سورة آل عمران

عناصر الخطبة

  1. فضل سورة آل عمران
  2. سبب نزول بعض آياتها
  3. اهتمامها بركنيْ العقيدة والتشريع
  4. الإشارة لبعض آياتها
  5. سبب تسميتها
  6. استعراض لمحتواها
اقتباس

وقد اشتملت السورة الكريمة على ركنين هامين من أركان الدين هما: الركن الأول: ركن العقيدة وإِقامة الأدلة والبراهين على وحدانية الله -جل وعلا-، وقد جاءت الآيات الكريمة لإثبات الوحدانية والنبوة، وإثبات صدق القرآن، والرد على الشبهات التي يثيرها أهل الكتاب حول الإسلام، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتركيز على الزمرة الثانية من أهل الكتاب وهم النصارى الذي جادلوا في شأن المسيح وزعموا ألوهيته، وكذّبوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ..

الحمد لله القائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34)﴾ [آل عمران:33-34]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [2].

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله قال الله فيه ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [144]، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا عباد الله: أشرنا إلى آيات من سورة آل عمران، السورة الثالثة في ترتيب المصحف الشريف، وهي من السور المدنية الطويلة، وآياتها (مائتا آية).

وفي فضلها أخرج مسلم عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يؤتي يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدُمُهم سورة البقرة وآل عمران".

وقيل في سبب نزول بعض الآيات منها أنها نزلت في وفد نجران، وكانوا ستين راكباً، فيهم أربعة عشر من أشرافهم، ثلاثة من أكابرهم: عبد المسيح أميرهم، والأيهم مشيرهم، وأبو حارثة بن علقمة حبرهم، فقدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فتكلم منهم أولئك الثلاثة معه، فقالوا تارةً: عيسى هو "الله"؛ لأنه كان يُحيي الموتى؛ وتارةً هو "ابن الله"! إِذ لم يكن له أب، وتارة إِنه "ثالث ثلاثة"، لقوله: "فعلنا وقلنا"، ولو كان واحداً لقال: "فعلتُ وقلتُ".

فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت، وأن عيسى يموت؟"! قالوا: بلى، قال: "ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إِلا ويشبه أباه؟!" قالوا: بلى، قال: "ألستم تعلمون أن ربنا قائم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه، فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك إلا ما عُلم؟" قالوا: لا.

قال: "ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدث، وأن عيسى كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟!" قالوا: بلى. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "فكيف يكون كما زعمتم؟" فسكتوا وأبوا إِلا الجحود، فأنزل الله من أول السورة إِلى نيفٍ وثمانين آية منها (الفخر الرازي).

وقد اشتملت السورة الكريمة على ركنين هامين من أركان الدين هما: الركن الأول: ركن العقيدة وإِقامة الأدلة والبراهين على وحدانية الله -جل وعلا-، وقد جاءت الآيات الكريمة لإثبات الوحدانية والنبوة، وإثبات صدق القرآن، والرد على الشبهات التي يثيرها أهل الكتاب حول الإسلام، وأمر محمد -صلى الله عليه وسلم- بالتركيز على الزمرة الثانية من أهل الكتاب وهم النصارى الذي جادلوا في شأن المسيح وزعموا ألوهيته، وكذّبوا برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنكروا القرآن.

وقد تناول الحديث عنهم ما يقرب من نصف السورة الكريمة، وكان فيها الرد على الشبهات التي أثاروها بالحجج الساطعة، والبراهين القاطعة، وبخاصة فيما يتعلق بشأن مريم وعيسى -عليه السلام-، وجاء ضمن هذا الرد الحاسم بعض الإِشارات والتقريعات لليهود، الزمرة الأولى من أهل الكتاب، والذين ركزت سورة البقرة في الرد عليهم والتحذير للمسلمين من كيدهم ودسائسهم.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [19]، أي: أن الشرع المقبول عند الله هو الإسلام، ولا دين يرضاه سوى الإسلام، وما اختلف اليهود والنصارى في أمر الإسلام ونبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن عملوا بالحجج النيرة والآيات الباهرة حقيقة الأمر.

