الاستهانة بالدماء والاستعانة بالغوغاء

عناصر الخطبة

  1. كثرة الغوغاء وبعض أوصافهم وأحوالهم
  2. خطر الغوغاء على الأمة عبر التاريخ
  3. رخص الدماء في هذا الزمان وحرمة ذلك
  4. بعض واجبات الحاكم تجاه رعيته
  5. تساهل الناس في سفك الدماء المعصومة
  6. التحذير من جريمة القتل
  7. الحث على ملازمة العلماء والرجوع إليهم
اقتباس

إن الفتن في العالم الإسلامي لا تزال تزداد، ولها صدىً وترداد، ويأتي رمضان والحال هو الحال ونحو السوء والكرب يزداد، والمسلمون بين عدوٍّ متربص، وجاهلٍ متنسك، وعالمٍ متهتك، وسلطانٍ ظالمٍ متسلط، ورَعاعٍ طَغامٍ لا عقولَ لهم، وغوغاءَ أتباعِ كل ناعق، تميلُ بهم رياح الأهواء والشهوات والشبهات حيث مالت، وتُسيِّرُهم أينما سارت، عقولُهم في آذانهم، همُّهم…

الخطبة الأولى:

الحمد لله …

إن الفتن في العالم الإسلامي لا تزال تزداد، ولها صدىً وترداد، ويأتي رمضان والحال هو الحال ونحو السوء والكرب يزداد، والمسلمون بين عدوٍّ متربص، وجاهلٍ متنسك، وعالمٍ متهتك، وسلطانٍ ظالمٍ متسلط، ورَعاعٍ طَغامٍ لا عقولَ لهم، وغوغاءَ أتباعِ كل ناعق، تميلُ بهم رياح الأهواء والشهوات والشبهات حيث مالت، وتُسيِّرُهم أينما سارت، عقولُهم في آذانهم، همُّهم بطونُهم وفروجُهم، ينتشرون كالجراد إلى غير هدف، ويُهطِعون إلى أي داع؛ من شرق أو غرب، ليس لهم رأسٌ عاقلٌ يقودهم، ولا عالمٌ خبيرٌ يرشدهم ويسوسهم، فهم شَذَرَ مَذَر، إذا انفلت لهم حبل الأمن سالت بسببهم الدماء، وانتُهكت الأعراض، ونُهبت الأموال، وخُرِّب العمران، وانتشر الفساد في البر والبحر، وما أكثرَهم! قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 116].

وقال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 187].

وقال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [هود: 17].

في الفتن يباعُ الدين بعَرَض من الدنيا؛ بثمن حيوان، وتباع الأخلاق بأبخس الأثمان، عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: صَحِبْنَا النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَسَمِعْنَاهُ، يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَأَنَّهَا قِطَعُ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا؛ ثُمَّ يُمْسِى كَافِرًا، وَيُمْسِى مُؤْمِنًا؛ ثُمَّ يُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ أخَلاقَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا يَسِيرٍ".

قَالَ الْحَسَنُ: "وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ صُوَرًا وَلاَ عُقُولَ، أَجْسَامًا وَلاَ أَحْلاَمَ، فَرَاشَ نَارٍ، وَذِبَّانَ طَمَعٍ يَغْدُو بِدِرْهَمَيْنِ، وَيَرُوحُ بِدِرْهَمَيْنِ، يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دَيْنَهُ بِثَمَنِ الْعَنْزِ" [مسند أحمد، ط الرسالة (30/ 353)(18404)].

يُحْدِثُ أحدُهم حدَثًا خطيرا، ويعُدُّه صغيرا صغيرا، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ المُوبِقَاتِ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: "يَعْنِي بِذَلِكَ المُهْلِكَاتِ" [البخاري (6492)].

