قصة الإسراء والمعراج

عناصر الخطبة

  1. مقدمات حادثة الإسراء والمعراج
  2. اشتداد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  3. بداية الإسراء والمعراج
  4. الصحيح في مسألة رؤية الله جل جلاله
  5. فرض الصلوات الخمس
  6. بعض ما رأى الرسول من أحوال العصاة
  7. النبي يحكي القصة لقريش
  8. تصديق أبي بكر وتكذيب قريش
اقتباس

ونعيش اليوم مع آية باهرة ومعجزة ظاهرة، وحدث عظيم، مع معجزة من معجزات المصطفى صلى الله عليه وسلم التي كان الله عز وجل يؤيده بها بين الحين والآخر مع الإسراء والمعراج. فبعد عشر سنوات من الدعوة التي ابتدأت بتلقي الوحي في غار حراء ومضت تشق طريقها في قلوب الفتيان من قريش وفي عالم الجن على يد وفد جن نصيبين ..

الحمد لله رب العالمين، أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فإنها وصية الله تعالى للأولين والآخرين من خلقه: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ [النساء:131]، تقوى الله هي النجاة والفلاح والسعادة والاطمئنان، هي الخلف من كل شيء، والداعي إلى كل خير، والعاصم من كل سوء: ﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق:5].

أيها المسلمون: تظل السيرة النبوية منبعًا عذبًا وموردًا صافيًا ينهل منه المسلمون في كل حين وفي كل مكان، يلتمسون العبر والدروس في سيرة خير البرية وصاحب الرسالة النبي المعصوم -صلى الله عليه وسلم-.

ونعيش اليوم مع آية باهرة ومعجزة ظاهرة، وحدث عظيم، مع معجزة من معجزات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- التي كان الله -عز وجل- يؤيده بها بين الحين والآخر مع الإسراء والمعراج.

فبعد عشر سنوات من الدعوة التي ابتدأت بتلقي الوحي في غار حراء ومضت تشق طريقها في قلوب الفتيان من قريش وفي عالم الجن على يد وفد جن نصيبين، وتتجاوب أصداؤها في قبائل العرب كلها من خلال لقاءات الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع وفود العرب في أسواقهم ومواسمهم، وتصل بتابعيها إلى بلاد النجاشي في الحبشة، فتثمر الإسلام والحماية والدعوة والنصرة.

وكان المشركون في مكة يبثون سمومهم ودعايتهم في كل مكان ضد الدعوة الجديدة، ويؤلبون العرب على حرب رسول الله وأتباعه، ورميه بالكهانة مرة وبالسحر أخرى وبالجنون ثالثة، ويطاردونه هو وأصحابه أينما حلوا وحيثما ذهبوا، وشاءت إرادة الله –عز وجل- أن يتوفى عمه أبو طالب وزوجه خديجة وقد كانا له سندًا وقوة يدافعان عنه ويواسيانه ويعزيانه على مصابه في قومه وتكذيبهم له، وعداوتهم له، يصور ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى توفي عمي أبو طالب". رواه ابن هشام في السيرة.

وفي ظل هذه الظروف القاسية اشتد الأذى على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، والرسول -صلى الله عليه وسلم- مع ذلك صابر لأمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، يدعو إلى الإسلام ويبلغ عن الله رسالاته، يقوم -صلى الله عليه وسلم- في جنح الظلام، ويرفع يديه إلى الحي القيوم، ويقول: "اللهم اهدِ قومي واغفر لهم فإنهم لا يعلمون". رواه البخاري ومسلم.

وكان الله -عز وجل- مع نبيه يؤيده بالآيات ويعزيه بالوحي بين الفينة والأخرى ويسليه بقصص الأنبياء والرسل السابقين الذين منهم من لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ولم يؤمن معه إلا اثنا عشر رجلاً.

قال -صلى الله عليه وسلم-: "عرضت عليَّ الأنبياء الليلة بأممها، فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي ومعه العصابة، والنبي ومعه النفر، والنبي ليس معه أحد، حتى مر عليَّ موسى معه كبكبة من بني إسرائيل فأعجبوني، فقلت: فأين هؤلاء؟! فقيل لي: هذا أخوك موسى معه بنو إسرائيل، قال: قلت: فأين أمتي؟! فقيل لي: انظر عن يمينك! فنظرت فإذا الظراب قد سد بوجوه الرجال، ثم قيل لي: أرضيت؟! فقلت: رضيت يا رب.. رضيت يا رب". رواه أحمد.

وذات ليلة جلس -صلى الله عليه وسلم- في بيت أم هانئ بنت عمه أبي طالب -رضي الله عنها-، فصلى العشاء الآخرة ثم نام عندها، فأذن الله -عز وجل- له بالإسراء والمعراج، فأتاه جبريل -عليه السلام- بالبراق -وهو دابة بيضاء طويلة فوق الحمار ودون البغل- يضع حافره عند منتهى طرفه -أي نظره-.