فلم يكن كفرهم عن شبهة وخفاء؛ وإنما عن استكبار وعناد، ﴿حسداً﴾ كائنا بينهم، حمَلَهم عليه حب الرئاسة، ومن يكفر بآيات الله تعالى فإنه سيصير إليه سريعاً فيجازيه على كفره: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [20].

أي: فإن جادلوك يا محمد في شأن الدين فقل لهم: استسلمت بكليتي لله وأخلصت العبادة له وحده لا شريك له، ولا ند ولا صاحبة ولا ولد له، أنا وأتباعي على ملة الإسلام؛ وقل لليهود والنصارى والوثنيين من العرب هل أسلمتم، أم أنتم باقون على كفركم؟ فإن أسلموا مثلكم فقد نفعوا أنفسهم بخروجهم من الضلال، إلى الهدى وإن أعرضوا فلن يضروك، فما أنت إلا مكلف بالتبليغ فحسب، والله عالم بجميع أحوالهم، ويجازيهم عليها.

ومن ذلك قوله تعالى في أمر عيسى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [59]، أي: إن شأن عيسى إذ خلقه الله بلا أب وهو في بابه غريب كشأن آدم، خلقه الله من غير أب ولا أم، خُلِق من تراب ثم قاله له الله سبحانه: كن فكان.

فليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم، ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [60]، أي: هذا هو قو الحق في أمر عيسى فلا تكن من الشاكِّين؛ ثم قال الله -عز وجل- في آية المباهلة: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ [61]، أي: هلمّوا نجتمع ويدعو كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة.

وفي صحيح مسلم: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة -رضي الله عنها- وحسنا وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي، ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [61]، أي: نتضرع إلى الله فنقول: اللهم ألعن الكاذب منا في شأن عيسى، فلما دعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المباهلة امتنعوا عن الدعاء والمباهلة، وقبِلوا الجزية.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لو خرج الذين يباهلون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالاً "، وقال أبو حيان: "وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه -صلى الله عليه وسلم- شاهد عظيم على صحة نبوته".

ثم قال الله تعالى ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)﴾ [62].

وقال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ أي: ومنهم من لا يؤتمن على دينار لخيانته، كفنحاص بن عازوراء، ائتمنه قرشي على دينار فجحده، ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ أي: إلا إذ كنت ملازماً له، ومشهداً عليه، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [75]، أي: إنما حملهم على الخيانة زعمهم أن الله أباح لهم أموال الأميين، يعني العرب، فلا سبيل لأحد عليهم.

﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [75]، أي: يكذبون على الله بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الخلق عبيد لهم، أو أن الله أباح لليهود مال من خالف دينهم، وهم يعلمون أنهم كاذبون مفترون.

ثم قال تعالى: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [76]، أي: ليس كما زعموا، بل عليهم فيه أثم؛ لكن من أدَّى الأمانة منهم وآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- واتقى الله واجتنب محارمه فإن الله يحبه ويكرمه.

ثم قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [77] أي: يستبدلون بالعهد الذي عاهدوا عليه من التصديق بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وبأيمانهم الكاذبة حطام الدنيا، وعرَضَها الخسيس الزائل.

﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ﴾ [77]، أي: ليس لهم حظ ولا نصيب من رحمة الله تعالى، ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [77]، أي لا يكلمهم كلام أنس ولطف ولا ينظر إليهم بعين الرحمة يوم القيامة، ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [77]، أي: لا يطهرهم من الأوزار، ولهم عذاب مؤلم على ما ارتكبوه من المعاصي.

عن الأشعث بن قيس قال: كان بني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فيها، فقدمت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك بينة؟" قلت: لا، قال لليهودي: "أحلف"، قلت إذا يحلف فيذهب بمالي، فأنزل الله هذه الآية.

وقال تعالى (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [83-89].

عباد الله: هذه لمحة موجزة عن سورة آل عمران عن الركن الأول الذي اهتمت به وهو إثبات وحدانية الله وحده لا شريك له، وفي الخطبة الثانية سنتناول إن شاء الله الركن الثاني المتعلق الإسلامي، أسأل الله أن ينفعنا بها وبهدي كتابه الكريم وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله القائل: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [92]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بتقواه فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [102].