الرَّعاعُ والطَّغامُ والغوغاءُ لهم شوكة إذا ثاروا، ولهم فساد عظيم إذا استُفِزُّوا، يخشاهم الأمراء، ويحسب حسابها العلماء، وحذَّر من ثورتهم العقلاء، فعمر -رضي الله تعالى عنه- الذي لا يخاف في الله لومة لائم استمع إلى نصيحة ابن عوف في تأجيل مقالة له في سياسة الدولة خشية الغوغاء "قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عوف: فَقُلْتُ: "يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! لاَ تَفْعَلْ، فَإِنَّ المَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ -أي السَّفِلة والسفهاء ومن لا شأن لهم- وَغَوْغَاءَهُمْ -أَصْلُهُ صِغَارُ الْجَرَادِ حِينَ يَبْدَأُ فِي الطَّيَرَانِ وَيُطْلَقُ عَلَى السَّفِلَةِ الْمُسْرِعِينَ إِلَى الشَّرِّ-، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لاَ يَعُوهَا، وَأَنْ لاَ يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ المَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ الهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أَهْلُ العِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا" -فتراجع عمر خشية إثارة الغوغاء- فَقَالَ عُمَرُ: "أَمَا وَاللَّهِ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- لأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ" [البخاري (6830)].

وحذر منهم العلماء، قَالَ محمد بن أسلم: "احْذَرُوا الْغَوْغَاءَ؛ فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ قَتَلَتْهُمُ الْغَوْغَاءُ" [حلية الأولياء (9/ 240)].

وكَانَ الْحَسَنُ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْغَوْغَاءِ، قَالَ: "هَؤُلاءِ قتلَةُ الأَنْبِيَاءِ" [الإشراف في منازل الأشراف لابن أبي الدنيا، ص: (324) (475)].

والغوغاءُ، الثوَّارُ هم الذين قتلوا الخليفة الثالث عثمان -رضي الله تعالى عنه-، قال النووي: "وَقُتِلَ مَظْلُومًا، وَقَتَلَتْهُ فَسَقَةٌ؛ لأَنَّ مُوجِبَاتِ الْقَتْلِ مَضْبُوطَةٌ، وَلَمْ يَجْرِ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَقْتَضِيهِ، وَلَمْ يُشَارِكْ فِي قَتْلِهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ هَمَجٌ وَرَعَاعٌ مِنْ غَوْغَاءِ الْقَبَائِلِ، وسَفِلة الأَطْرَافِ وَالأَرْذَالِ؛ تَحَزَّبُوا وَقَصَدُوهُ مِنْ مِصْرَ، فَعَجَزَتِ الصَّحَابَةُ الْحَاضِرُونَ عَنْ دَفْعِهِمْ، فَحَصَرُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" [شرح النووي على مسلم (15/ 148)].

والدماء رخصت في هذا الزمان، وصارت دون هدف أو غاية تراق وتهان، مع أنه "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ" [البخاري (6533) ومسلم (3/ 1304) (1678)].

وقد ثبت عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ .. قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ – قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ- حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا -أَوْ ضُلاَّلاً- يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلِّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ"، ثُمَّ قَالَ: "أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟" [صحيح مسلم (1679)].

وعَنْ عَابِسٍ الْغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ فَرَأَى نَاسًا يَتَرَحَّلُونَ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا: يَتَرَحَّلُونَ مِنَ الطَّاعُونِ، فَقَالَ: يَا طَاعُونُ خُذْنِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَخِيهِ: تَتَمَنَّى الْمَوْتَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْعَمَلَ، وَلا يَرُدُّ الرَّجُلَ فَيُسْتَعْتَبَ" قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تُدْرِكَنِي سِتٌّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُهُنَّ: "الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ، وَالتَّهَاوُنُ بِالدِّمَاءِ، وَإِمَارَةُ السُّفَهَاءِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ، وَالرَّجُلُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُغْنِّي بِهِ الْقَوْمَ، وَالْقَوْمُ يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لَيْسَ بِخَيْرِهِمْ وَلا بِأَفْقَهِهِمْ؛ يُغَنِّيهِمْ بِالْقُرْآنِ" [الآحاد والمثاني، لابن أبي عاصم (2/ 268)(1023) الصحيحة (979)].

