عبادة الخشوع

عناصر الخطبة

  1. من أجلّ العبادات التي يتمايز الناس بها ويتفاضلون
  2. الثناء على الخاشعين والخاشعات في القرآن
  3. خشوع القلب والأعضاء
  4. قبح خشوع النفاق
  5. أهم الأسباب الباعثة على الخشوع
  6. مما يوجب الخشوع في القلب
  7. أول علم يرفع من الأرض
  8. عتاب من الكريم سبحانه
  9. ذكر بعض صفات الخاشعين
  10. السلف الصالح والخشوع في الصلاة
اقتباس

إن مما شرعه الله عز وجل مما يبرز فيه خشوع القلوب وسكونه “الصلاة”، ولقد كان السلف الصالح إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن الرحيم عز وجل عن أن يشذ نظره أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيًا ما دام في صلاته ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70 -71].

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، اتقوا الله سبحانه تقوى تحجزكم عن الوقوع في المعاصي، وتدفعكم لفعل الطاعات والإكثار من القربات والمنافسة في الأعمال الصالحات.

أيها الإخوة المسلمون: إن من أجلّ العبادات التي يتمايز الناس بها ويتفاضلون بحسب ما يستقر في قلوبهم منها عبادة الخشوع والذل لله الواحد القهار، هذه العبادة التي يظهر فيها مدى استشعار القلب لعظمة الله وجلاله وجماله وكماله، هذه العبادة التي تكسب صاحبها إخبات وإنابة وذلا وفاقة ومسكنة وحاجة إلى الغني القوي إلى الغفور الرحيم إلى الكريم الودود سبحانه وتعالى.. ولهذا كان من دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم الثابت عنه «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في ذُمرة المساكين».

والمراد بالمسكنة هنا هو الإخبات الناشئ من خشوع القلب وسكينته لله رب العالمين..

إننا أيها الإخوة المسلمون: بأمس الحاجة في هذا الزمن إلى تدارس هذا الموضوع المهم؛ لعله يسهم في إيقاظ القلوب وتحريك الهمم في هذا الوقت الذي كثرت فيه الغافلات، وأصيبت القلوب بالقسوة.

أيها الإخوة في الله: لقد مدح الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم المخبتين من عباده له، المنكسرين لعظمته سبحانه، الخاضعين والخاشعين لها، قال سبحانه وتعالى ﴿كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90]، وقال سبحانه ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35].

ووصف سبحانه المؤمنين من عباده بالخشوع له في أشرف عباداتهم التي عليها يحافظون، فقال سبحانه ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)﴾ [المؤمنون:1-2] إلى غير ذلك من الآيات القرآنية الواردة في شأن الخاشعين والخاشعات..

أصل الخشوع -يا عباد الله- هو لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب وعمر بهذه المعاني العظيمة تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأن الجوارح والأعضاء كلها تابعة للقلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».

فإذا خشع قلب العبد خشع السمع والبصر، خشع الرأس والوجه، خشعت سائر الأعضاء وما ينشأ عنها حتى الكلام، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة «خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي» وفي رواية «وما استقل به قدمي».

ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يعبث بيده في الصلاة، فقال رضي الله عنه "لو خشع قلب لخشعت جوارحه".

وفسر علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخشوع في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:2 ] قال رضي الله عنه: " الخشوع في القلب وأن تلين للمرء المسلم كنفك وألا تلتفت في صلاتك".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 2] أي خائفون ساكنون.

وقال الحسن رحمه الله "كان الخشوع في قلوبهم فغضوا له البصر في الصلاة".

وقد وصف الله تعالى في كتابه الكريم الأرض بالخشوع فقال سبحانه ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [الحج: 5] فاهتزازها وربوبها وهو ارتفاعها مزيل لخشوعها, فدل على أن الخشوع الذي كانت عليه هو سكونها وانخفاضها، فكذلك القلب إذًا فإنه تسكن خواطره وإراداته الرديئة التي تنشأ من اتباع الهوى وينكسر ويخضع لله, فيزول بذلك ما كان فيه من التعاظم والترفع والتكبر..

ومتى سكنت هذه المعاني في القلب خشعت الأعضاء والجوارح والحركات كلها حتى الصوت, وقد وصف الله تعالى الأصوات بالخشوع في قوله تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ [طه:108].

فالأصل في الخشوع -عباد الله- أن يكون في القلب لكن تظهر آثاره على الجوارح والأعضاء، ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه كان ذلك هو خشوع نفاق وهو الذي كان السلف رحمهم الله يستعيذون بالله منه كما قال بعضهم: "استعيذوا بالله من خشوع النفاق"، قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال:" أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع".

ونظر عمر رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه فقال له: "يا هذا! ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب ".

