تربية الأولاد بين الإفراط والتفريط

عناصر الخطبة

  1. نعمة الأولاد وانشغال الآباء عنهم
  2. الأولاد من الأمانة التي استرعاها الله عباده
  3. مراعاة الطفولة وأهمية التلطف بها
اقتباس

إن مصاعب الحياة ومطالبها شغلت الكثيرين عن أولادهم فأسلموهم للخادمات والمربيات فنتج عن ذلك أمور خطيرة؟! ألسنا نناقش الأطفال ونعاتبهم أحياناً وكأنهم كبار يدركون آثار ما يفعلون وهم لا يعون ذلك أبداً؟! وقد تكون ثمرة هذا النقاش والمحاسبة تكرر وقوع الخطأ منهم…

الخطبة الأولى:

الحمد لله القائل: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)﴾[الشورى:49-50].

وأشهد أن لا إله إلا الله أمر بالوقاية للنفس والأهل من النار، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله القائل في سنته: “كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ“(رواه البخاري)، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1].

عباد الله: الأولاد نعمة عظيمة ومنحة جليلة، هم زينة الحاضر وأمل المستقبل، هم حبات القلوب وفلذات الأكباد وقرة العيون، سماهم الله زينة، ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الكهف: 46].

يملئون البيوت بهجة وسروراً وينشرون السعادة ما داموا يتراكضون ويلعبون، سمتهم البراءة لا يحسبون للأشياء حسابها؛ ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل قمنا بما أوجب الله علينا تجاههم؟ هل أدينا الأمانة هل قمنا بواجب الرعاية؟

تعالوا معي -بارك الله فيكم- ننطر لواقع الحال.

ألسنا نهتم بمظاهرهم من الأكل والشرب والملبس ونَغْفل عما يبني عقولهم ويغذي أرواحهم؟! ألسنا نبخل عليهم بالوقت فلا يكاد الأبوان يجلسان مع الأولاد إلا قليلاً؟!

إن مصاعب الحياة ومطالبها شغلت الكثيرين عن أولادهم فأسلموهم للخادمات والمربيات فنتج عن ذلك أمور خطيرة؟! ألسنا نناقش الأطفال ونعاتبهم أحياناً وكأنهم كبار يدركون آثار ما يفعلون وهم لا يعون ذلك أبداً؟! وقد تكون ثمرة هذا النقاش والمحاسبة تكرر وقوع الخطأ منهم مرات عديدة.

أيها الآباء والأمهات: عوِّدوا أطفالكم الخير وعلموهم الفضيلة وربوهم على الخلق الحسن؛ يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: “حافظوا على أولادكم في الصلاة، وعلموهم الخير، فإنما الخير عادة“(رواه البيهقي في السنن).

ولعل من أول وأهم ما نعتني به تعليمهم كتاب الله وهم صغار ليكون أوَّل ما يسبق إلى قلوبهم وعقولهم قبل حلول الأهواء وحدوث المعاصي؛ فما داموا صغاراً فإنه ينقش في عقولهم ولا ينسونه مهما كانت المؤثرات، ولذا قيل العلم في الصغر كالنقش في الحجر.

وصدق الله العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم: 6]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في معناها، “اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فذلكم وقايتهم من النار“، وقال بن أبي طالب -رضي الله عنه- في معناها، “علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم“.

عباد الله إن من أعظم الأمانات التي استرعاكم الله عليها أمانة الأولاد قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[الأحزاب:72].

وهذه الأمانة عامة تشمل أمانة التوجيه والتعليم والأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم وصلاحهم، وقد وجه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أن نستقبل حياتهم بالذكر والدعاء وذلك حينما يأتي الرجل أهله قال صلى الله عليه وسلم: “لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِي أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا“(رواه مسلم).

بل إن الاستغفار سبب لحصول الولد لمن لا يولد له فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: “جاء رجل من الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:  يا رسول الله ما رزقت ولداً قط ولا ولد لي قال صلى الله عليه وسلم: “فأين أنت من كثرة الاستغفار وكثرة الصدقة ترزق بها فكان الرجل يكثر الصدقة ويكثر الاستغفار قال جابر فولد له تسعة ذكور ولعل ذلك مقتبس من قول الله –تعالى- حكاية عن نوح -عليه الصلاة والسلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ).