فركب عليه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى بيت المقدس، فربطه بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخل المسجد، فلما دخل وجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فأَمَّهم وصلَّى بهم ركعتين، وفي هذا دلالة على فضله -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء والرسل، ثم جاءه جبريل -عليه السلام-، فشقّ صدره -صلى الله عليه وسلم- واستخرج قلبه وغسله، وهذه هي المرة الثانية، فالمرة الأولى كانت في بادية بني سعد، وهو طفل صغير يرعى البهم مع أطفال جيران أمه من الرضاعة حليمة السعدية، ثم جاءه بإناء فيه خمر، وآخر فيه لبن، فاختار -صلى الله عليه وسلم- اللبن، فقال له جبريل: "اخترت الفطرة".

ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل، ففتح له فوجد آدم أبا البشر -عليه السلام-، وكان جالسًا تعرض عليه أرواح ذريته من بني آدم، فيقول لبعضها: إذا عرضت عليه خيرًا ويقول: روح طيبة خرجت من جسد طيب، ويقول لبعضها: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث.

ثم لم يزل جبريل يستفتح له، كلما دخل سماءً حتى بلغ السماء السابعة، فرأى الجنة والنار، وعرج به إلى سدرة المنتهى، ورأى ما فيها من عجائب الخلق وبدائع الصنع: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم:18]، بعد ذلك عرج به إلى الجبار -جل جلاله-، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى إليه.

والصحيح عند أهل العلم والمحدثين: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه تلك الليلة لما روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال: كنت متكئًا عند عائشة فقال: "يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟! قالت: من زعم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئًا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين: أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله -عز وجل-: ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ [التكوير:23]، ويقول: ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [النجم:13]، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عظيم خلقه ما بين السماء إلى الأرض"، فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام:103]، أو لم تسمع أن الله يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى:51]… الحديث.

ثم فرض الله عليه الصلوات الخمسين في اليوم والليلة، فلما رجع إلى موسى -عليه السلام- قال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإني قد بلوت بني إسرائيل، وإن قومك لا يطيقون ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رواية مسلم: "فلم أزل أذهب بين ربي وموسى حتى خففها الله خمس صلوات"، قال موسى: اذهب إلى ربك فاسأله أن يخفف فيها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إني رجعت إلى ربي حتى استحييت منه". ففرضت الصلوات الخمس والحسنة بعشر أمثالها، فكانت خمسًا في الفعل وخمسين في الأجر.

كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- رحيمًا بأمته شفيقًا عليهم، والله -عز وجل- يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، ويقول: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:128].

حرص -صلى الله عليه وسلم- أن تكون شريعته سمحة سهلة ميسرة، ولكن أن تتصوروا الحال لو تركها النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسين صلاة ولم يسأل ربه التخفيف على أمته أكان المسلمون يحافظون عليها؟! خمس صلوات في اليوم والليلة ونحن بين مضيع لها ومفرط في بعضها والله المستعان، فكيف لو كانت خمسين صلاة في الفعل؟! ولكنها الشريعة السمحة والدين اليسر: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج:78].

وفي تلك الليلة رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يهول الفؤاد من أحوال العصاة من أمته، فقد رأى رجالاً من أمته لهم مشافر كمشافر الإبل، في أيديهم قطع من نار كالأفهار، يقذفونها بأفواههم فتخرج من أدبارهم، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء:10]، ثم رأى رجالاً لهم بطون لم ير مثلها قط في طريق آل فرعون إلى النار، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار فيطؤونهم لا يقدرون على أن يتحولوا مع مكانهم ذلك، قال: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء أكلة الربا: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:275]، ورأى رجالاً بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن الرائحة، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم عليهم منهن، وهم الزناة والعياذ بالله.

ورأى نساءً معلقات بثديهن، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على أزواجهن من ليس من أولادهم. أي: بالزنا. وهذه الروايات في الصحيح.

وبعد ذلك عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الأرض إلى مكة من ليلته، ورجع كما كان في فراشه في بيت أم هانئ، قالت: فلما كان قبيل الفجر أيقظنا رسول الله، فلما صلى الصبح وصلينا معه، قال: "يا أم هانئ: لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين".

فقام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه فقالت له:" يا نبي الله: لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك ويؤذوك"، قال: "والله لأحدثهم"، فخرج على الناس ثم دنا من الكعبة حتى جلس عند الحجر مهمومًا حزينًا ساكنًا، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها غيره لأصبح مندهشًا أو طائش العقل، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أصبح واجما -أي ساكنًا- يخشى إن أخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه".

وهو جرب معهم قبل ذلك، فقد كانوا يسألونه المعجزات والآيات التي تثبت نبوته، فإذا أيده الله بها كذبوه ورموه بالسحر والكهانة، سألوه مرة أن يشق لهم القمر، قال: فإن حدث ذلك أتؤمنون بي؟! قالوا: نعم، فرفع يديه إلى السماء ودعا الله أن يشق القمر، فانشق القمر فلقتين، فلما رأوه كذبوه، وقالوا: ما هذا إلا سحر، سحرنا محمد، سحرنا محمد، قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ(5)﴾ [القمر1 :5].

