصوصيَّاتِه.

وكلُّ هذا من الأوهام الخاطئة، وانعدامِ الثقة وضعفِ الشخصيَّة، ولو بنى حياته على البساطة وحسنِ الظن، وتركَ التكلفَ لعاش حياته براحةٍ وطُمأنينة.

وربما اسْتدل بعضُهم بحَدِيث: "اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ". وقد ذكر ابن الجوزيِّ والسيوطيُّ بأنه موضوع، وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "هو موضوعٌ وليس له أصل".

ومن أضرار التكلُّفِ في الكتمان: حرمانُ الْمَشورةِ الحكيمة، التي قد يستنير بها ويُوفَّقُ بسببها، ويدفعُ بها ضررًا وخطأً قد يقع به.

ومن التكلُّفِ المذموم: التكلُّف والْمُبالغةُ في المحبة والرغبة، والكراهة والنفرة.

ما أكثر من إذا أحبَّ شيئاً بالغ في محبَّته، وإذا أبغضه بالغ في بغضه، وهذا الحب أو البغض، قد يكون لشخصٍ أو عملٍ أو غير ذلك. كم جرَّ عليه هذا الحبُّ والبغض الْمُفرط من الشقاء والأذى!!

وقد صدق القائل: لا يُفْرِطِ العاقلُ في محبةِ الصديق، ولا يَتَجاوزْ في عداوة العدو، فإنه لا يَدري متى تنتقلُ صداقةُ الصديق عداوة، ولا متى تَنتقل عداوةُ العدوِّ صداقة.

فأمسك نفسك إذا رأيت منها رغبةً وحبًّا لأحد مهما كان؛ لأنك لا تدري لعل الذي أحبته يكون يومًا مصدر قلقٍ وإزعاجٍ عليك، فتأتيك حسرةٌ شديدةٌ على الوقت والحب الذي أعطيته إياه، وأمسكها إذا رأيت منها كرهًا وبُغضًا لأحد؛ لأنك لا تدري لعل الذي أبغضته يكون يومًا زميلاً لك في عمل، أو تحتاج إليه.

يقول ابن الجوزيِّ -رحمه الله-: "مما أفادتني تجارب الزمان، أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يُظاهر بالعداوة أحدًا ما استطاع؛ فإنه ربما يحتاج إليه، وإن الإنسان ربما لا يظن الحاجة إلى مثله يومًا ما، كما لا يَحتاج إلى عُوَيْدٍ منبوذ، لا يَلتفت إليه؛ لكنْ كم من مُحْتَقَرٍ اُحْتِيْجَ إليه! فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخصِ في جلب نفع، وقعت الحاجةُ في دفع ضر، ولقد احْتجت في عمري إلى ملاطفةِ أقوام، ما خطر لي قطُّ وقوعَ الحاجة إلى التلطف بهم". انتهى كلامه.

نسأل الله تعالى، أنْ يُعيننا على أنفُسنا، وأنْ يُوفقنا لِمَا يُحبه ويرضاه، إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: ومن التكلُّفِ المذموم: التكلُّف في كتمان الْمشاعر أو إبدائها. كم تجتاح أحدَنا أحاسيسُ ومشاعرُ جيَّاشةٌ، تجاه أحدٍ من الناس أسدى لنا معروفًا، أو رأينا منه ما يُعجبنا ويُبهجنا، فتثور في القلب كلماتُ وعبارات الثناء والمدح، فنكتمها ونبخل بها، حياءً أو عدمَ جُرأةٍ على إبدائها، والأدهى من ذلك إذا كان خوفًا أنْ يَغتر من هذا المدح، أو يُصاب بالإعجاب والغرور.

كم أدّى هذا التأويل والتكلُّف الفاسد إلى تثبيط الهمم، والجفاء بين الناس، وعدم الاستمرارية في الإبداع والعمل؛ نتيجةً لفقد أهمِّ داعمٍ لها، وهو التشجيع والثناء الجميل.

وقد كان قدوتُنا وإمامنا -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يُشجع أصحابه ويُثني عليهم، فهذا أَبو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟! فيُسْمعه كلماتِ الثناءِ والمدحِ قبل أن يُجيبه فيقول: "لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَنْ لاَ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ".

ويقول لابن عمر -رضي الله عنه-: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ".

ويقول لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ".

وخلاصةُ الكلام -يا أمة الإسلام- أنْ نمتثل وصية الله تعالى لنبيِّه -عليه الصلاةُ والسلام-: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾.

وقد امتثل -صلى الله عليه وسلم- هذه الوصية، فبنى حياته على البساطة وعدم التكلف والتصنع، والسماحةِ والتوسُّطِ والاعتدال.

نسأل الله تعالى أنْ يرزُقَنا اتِّباع الْمُصطفى -صلى الله عليه وسلم-، والسيرَ على خُطاه، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.