الحياء لا يأتي إلا بخير

عناصر الخطبة

  1. تعريف الحياء
  2. الحياء الفطري والحياء المكتسب
  3. أهمية الحياء وفضله
  4. حياء الرب وحياء الأنبياء والملائكة وحياء الصحابة
  5. الفرق بين الحياء المحمود والمذموم
  6. حقيقة الحياء
اقتباس

وما السبب في شيوع المناكر والفواحش كبيرها وصغيرها، حتى أضحى التنافس فيها والتباهي بها، والإغراء ممارسة ومشاهدة في الشوارع والمدارس، وفي وسائل الإعلام، دون تورع ولا حرج ولا خجل، بل أضحت الفواحش ميادين لمشاريع المستثمرين المستهترين؟ لماذا لم ….

الخطبة الأولى:

يقول الله -جل وعلا-: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب:53].

حين نتساءل: ما الذي ضعف فينا أو ضاع؛ فضاع التوقير والتعظيم لله تعالى وشرائعه وحرماته، حتى تطاول عليها الفاسقون عنوة وجهارا، وهم في ديار الإسلام؟

وما السبب في شيوع المنكرات والفواحش كبيرها وصغيرها، حتى أضحى التنافس فيها والتباهي بها، والإغراء ممارسة ومشاهدة في الشوارع والمدارس، وفي وسائل الإعلام، دون تورع ولا حرج ولا خجل، بل أضحت الفواحش ميادين لمشاريع المستثمرين المستهترين؟

لماذا لم يعد الصغير يوقر الكبير، ولا العامة يوقرون الخاصة من العلماء وذوي الفضل؟

وكيف تجرأت نساء أكثر المسلمين وبناتهم على التبرج والاختلاط المقيت في الشوارع والأسواق والشواطئ وغيرها ؟

التساؤلات كثيرة لا تحصى كما لا تحصى فينا حالات الانحراف والتفسخ والاستهتار بقواعد وضوابط الدين والخلق والفضيلة!.

لكن جوابا واحدا يستوعب هذه التساؤلات، وهو: ضياع خلق الحياء!.

هذا الخلق النبيل الذي يعتبر خصلة الإسلام المميزة، كما ورد في الأثر: "إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء" [الطبراني وابن ماجه].

وفي الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، أفضلها قول لا اله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" [متفق عليه].

وهو الخلق الذي أضحى متهما عند كثير من الناس ممن ينظر إليه على أنه نقص في الشخصية أو ضعف فيها! أو ينعتونه بمرض نفسي يستدعي العلاج ؟!

لا حاجة إلى تفصيل القول في قيمة الأخلاق وفضلها في رسالة الإسلام عبادات ومعاملات، فهي من مقومات وحقائق التدين الصحيح، والالتزام السليم، وحسبكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا".

ولما كان الحياء مركزيا في أخلاق الإسلام، فسيكون أكمل المؤمنين خلقا، أشدهم حياء.

ولا غرابة فالحياء مفتاح أخلاق الإيمان جميعا، كلما استقام خلق، فإنما يستقيم على الحياء من الله تعالى ومن العباد.

والحياء في تعريفه الوجيز: خلق يحمل صاحبه على فعل كل ما هو مليح محمود، وترك كل ما هو قبيح مذموم، مما لا يرضاه الله تعالى، وما فيه أذية للناس أو إفساد في الأرض، سواء كان بالأقوال أو الأفعال أو الأحوال.

فإذا رأيت إنسانا يتحرج من فعل المفاسد والشرور، ويعلوه الخجل إذا بدر منه شيء من ذلك، فاعلم أنه حيي، حي القلب والضمير.

وإذا رأيت إنسانا بذيئا مستهترا، لا يبالي ولا يتورع عن قول أو فعل ما تهوى نفسه، فاعلم أنه ضعيف الحياء أو عديمه، وليس له من ضمير وازع يردعه أو يؤنبه.

وربما كان الحياء مشتقا من الحياة، فيكون الحيي هو الحي، ومن لا حياء له فهو ميت في الدنيا، شقي في الآخرة، لما يخسر بضياع حيائه من أسباب النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.

ولا بد من التمييز بين الحياء الفطري المتأصل في الطبيعة النفسية الإنسانية، وبين الحياء المكتسب، وكلاهما ينميان ويهذبان بالتربية الإيمانية الخلقية.

ولذلك كان الحياء والإيمان قرينين متكاملين يستدعي كل منهما الآخر ويشهد له، فإذا انعدم أحدهما، انعدم الآخر، وذلك معنى الحديث النبوي: "الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر" [رواه الحاكم].

وقد فسر ابن عباس قوله تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف:26] بمعنى لباس الحياء.

ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أنصاريا يعاتب أخاه في شدة حيائه الذي يضيع عليه حقوقه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه فان الحياء من الإيمان" [متفق عليه].

إن الحياء من خصال الأنبياء والأتقياء والصالحين، الحافظين لإيمانهم ووقارهم وكرامتهم الإنسانية، وأما البذاءة والوقاحة، فهي صفة الأشرار والفاسقين المستهترين الذين لا يرعون حرمة للدين ولا كرامة لأنفسهم ولا اعتبارا لغيرهم، فلا يشعرون بالحرج فيما يفعلون من المناكر والمفاسد.

يقول النبي الأمين صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار" [أحمد وأصحاب السنن].

إن المرء حين يستحيي؛ تسمو أخلاقه، وتطيب علاقاته، ويرقى في مدارج القربى من محبة الله ورضاه ورضوانه.

وقد قيل: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه.

وإن المرء حين يفقد الحياء، ينحدر من سيئ إلى أسوأ، ومن رذيلة إلى أرذل، ولا يزال كذلك حتى يصاب بموت القلب، وماذا بعد موت القلب إلا الهلاك.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" [البخاري].

وكفى به وعيدا شديدا لمن ذاب حياؤه فتحطمت زواجر إيمانه وذاب ضميره.

ويقول عمر بن الخطاب: "من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه".

وقد نظم الشاعر هذه المعاني فأجاد:

إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولو تستحي، فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء ما استحيى بخير *** ويحيا العود ما بقي اللحاء

نعم، يعيش المرء بخير ويحيا خيرا فاضلا ما دام على خلق الحياء مع الله جل وعلا ومع الناس، فإذا فقد الحياء هان عليه السوء والفحشاء والمنكر، بما فقد من كرامته وعفته ووقاره، ولا يرجى منه خير.

فمن ذا الذي يرضى لنفسه هذه المهانة، إلا أن يكون شقيا محروما.

يقول ابن القيم: "خُلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، بل هو خاصة الإنسانية، فَمَن لا حياء فيه فليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة كما أنه ليس معه من الخير شيء".

إذا قل ماء الوجه قل حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه

حياءك فاحفظه عليك وإنما *** يدل على فعل الكريم حياؤه

إن الله تعالى حيي، يستحيي من أهل الإيمان والحياء، ففي الأثر: "من استحيا من الله استحيا الله منه".

فحياء الرب، حياء فضل وجود وكرم، يستحيي سبحانه وتعالى من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا، ويستحيي أن يعذب ذا شيبة في الإسلام، وفي الحديث: "إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر" [أبو داود والنسائي].

وأما الحياء الذي بين العبد وربه، فهو حياء العبودية، هيبة وخشية وتعظيما لله عز وجل وافتقارا إليه وإنابة.

خلق ينمو ويقوى بمعرفة الله تعالى والشعور الدائم بأنه رقيب لا تخفى عليه خافية.

وعلى قدر ما يقوى الحياء من الله، يثمر الحياء من الناس، فلا يكون الحيي كذابا ولا مغتابا ولا نماما ولا عيابا، ولا فاحشا متفحشا، يجاهر بالمعصية، لكونه يستحيي في ذلك كله من الله الذي حرم هذه الآفات، وهذا من الإحسان الذي هو مطلب الإسلام في كل شيء: "أن تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فانه يراك".

إذا ما خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني

كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء لله تعالى ومع الناس، إلا في الحق والعدل ومع حرمات الله، فإنه لا تأخذه في الله لومة لائم.

يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "كان رسول الله أشد الناس حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه" [متفق عليه].

كذلك أخبر عنه القرآن الكريم: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب:53].

وكذلك كان الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان يتحلون بحلية الحياء، حتى كان منهم من يستحيي من الله في الخلاء فيستر وجهه، وأن منهم من تستحيي منه الملائكة لشدة حيائه، كعثمان الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة" [رواه مسلم].

وهذه أم المؤمنين عائشة تستحيي حتى من الأموات، تقول: "كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي، واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر بجوارهما، فو الله ما دخلته إلا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر".

وهنا يلزم التمييز بين الحياء المحمود والحياء المذموم.

فالحياء المحمود المطلوب خصلة إيمانية خلقية، لا يمنع صاحبه من الحق والصدق والعدل، وهو الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير" [متفق عليه].