والله -عزّ وجل- قد أخذ عليه العهد أن يبلغ الرسالة إلى الناس ولو ناله الأذى الشديد وحسابه على الله وهو ناصره ومعينه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة:67].

فلم يكن أمامه -صلى الله عليه وسلم- إلا إخبارهم علّهم أن يصدقوه ويؤمنوا به، وبينما هو جالس في المسجد جاءه أبو جهل -عليه من الله ما يستحقه-، فرآه مهمومًا واجمًا، قال: مالك يا محمد؟! هل من خبر؟! قال: نعم، فقال: وما هو؟! قال: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال: إلى بيت المقدس؟! قال: نعم، فأخذ أبو جهل يسخر ويهزأ ويقول: نشد الرحال إلى بيت المقدس الشهر والشهرين لا نصله وتصله أنت في بضع ساعات؟! ولم يعلم هذا المشرك المعاند أن الله -عز وجل- على كل شيء قدير، وأن قدرته لا تخضع لعقول البشر وقياساتهم، فهو العلي العظيم المتصرف في الكون كيف يشاء، إذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون، فأخذ أبو جهل ينادي في الناس حتى اجتمعوا من نواديهم ليسمعوا هذا الخبر الجديد، وهذا الهراء الذي جاء به محمد كما يزعم أبو جهل، فلما اجتمعوا قال أبو جهل: هيا يا محمد، أخبر قومك بما أخبرتني به، فقص عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رآه ليلته تلك، وأنه أتى بيت المقدس وصلى فيه، فطار الناس بين مكذب ومصدق، وارتدّ كثير ممن أسلم ولم يصدقه إلا نفر قليل.

وهذا من حكمة الله تعالى لأن الدعوة تتعرض لمرحلة جديدة من الكفاح تحتاج إلى رجال صادقين ثابتين مقتنعين بالإسلام، فكان هذا بلاءً مبينًا ليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، قال الهي تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء:60].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة خاتم رسله، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمون فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم يوم الدين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، المبعوث إلى العالمين أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله -تبارك وتعالى- واشكروه وأطيعوه وراقبوه وأنيبوا إليه واعتصموا بحبله وآمنوا بما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، واعلموا أنكم ملاقوه.

عباد الله: ما أن سمع بعض الناس خبر الإسراء والمعراج حتى انطلقوا إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فقالوا: أما سمعت ما قال صاحبك؟! قال: وما قال؟! قالوا: يقول: إنه البارحة أتى بيت المقدس فصلى فيه! قال: أو قال لكم ذلك؟! قالوا: نعم، قال: إذن فقد صدق! ثم جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمشركون حوله وقال: يا رسول الله: إني أعرف بيت المقدس فصِفْه لي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فرفع لي بيت المقدس حتى نظرت إليه، وجعل -صلى الله عليه وسلم- يصفه لأبي بكر، وأبو بكر يقول: صدقت، أشهد أنك رسول الله، حتى انتهى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له: "أنت -يا أبا بكر- الصديق"، فسماه من يومها الصديق.

أما المشركون فبهتوا وجعلوا يقولون: وما آية ذلك يا محمد؟! فإنا لم نسمع بمثل هذا قط، قال: آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فندَّ لهم بعير، فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان، فوجدت القوم نيامًا ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيته كما كان، وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب -أي تقرب- من البيضاء ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان: إحداهما سوداء، والأخرى برقاء. رواه ابن هشام في السيرة.

قالوا: يا محمد: ومتى يقدمون؟! قال: يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم ولم يقدموا حتى أوشكت الشمس على الغروب، فقام -صلى الله عليه وسلم- فدعا الله فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف، فابتدر المشركون الثنية فوافاهم الجمل الأورق الذي وصف لهم، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءًا ماءً ثم غطوه، وأنهم هبوا، يعني استيقظوا، فوجدوه مغطى كما هو وليس فيه ماء، وسألوهم عن البعير الذي شرد فقالوا: صدق والله، لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكره وند لنا بعير، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه. رواه ابن هشام.

تلك هي أحداث قصة الإسراء والمعراج ملخصة، تحمل في طياتها الآيات العظيمة والمعجزات الكبيرة، بعضها أعظم من بعض، ولكن أين القلوب الرشيدة!!

لقد كانت وقعة الإسراء والمعراج أكبر برهان لتصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيمان به من كفار مكة، ولكن الهداية بيد الله –عز وجل-، ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم.

عباد الله: حادثة الإسراء والمعراج فيها دروس وعبر وتسلية للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وآية لكفار مكة لعلهم يتقون أو يحدث الله لهم ذكرًا، ولا يجوز الاحتفال بها كما يفعله البعض ليلة السابع والعشرين من شهر رجب كل عام أو غيره، ولم يثبت أنها في هذه الليلة ولا غيرها.

وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.