أيها المؤمنون: ربَّوا أولادكم على مراقبة الله والخوف منه واستشعار قربه واطلاعه عليهم لتتحقق المراقبة الذاتية، عندهم والفتوا نظرهم إلى عظمة الخالق وما أبدعه في هذا الكون الفسيح ـــ السماوات والأرض والجبال والبحار والشمس والقمر والنجوم ـــ ليسرحوا طرفهم فيه، يتفكرون ويتأملون فيزيدهم ذلك طاعة وقرباً من الله.

وعودوهم كذلك على الصلاة ونشئوهم على المحافظة، عليها فقد قال نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-: “مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ“. (رواه أحمد).

واغرسوا في نفوسهم حب الخير ومساعدة المحتاج واحترام الكبير وبر الوالدين وصلة الرحم لينشئوا على ذلك ويكون سجية عندهم؛ فإن التجارة الرابحة لكم هي صلاحهم واستقامتهم قال صلى الله عليه وسلم: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له“(رواه مسلم).

وصدق الله العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم: 6].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما سمعتم؛ فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام العابدين وقدوة المربين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة: 2].

عباد الله: روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: “لاعب ولدك سبعاً وأدبه سبعاً وصاحبه سبعاً“.

وهذه وثيقة تربوية عظيمة لو عقلها الآباء والمربون وأخذوا بها لتحقق خير كثير للأجيال الناشئة لأن في ذلك مراعاة لأعمارهم وحاجاتهم وهم ينتقلون من مرحلة عمرية إلى مرحلة وهذا ما كان يعتني به قدوتنا وإمامنا في تربيته لأصحابه؛ فقد جاء في صحيح البخاري باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو ما زحها وفيه أنَّ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَنَهْ سَنَهْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعْهَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبْلِي وَأَخْلِقي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ. يعني بقيت طويلاً. (رواه البخاري).

ومعنى أبلي وأخلقي يأمرها بأن تبلي القميص الأصفر وتخلقه وهذا دعاء بطول عمرها أي أنها تعيش طويلاً وتبلي ثيابها وتخلق من كثرة السنين وقد عاشت كذلك -رضي الله عنها-. قال ابن حجر (في فتح الباري ج10، ص425) “والذي يظهر لي أن ذكر المزح بعد التقبيل من العام بعد الخاص، وأن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس والتقبيل من جملة ذلك“.

وورد أن الحسين -رضي الله عنه- جاء والنبي -صلى الله عليه وسلم-: “يصلي بالناس فركب ظهره وهو ساجد فأطال السجود فلما قضيت الصلاة قال الصحابة أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته“.

أيها المؤمنون: احرصوا على التخلق بخلق رسول الله -صلى الله عليه- واجتهدوا في تربية الأولاد، واعلموا أن ذلك من بذل الأسباب وإلا فالصلاح والفساد بيد الله؛ لكن إذا بذلتم السبب فقد أديتم الأمانة الملقاة على عاتقكم.

واحذروا من الميل مع أحد الأولاد دون الآخر؛ إلا إذا كان ذلك لاستقامته أو كان لأعمال يؤديها للبيت لا يؤديها الآخر وتؤديها البنت ولا تؤديها الأخرى واحذروا أيضاً من تخويفهم من أشياء وهمية؛ لأن ذلك يزرع في نفوسهم الخوف وعدم الرجولة ولا ينطلقون في المجتمع كغيرهم.

وإياكم أن تجعلوهم يجلسون خلف الشاشات تصب في أدمغتهم عفن القول والعمل فيتخرجون منها وقد ساءت أخلاقهم وفسدت عقولهم ورضعوا القبيح من القول والفعل، وكم من أناس أحضروا هذه القنوات ولم يدركوا آثارها على أولادهم إلا بعد سنوات!.

اللهم أصلح أولادنا واجعلهم قرة عين لنا في الحياة وبعد الممات، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً اللهم اشرح صدورهم للحق ووفقهم للطاعة وأصرف عنهم أصدقاء السوء واجعلهم من الراشدين.

هذا وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.