فهل هذا الزمان هو الزمان؟!

وورد أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" [سنن الترمذي (1395) سنن النسائي (3987) سنن ابن ماجة (2619) صحيح الترغيب والترهيب (2/ 315)(2439)].

أين الغوغاء والظلمة عن هذه النصوص؟! وأين المحرَّضون على سفك الدماء، وكأنها أرخص عندهم من الملح والفلفل؟! "لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ" [سنن الترمذي، ت شاكر (1398) عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، وَأَبي هُرَيْرَةَ].      

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَبَا ذَرٍّ! كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا جَاعَ النَّاسُ حَتَّى لا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَسْجِدِكَ إِلَى فِرَاشِكَ، وَلا مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى مَسْجِدِكَ؟!" قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: "تَعِفُّ" ثُمَّ قَالَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا مَاتَ النَّاسُ حَتَّى يَكُونَ الْبَيْتُ بِالْوَصِيفِ؟" -أي من كثرة من يقتل حتى يكون القبر يباع بالغلام من ضيق القبور وقِلَّتها- قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: "تَصْبِرُ" ثُمَّ قَالَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا أَقْبَلَ النَّاسُ حَتَّى يَغْزُوَ أَصْحَابُ الرُّتَبِ بِالدِّمَاءِ؟" قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: "تَأْتِي مَنْ أَنْتَ مِنْهُ" قُلْتُ: فَإِنْ أُتِيَ عَلَيَّ؟ قَالَ: "إِنْ خِفْتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ؛ فَأَلْقِ طَائِفَةً مِنْ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ، يَبُوءُ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِهِ، فَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" قُلْتُ: أَفَلا أَحْمِلُ السِّلاحَ؟ قَالَ: "إِذًا تُشَارِكُهُ" [المستدرك للحاكم (4/ 469) (8304) قال الذهبي: "على شرط البخاري ومسلم"].

واعلموا -عباد الله- أنه "لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا" [البخاري (6862)].

إن الحاكمَ مسئولٌ عن حياةِ من يحكمهم، فعليه أن يرحمَهم، ويرفعَ عنهم ظلمَ الظالمين، فلا يجوز للقادة أن يتخذوا الأفرادَ حقلَ تجارب؛ لجلبِ منافع َدنيوية، وتحقيقِ مكاسبَ مادية، إن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يسأل قادته هذا السؤال: "إِذَا حَاصَرْتُمُ الْمَدِينَةَ كَيْفَ تَصْنَعُونَ؟" قَالَ: نَبْعَثُ الرَّجُلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَنَصْنَعُ لَهُ هَنَةً مِنْ جُلُودٍ، قَالَ: "أَرَأَيْتَ إِنْ رُمِيَ بِحَجَرٍ؟" قَالَ: إِذًا يُقْتَلُ! قَالَ: "فَلا تَفْعَلُوا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ مَا يَسُرُّنِي أَنْ تَفْتَحُوا مَدِينَةً فِيهَا أَرْبَعَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ بِتَضْيِيعِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" [مسند الشافعي- ترتيب السندي (2/ 120)(401) والسنن الكبرى للبيهقي (9/ 72)(17908) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ].