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، قال له ربه ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [31]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى عباده المؤمنين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة آل عمران فإنها سميت بآل عمران لورود قصة تلك الأسرة الفاضلة ﴿آل عمران﴾ والد مريم أم عيسى، وما تجلى فيها من مظاهر القدرة الإلهية بولادة مريم البتول، وابنها عيسى -عليهما السلام-، وذلك في الآيات من (33 إلى 63).

وكيف أن الله سبحانه اختار للنبوة صفوة خلقه، منهم آدم أبو البشر، ونوحٌ شيخ المرسلين، وآل إبراهيم، وعشيرته وذوي قرباه وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما، ومن جملتهم خاتم المرسلين نبينا محمد، عليهم الصلاة والسلام جميعاً، وآل عمران ومنهم عيسى ابن مريم خاتم أنبياء بني إسرائيل، حيث اختارهم الله على عالمي زمانهم.

أما الركن الثاني: الذي أشرنا أن سورة آل عمران قد اهتمت به فهو التشريع الإسلامي، وخاصة فيما يتعلق المغازي والجهاد في سبيل الله، حيث تناولت السورة بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالحج، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)﴾ [96-97].

كما تحدثت عن الجهاد بإسهاب، أي بتطويل، فتحدثت عن الغزوات كغزوة بدر وغزوة أحد، والدروس التي تلقاها المؤمنون من تلك الغزوات، فقد انتصروا في بدر على قلتهم وعدم استعدادهم للقتال، وهزموا في أحد بسبب مخالفة الرماة لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

وسمعوا من الكفار والمنافقين كثيراً من كلمات الشماتة والتخذيل، فأرشدهم الله تعالى إلى الحكمة من ذلك الدرس وهي أن الله يريد تطهير صفوف المؤمنين من أرباب القلوب الفاسدة: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم﴾ [179].

ففي غزوة أحد ظهر أهل الإيمان وظهر أهل النفاق، وقال تعالى في ذلك: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(168)﴾ [166-168].

أي: ولْيعلم أهل النفاق كعبدالله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين خذلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد ورجعوا وكانوا نحْواً من ثلاثمائة رجل، والحديث عن الجهاد في السورة الكريمة أخذ جزءاً كبيراً منها وخاصة الآيات من (121 إلى 128) والآيات من (139 إلى 179).

كما تحدثت السورة الكريمة عن أمور الربا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132)﴾ [130-132].

والربا في اللغة هو الزيادة، وشرعاً زيادة على أصل المال يأخذها الدائن من المدين مقابل الأجل، فيأخذ دينه أضعافاً مضاعفة، قال ابن كثير -رحمه الله-: كانوا في الجاهلية إذا حل أجل الدين يقول الدائن: إما أن تقضي وإما أن تُربي -أي تسدد أو تزيد-، فإذا قضاه وإلَّا زاده في المدة وزاد في القَدر، وهكذا كل عام، فربما يتضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً.

وتحدثت السورة الكريمة عن أمور كثيرة منها صفة المتقين المستحقين للمغفرة والجنة، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [133-136].

كما تحدثت عن خلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه قال تعالى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [159].

وتحدثت عن حال الشهداء في الآخرة، قال تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171)﴾ [169-171].

وتحدثت عن الموت، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [185].

ثم ختمت السورة بتلك الوصية الجامعة في آخر آية منها بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [200]، أي: اصبروا على الطاعات وما يصيبكم من الشدائد، وغالِبوا أعداء الله بالصبر على أهوال القتال وشدائد الحروب، ولازموا ثغوركم؛ مستعدين للغزو والكفاح، وخافوا الله فلا تخالفوا أمره؛ لتفوزوا بسعادة الدارين.

عباد الله: هذا جزء مما تحدثت عنه سورة آل عمران، وهي سورة طويلة وعظيمة، وفيها أدعية هامة في أواخرها، أسأل الله أن يوفقنا جميعاً لحفظها والدعاء بها والقبول، إن الله سميع قريب مجيب الدعاء.

وصلوا وسلموا عباد الله على خاتم رسل الله، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.