والحياء المذموم خجل نفساني يمنع صاحبه من الصدع بالحق والصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فلا يجوز أن يحول الحياء دون ذلك، وإلا فهو عجز وضعف ومهانة.

وقديما قيل:"اثنان لا يتعلمان: المتكبر والمستحيي".

فالمتكبر يتعالى بزهوه وغروره على العلم والتعلم، والخجول يمتنع بخجله عن سؤال التعلم بالمساءلة، وكلاهما يحرم نفسه من فضيلة العلم والمعرفة.

وأما الحياء الحقيقي، فهو تراجع أمام دوافع الشر، وجراءة محمودة في إرادة الخير وطلب المعرفة.

وفي ذلك تثني عائشة رضي الله عنها على نساء الأنصار، فتقول: "رحم الله نساء الأنصار، ما منعهن الحياء أن يتفقهن في الدين".

كذلك عاشت مجتمعاتنا الإسلامية عبر التاريخ على خصال الحياء وثماره الطيبة في الإيمان والعبادة والعمل والمعاملات.

وكان الحياء حلية المرأة المسلمة العفيفة، يزينها ويزيدها كرامة ووقارا، وله تجلياته في أقوالها وأفعالها وملبسها وفي كل أحوالها، إلى أن هبت عليها رياح التمدن الغربي المادي بأفكاره، وشعاراته التحررية، فأخذ الحياء يتراجع ويذوب حتى بلغت الوقاحة والبذاءة والتهتك مبلغا مريعا، بمظاهر التبرج والعري والاختلاط والجراءة على حدود الله وحرماته، وأصبح أهل الحياء غرباء، يرمون بوصمة التخلف، ومجافاة عصر التحرر والحداثة.

وإنما هي فضيلة الأمة الإسلامية أصيبت في الصميم بضربة قاضية من طريق ضرب خلق الحياء.

فاللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، فاجعل الحياء حلية لنا على الدوام.

الخطبة الثانية:

في سنن الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من الله حق الحياء"، قال قلنا: إنا لنستحي من الله والحمد لله، قال: "ليس ذاك، ولكن الحياء من الله: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء".

وصية المعلم الأمين للمؤمنين بخلق الحياء من الله تعالى على الصدق والإخلاص والثبات، التزاما بمقتضياته في كل الأحوال، عملا بتجلياته وحقائقه في جوارح الرأس وما يضم كالسمع والبصر والكلام، بتسخيرها فيما يرضي الله واجتناب معاصيها، وفي ما يتعلق بالبطن وما حوى، حرصا على المطعم الحلال واتقاء الفواحش.

وأن يستحضر المؤمنون مصير الموت والبعث والحساب والجزاء؛ فإن من يتعلق بالآخرة لا تستهويه الدنيا وإنما يزهد في متاعها، عاملا فيها من أجل الفوز برضوان الله يوم القيامة، وبذلك يجعل النبي الكريم حقيقة الاستحياء من الله التزاما بمقتضيات التقوى والاستقامة.

جدير بالمسلم -وهو يعلم عظيم فضل الله عليه، ويدرك أنه عليه رقيب- أن يلزم الحياء من ربه ومع الناس؛ صونا لإيمانه وكرامته ومروءته، فيكون عليه منه حلية تصونه وتجمله باطنا وظاهرا، ويكون له منه وازع مانع من التبذل والتهتك واقتراف المعاصي، وحافز دافع إلى إحسان الإقبال على الله بذكره وشكره، وحسن عبادته، وناصح خلقي أمين يبعث على إحسان معاملة الناس، وإتقان الأعمال، ورعاية الأمانات.

إننا بالنظر إلى كثرة ذنوبنا، كبائر وصغائر، وإلى شدة تقصيرنا في جنب مولانا تعالى، وهو صاحب الفضل الواسع علينا بنعمه وحلمه وعفوه، لجدير بنا أن نتفطر حياء منه سبحانه، ففي الأثر القدسي: "إنني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتودد إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي" [أخرجه الطبراني].

وكيف لا نستحيي حياء المسارعين إلى التوبة والإنابة أمام حال شعائر الله وحرماته بيننا، التي يستهتر بها الفاسقون، ويعبث بها المعرضون، ويقصر في حقها من التعظيم والعمل الغافلون.

فاتقوا الله -أيها الناس-، والزموا الحياء والعفاف، فهو الباعث على الاستقامة، على الإيمان والطاعات والقربات، واجتناب القبائح والمنكرات، وهو المانع من التقصير والتفريط في جنب الله عز وجل.

فسبحان من يذنب عبده ويستحي هو، وهو الحيي الحليم الكريم.

جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.