واليوم السفهاء والرَّعاعُ على استعدادٍ بتضييع الآلاف من المسلمين في مقابل قتلِ كافرٍ واحد أو حتى جرحه "بلغ عمرَ بنَ الخطاب أن عاملَه على البحرين ابنَ الجارود أو ابن أبى الجارود أُتيَ برجلٍ يقال له: "إدرياس" قامت عليه بينة بمكاتبة عدو المسلمين، وأنه قد همَّ أن يَلْحقَ بهم، فضرب عنقه، وهو يقول: "يا عُمَراه يا عُمُراه!" فكتب عمر إلى عامله ذلك، فأمره بالقدوم عليه، فقدم فجلس له عمر وبيده حَربةٌ، فدخل على عمر، فعلا عمرُ لحيتَه بالحربة وهو يقول: "إدرياسَ لبيك! إدرياسَ لبيك!" وجعل الجارود، يقول: "يا أمير المؤمنين! إنه كاتبهم بعورة المسلمين، وهمَّ أن يلحق بهم!" فقال عمر: "قتَلْتَه على هَمِّه؟ وأيُّنا لم يهمَّه؟ لولا أن تكون سنة؛ لقتلتُك به" [ابن جرير عن يزيد بن أبى منصور، كنز العمال (40168)].

وعَنْ فُضَيْلِ بْنِ زَيْدٍ الرَّقَاشِيِّ، قَالَ: سَرَتْ سَرِيَّةٌ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى أَرْجُلِهِمْ، فَأَعْيَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ فَنَادَى: "يَا عُمَرَاهُ!" فَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؛ أَنِ ابْعَثْ إلى بالرجل، فبعث بِهِ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ قَنَاةً -أي عصا طويلة- فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا، وَيَقُولُ: "يَا لَبَّيْكَاهُ!" وَيَقُولُ: "يَا مُهْلِكُ! يَقُولُ لَكَ الرَّجُلُ: انْتَظِرْنِي فَتَذْهَبُ وَتَتْرُكُهُ فَيُنَادِي يَا عُمَرَاهُ؟" فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَصَلاحُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَلاكِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ" وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "انْظُرْ مُهْلِكًا فَلا تَسْتَعْمِلْهُ مَا كُنْتَ لَنَا عَلَى عَمَلٍ" [تاريخ المدينة، لابن شبة (3/ 812) مسند الشافعي (317) سنن سعيد بن منصور- الأعظمي (2/225، 226) مصنف ابن أبي شيبة (6/496) صحيح من طريق ابن شبة، فضيل بن زيد الرقاشي، ثقة، روى عن عمر -رضي الله عنه- ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل (7/72)].

ومع عمر أيها الولاة! مع عمر أيها القادة! "خَرَجَ جَيْشٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- نَحْوَ الْجَبَلِ، فَانْتَهَوْا إِلَى نَهْرٍ لَيْسَ عَلَيْهِ جِسْرٌ، فَقَالَ أَمِيرُ ذَلِكَ الْجَيْشِ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: "انْزِلْ فَابْغِنَا مَخَاضَةً نَجُوزُ فِيهَا" فِي يَوْمٍ بَارِدٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: "إِنِّي أَخَافُ إِنْ دَخَلْتُ الْمَاءَ أَنْ أَمُوتَ" فَأَكْرَهَهُ، فَقَالَ: "يَا عُمَرَاهُ! يَا عُمَرَاهُ!" ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ هَلَكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَهُوَ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ, فَقَالَ: "يَا لَبَّيْكَاهُ! يَا لَبَّيْكَاهُ!" وَبَعَثَ إِلَى أَمِيرِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَنَزَعَهُ، وَقَالَ لَهُ: "لَوْلا أَنْ تَكُونَ سُنَّةً؛ لأَقَدْتُ مِنْكَ، لا تَعْمَلْ لِي عَلَى عَمَلٍ أَبَدًا" [تاريخ المدينة لابن شبة (3/ 812) عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ. البيهقي: السنن (8/323) ومداره على الأعمش، وهو مدلس وقد عنعن، والأعمش من المرتبة الثانية التي تحمل الأئمة تدليسهم].