قال ابن رجب رحمه الله: " فمن أظهر خشوعا غير ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق".

وأصل الخشوع في القلب إنما ينشأ من جملة أمور من أعظمها: معرفة الله عز وجل ومعرفة عظمته، ومعرفة جلاله وكماله وجماله، فمن كان بربه أعرف فهو له سبحانه أخشع..

ومن الأسباب الباعثة على الخشوع في القلب والتي يتفاوت الخشوع في القلوب بحسب تفاوتها وتمكنها من القلوب مطالعة العبد لقرب الله منه وإطلاعه على سره وضميره المقتضي للاستحياء من الله تعالى ومراقبته سبحانه في الحركات والسكنات..

متى استشعر المسلم ذلك كله استشعارًا حقيقيًّا وجل وخشع قلبه وكيف لا يخشع قلبه حينئذ وهو يسمع قوله تعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19] ويسمع قوله تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الشعراء: 218 -220].

ومما يبعث الخشوع في القلب: مطالعة العبد لكمال الله وجماله وجلاله المقتضي للاستغراق لمحبته سبحانه والشوق إلى لقائه ورؤية وجهه الكريم يوم القدوم عليه سبحانه..

ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "وأسألك لذة النظر إلي وجهك الكريم والشوق إلى لقائك".

ووصف الله المؤمنين بأنهم أشد حبا لله وما أعظم جزاء من خشع قلبه حبًّا لله وإجلالا وتعظيما ورغبة ورهبة ودمعت عيناه شوقا للقاء ربه وتعظيمًا وإجلالاً وخوفًا ورغبة ورهبة من ذي الجلال والإكرام..

فإن من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله "رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" ذكر جمال الله وكماله وقوته وقدرته ورأفته، ذكر ذلك كله ففاضت عيناه حبا لخالقه وشوقا للقاء مولاه، كيف لا يحب لمسلم ربه وهو سبحانه المنعم المتفضل عليه الذي رباه بنعمه وكلأه بعنايته ورعاه بلطفه منذ أن كان نطفة في رحم أمه حتى خرج إلى هذه الدنيا، ثم توالت عليه وخيرات خالقه وأفضاله وإحسانه فهو يتقلب في نعم لا يعدها ولا يحصرها يتقلب فيها صباحا ومساءا ليلا ونهارا..

ومن الأسباب الباعثة التي تجعل الخشوع في القلب مطالعة العبد لشدة بطش الله وانتقامه وعقابه ممن عصاه وأعرض وتذكر صراطه المستقيم..

مطالعة بشدة بطش الله وانتقامه وعقابه المقتضي بالخوف منه سبحانه وتعالى فكما أنه سبحانه الرءوف الرحيم الكريم الودود هو سبحانه العزيز الجبار القوي القهار (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [هود: 102- 107].

أيها الإخوة المسلمون: إذا خشع القلب لله رب العالمين وامتلأ بمعاني الخشوع والذل والانكسار بين يدي العزيز الجبار حظي بالخير العميم وظفر بالفوز العظيم، فإن الله سبحانه وتعالى جابر المنكسرة قلوبهم من أجله فإنه سبحانه، وهو سبحانه في عليائه وكماله وجلاله وغناه عن خلقه يتقرب ممن يناديه في الصلاة ويعطر وجهه في السجود لعلام الغيوب..

كما يتقرب من عباده الداعين له، السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار، يجيب دعائهم، يحقق مرادهم، يعطيهم سؤلهم، ولا جبر لانكسار القلب أعظم من حصول القرب والإجابة من الله عز وجل..

وإن مما يوجب الخشوع في القلب: العلم النافع الذي يباشر القلب فيوجب له السكينة والخشية والإخبات لله والتواضع والانكسار وإذا لم يباشر القلب ذلك العلم وإنما كان على اللسان فهو حجة لله على ابن أدم تكون على صاحبه وغيره كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم".

وقال الحسن رحمه الله " العلم علمان: علم باللسان وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العلم النافع وعلم اللسان حجة الله على ابن آدم".

ولهذا جاء في الحديث الذي خرجه النسائي في السنن الكبرى من حديث جبير بن نفير رضي الله عنه عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نظر إلى السماء يوم فقال هذا أوان يرفع فيه العلم"، فقال رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد: يا رسول الله أيرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن كنت لأحسبك من أفقه رجال المدينة" وذكر ضلال اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله عز وجل قال: فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك فقال: صدق عوف، ألا أخبرك بأول ذلك يرفع؟ – أي بأول علم يرفع- فقلت: بلي، قال: الخشوع حتى لا ترى خاشعًا.

وخرجه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه لما أخبره بالذي قال، فقال: صدق أبو الدرداء لو شئت لحدثتك بأول علم يرفع من الناس "الخشوع يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعا".