الخطبة الثانية:

بعض الناس استمرأ القتل، وسفكُ دمِ إنسان عنده كأنما يذبح دجاجة، هذا من الذي يُحال بينهم وبين الجنة يوم القيامة، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَحُولَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ يُهْرِيقُهُ؛ كَأَنَّمَا يَذْبَحُ دَجَاجَةً، كُلَّمَا تَقَدَّمَ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لا يُدْخِلَ بَطْنَهُ إِلاَّ طَيِّبًا، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ" [أخرجه الطبراني فى المعجم الكبير (2/ 171/ 1662) والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 347/ 5350) انظر الصحيحة (3379) وأصله في البخاري (7152)].

وثبت أَنَّ المِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الكِنْدِيَّ، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاَذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، -أي تحيَّل في الفرار مني واستتر خلف شجرة واعتصم بها- فَقَالَ: "أَسْلَمْتُ لِلَّهِ" أَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ تَقْتُلْهُ" فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا؟" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ -محقون الدم؛ يقتل قاتله قصاصا- وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ -أي مهدر الدم تقتل قصاصا لقتلك مسلما- قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ" [البخاري (4019) ومسلم (95)].

وهذا حِبُّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسامةُ بن زيد قتل رجلا، قَالَ: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: "فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: "وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" قَالَ: فَجَعَلَ لا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [البخاري (4269) ومسلم (96، 97)].

وعن عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عن أبيه، قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ -وهو حبل مجدول من جلود- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا قَتَلَ أَخِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَقَتَلْتَهُ؟" -فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ- قَالَ: "نَعَمْ! قَتَلْتُهُ" قَالَ: "كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟" قَالَ: "كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ، فَقَتَلْتُهُ" فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟" قَالَ: "مَا لِي مَالٌ إِلاَّ كِسَائِي وَفَأْسِي" قَالَ: "فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟" قَالَ: "أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ" فَرَمَى إِلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ، وَقَالَ: "دُونَكَ صَاحِبَكَ" فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَلَّى؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ" فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ" وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ، وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟" قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ -لَعَلَّهُ قَالَ- بَلَى، قَالَ: "فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ" قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ" [مسلم (1680)].

وهذا في حث وحض وترغيب في العفو عن القتل.

إن المؤمنَ لا يغدر؛ وإن أتيحت له فرصة الغدر بالكافر؛ ولا يقتل وإن سنحت له فرصةُ القتل، فهو مقيَّدٌ بالإيمان، عَنْ رِفَاعَةَ الْفِتْيَانِيِّ، قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ، فَأَلْقَى لِي وِسَادَةً".

وفي رواية للخرائطي في [مكارم الأخلاق، ص: 74) ح(180)]: "دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ، فَإِذَا وِسَادَتَانِ مُلْقَاتَانِ، فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ، هَاتِي لِفُلانٍ وِسَادَةً قُلْتُ: هَاتَانِ وِسَادَتَانِ! قَالَ: قَامَ عَنْ هَذِهِ جِبْرِيلُ، وَقَامَ عَنْ هَذِهِ مِيكَائِيلُ".

وَقَالَ: "لَوْلاَ أَنَّ أَخِي جِبْرِيلَ قَامَ عَنْ هَذِهِ لأَلْقَيْتُهَا لَكَ، قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ أَخِي عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَمَّنَ مُؤْمِنًا عَلَى دَمِهِ، فَقَتَلَهُ، فَأَنَا مِنَ الْقَاتِلِ بَرِىءٌ".

وفي رواية: "مَنِ ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا".

وفي رواية: "مَنْ أَمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ، فَقَتَلَهُ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [مسند أحمد، ط الرسالة مسند أبي داود الطيالسي  وغيرهما، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب  وانظر: الصحيحة].

قال في الإكمال: "أما الفتياني، بالفاء نسبةً إلى فتيان بطن من بجيلة منهم رفاعة بن عاصم الفتياني عن عمرو بن الحمق.

وأما القِتباني، بكسر القاف، فهو عياش بن عباس القتباني وابنه عبد الله بن عياش أبو حفص" [الجرح والتعديل (3/ 493)(2238].

ف "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" [سنن أبي داود صحيح الجامع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ].

حال يشبه الحال، والفارق الزمن، قال مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: "سَمِعْتُ سَحْنُونًا يَقُولُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً فِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ -من قَوْلِ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ -رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ-: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ؛ يُسَمِّنُ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى تَعْقِدَ شَحْمًا, ثُمَّ يَسِيرُ عَلَيْهَا فِي الأَمْصَارِ حَتَّى تَعُودَ نَقْصًا, يَلْتَمِسُ مَنْ يُفْتِيهِ بِسُنَّةٍ قَدْ عُمِلَ بِهَا؛ فَلا يَجِدُ مَنْ يُفْتِيهِ إِلاَّ بِالظَّنِّ".

قَالَ سَحْنُونٌ: "إِنِّي أَظُنُّ أَنَّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ, فَطَلَبْتُ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ, فَكَانُوا كَالْكَوْكَبِ الْمُضِيءِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ".

قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: "فَإِذَا طَلَبْتَ الشَّيْءَ الْخَالِصَ لَيْسَ تَجِدُهُ, وَإِذَا كَانَ مُخْتَلِطًا؛ فَهُوَ الْكَامِلُ،.. كِتَابُ اللَّهِ قَدْ بُدِّلَ, وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ غُيِّرَتْ, وَدِمَاءٌ قَدْ سُفِكَتْ, وَكَرَائِمُ قَدْ سُبِيَتْ, وَحُدُودٌ قَدْ عُطِّلَتْ, وَتَرَأَّسَ أَهْلُ الْبَاطِلِ, وَتَكَلَّمَ فِي الدِّينِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ, وَخَافَ الْبَرِيءُ, وَأَمِنَ النَّطِيفُ, وَحَكَمَ فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَسُوِّدَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَسْخُوطٌ فِيهِمْ" [البدع، لابن وضاح (2/ 164) (245) جامع بيان العلم وفضله (1/ 603) (1037)].

كيف بك -أيها القاتل- يوم القيامة عندما: "يَجِيءُ الْمَقْتُولُ آخِذًا قَاتِلَهُ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا عِنْدَ ذِي الْعِزَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ فَيَقُولُ: فِيمَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلانٍ. قِيلَ: هِيَ لِلَّهِ" [المعجم الأوسط (1/ 234)(766) صحيح الترغيب (2/ 317) (2448)].

عباد الله: إنكم في زمان تغربلون فيه غَربلة، فكونوا من الصفوة لا من الحثالة، كونوا من العقلاء لا من الجهلاء والغوغاء، فلازموا خاصتَكم والعلماء، وعليكم بما تعرفون، ودعوا ما لا تعرفون، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ" أَوْ "يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ؛ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا، فَكَانُوا هَكَذَا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَقَالُوا: "وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!" قَالَ: "تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ -أي ما هو معروف وحقٌّ ومشروع- وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ -أي ما هو منكر وليس بحق ولا مشروع- وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ– يعني: كل يسعى لسلامة نفسه وحفظها- وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ" [سنن أبي داود (4342) وغيره، انظر الصحيحة (205)].

قال العباد -حفظه الله تعالى-: "وكونهم مرجت عهودهم وأماناتهم، وصاروا بهذه الأوصاف والهيئات؛ معناه أن الإنسان يحرص على أن يبقى سالماً، وألا يصيبَه ما أصابهم، وألا يحصل له ما حصل لهؤلاء الذين مرجت عهودهم وأماناتهم" [شرح سنن أبي داود، لعبد المحسن العباد].

وقال في عون المعبود: "أي الزم أمر نفسك، واحفظ دينك، واترك الناس ولا تتبعهم، وهذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذا كثر الأشرار، وضعف الأخيار" [عون المعبود شرح سنن أبي داود (11/ 335)].