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ بالله من علما لا ينفع ومن قلب لا يخشع..

فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يزين قلوبنا بمحبته ويعمرها بالخشوع والإخبات له.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 16].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين ومن شذ عنهم شذ في النار..

أيها الإخوة المسلمون: لقد عاتب الله الصحابة بقوله تعالى ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 16].

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عُوتبنا بهذه الآية إلا أبع سنين"، وهم من هم رضي الله عنهم وأرضاهم، من هم في الصدق والرغبة والرهبة..

لقد سمع كثيرًا من الصالحين هذه الآية تتلى فأثرت فيهم آثارًا عظيمة، فمنهم من اغتم وحزن، ومنهم من تاب وأقبل إلى ربه عز وجل وخرج مما هو فيه من المعاصي الذنوب..

قال الحسن رحمه الله " إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ﴾ قال: إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها وأفضى يقينها إلى قلوبهم فخشعت لله قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قوما كأنهم رؤيا عين ".

فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل ولا اطمئنوا إلا إلى كتاب الله ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم ولكن جاءهم عن الله أمرًا فصدقوا به فنعتهم الله تعالى في القرآن أحسن نعت فقال سبحانه ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63] قال رحمه الله: "حلماء لا يجهلون وإذا جهل عليهم حلموا أيضًا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون ".

ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64] تجري دموعهم على خدودهم خوفا من ربهم وشوقا له سبحانه..

قال الحسن "لأمرٍ ما سهروا ليلهم، لأمرٍ ما خشعوا نهارهم، قال ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ " [الفرقان: 65].

قال: "وكل شيء يصيب ابن آدم ثم يزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام الملازم ما دامت السماوات والأرض".

قال رحمه الله: "صدق القوم والله الذي لا إله إلا هو فعملوا وأنتم تتمنون، فإياكم وهذه الأماني رحمكم الله فإن الله لم يعطي عبدا بأمنيته خيرا قط في الدنيا والآخرة".

وكان رحمه الله يقول: "يا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة".

إخوة الإسلام: إن مما شرعه الله عز وجل مما يبرز فيه خشوع القلوب وسكونه "الصلاة" ولقد كان السلف الصالح إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن الرحيم عز وجل عن أن يشذ نظره أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا ما دام في صلاته.

ومما يظهر فيه الخشوع والذي من أفعال الصلاة: وضع اليدين إحداهما على الأخرى في حال القيام، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن المراد بذلك فقال " هو ذل بين يدي عزيز".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " يحشر الناس يوم القيامة على قدر صنيعهم في الصلاة وفسره بعض رواته بقبض شماله بيمينه، والانحناء ".

ولملاحظة هذا المعنى في الصلاة يوجب للمصلي أن يتذكر وقوفه يوم العرض الأكبر على الله بين يدي الله تعالى يوم الحساب.

ومن ذلك: إقبال المصلي على الله عز وجل، وعدم الالتفات إلى غير خالقه فلا يلتفت قلبه إلى غير ما هو مباح له ولا يلتفت بالنظر يمينًا وشمالاً، بل يقصر بصره على موضع السجود وهو من لوازم الخشوع..

ومن ذلك: الركوع وهو ذل بظاهر الجسد وتمام الخضوع مع ذلك بالركوع أن يخضع القلب لله ويذل له فيجتمع ذل الجسد وذل القلب وخشوعه..

ومن ذلك: السجود وهو أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه عز وجل حيث يجعل العبد أشرف أعضائه وأعزها عليه وأعلاها عليه حقيقة أوضع ما يمكنه فيضعه في التراب وجهه وجبينه وأنفه ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه ولهذا كان جزاء المؤمنين، بل كان المؤمن إذا فعل ذلك ن يقربه الله إليه..

فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".

فأين نحن المسلمين؟ أين نحن من هذه المعاني في صلاتنا معاني الخشوع في صلاتنا، من الناس اليوم من إذا كبر تكبيرة الإحرام طاشت يده ذات اليمين وذات الشمال تعبث تارة بلحيته أو يشماغه أو بغير ذلك، وإذا ركع وسجد ينقر ركوعه وسجوده لا يعظم ربه عز وجل في ركوعه ولا في سجوده فبمجرد ما تلامس جبهته وأنفه الأرض يرفع مرة أخرى وهكذا لا يقيم صلبه في الركوع..

إن الصلاة عبادة عظيمة وإنما تعظم هذه العبادة بقدر ما يحصل للعبد من خشوع وخضوع وذلك لله رب العالمين.

فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام تفضل علينا بالتوبة النصوح ومن علينا بالخشوع الصادق والإنابة التامة إنك على كل شيء قدير..

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم محمد بن عبد الله فقد أمركم ربكم عز وجل في كتابه فقال عز من قائل ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد..