الرؤى والأحلام (2)

عناصر الخطبة

  1. آداب تعبير الرؤى
  2. محاذير تتعلق بالتعبير
  3. اهتمام النبي الكريم بالرؤى
  4. ما حدّث به منها
  5. الرؤيا ليست مصدرا للتشريع
  6. رؤية النبي الكريم في المنام
اقتباس

واعلم -أخي المسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الرؤيا تقع على ما تعبر به، وَمَثَلُ ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينظر متى يضعها”، وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت”.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: تقدم في الجمعة قبل الماضية الحديث حول حقيقة الرؤيا، والفرق بين الرؤيا والحلم، وبعض الآداب التي ينبغي فعلها لمن رأى رؤيا.

وسمعتم أن من رأى رؤيا سيئة فالسنة في حقه أن يتعوذ بالله من شر ما رأى ثلاث مرات، ويتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، وأن يتفل عن يساره، وأن يتحول عن الجانب الذي هو عليه، وأن يسأل الله من خيرها، وأن يعتقد أنها لا تضره، وألا يخبر بها أحداً، كما عليه  أن يصلي عقبها.

ومن رأى رؤيا صالحة شرع له أن يعتقد أن تلك الرؤيا من الله، وأن يحمد الله عليها، ويطلب تفسيرها، ولا يحدث بها إلا من يحب.

أيها الإخوة: من الآداب التي يرغب بها المسلم أن صاحب الرؤيا إذا أراد أن تعبر أو تفسر، أن يتحرى من كان عالماً ناصحاً تقياً عالماً بكتاب الله، فيقصها عليه، ولا يقصها على جاهل أو سفيه أو حاسد كما هو حال بعض الناس تجده يقص رؤياه على كل من قابله، عرفه أو لم يعرفه، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قال عن الرؤيا: "لا يقصها إلا على وادٍّ أو ذي رأي" رواه أحمد، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً".

واسمع إلى يعقوب -عليه السلام- حين يقول لابنه يوسف: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [يوسف:5].

وتعبير الرؤى علم؛ فلا يتكلم فيه من لا يعرفه، والخوضُ في تأويلاتها بمجرد الظن خلاف الشرع.

واعلم -أخي المسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرؤيا تقع على ما تعبر به، وَمَثَلُ ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينظر متى يضعها"، وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت".

ويتعين على المعبر أن يتثبت فيما يقوله لصاحب الرؤيا، وأن يسمع الرؤيا كاملة، ويتمهل ولا يتعجل في تعبيرها، ولا يعبرها حتى يعرف لمن هي له. ويلزمه أن يكتم عورات الناس، وينبغي له أن يعبر الرؤيا المسؤول عنها على مقادير الناس ومراتبهم ومذاهبهم وأعرافهم وبلدانهم.

روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج يسافر للتجارة، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن زوجي غائب وتركني حاملاً، فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت، وأنى ولدت غلاماً أعور، فقال: "خير، يرجع زوجك إن شاء الله، وتلدين غلاماً براً".

فجاءت مرة أخرى ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- غائب فسألتها فأخبرتني برؤياها فقلت: "لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك، وتلدين غلاماً فاجراً"، فقعدت تبكي، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "مه يا عائشة! إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها"، فمات والله زوجها، ولا أراها ولدت إلا غلاماً فاجراً.

أيها المسلمون: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قصت عليه رؤيا يقول: "خيراً رأيت، وخيراً تلقاه، وشراً تتوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا، والحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك".

وكان ابن قتيبة يقول: "يجب على العابر التثبت فيما يرد إليه وترك التعسف، ولا يأنف أن يقول لما يشكل عليه: لا أعرفه".

وقد كان محمد بن سيرين إماماً في هذا الفن، ومع ذلك كان يمسك عن التعبير أكثر مما يفسر.

وليعلم المسلم أن تعبير الرؤيا أمرٌ ليس بالهين، فليتق الله من تصدى للناس يفسر لهم رؤاهم، فهو غير ملزم بالعمل إن لم يكن أهلاً له. سئل الإمام مالك -رحمه الله-: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ قال: "أبالنبوة يُلعب؟"، ثم قال: "الرؤيا جزء من النبوة فلا يلعب بالنبوة".

معاشر المسلمين: مما يحذر منه ما تمتلئ به المكتبات من معاجم لتفسير الأحلام، وتجد البعض يقتني مجموعة منها، وكلما رأى حلماً فتحها وعبر لنفسه، وهذا لا ينضبط ولا يستقيم، وإنما الذي يعبرها المعبر الحاذق الذي يدرك ويحيط بشروط التعبير.

ومن اشتهروا بالتعبير ذكروا أن التعبير يختلف باختلاف حال الرائي، وظروفه، وملابساته.

واسمع إلى هذا المثال ليتضح لك ما أعني: أتى رجلان إلى ابن سيرين، كل واحد منهما قال: إني رأيت في المنام أني أُؤذِّنُ، فقال لأحدهما: تحج إن شاء الله، وقال للآخر: تسرق وتقطع يدك. فقيل له كيف ذلك؟ فقال: رأيت على الأول علامات الصلاح، فأولت قوله -تعالى-: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾، ورأيت على الثاني علامات الخبث والفجور، فأولت قوله -تعالى-: ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾.

فالتعبير يحتاج إذاً، مع الفطنة والموهبة، إلى علم بالكتاب والسنة، وإلا جهل وتخبط.

ثم اعلم -أيها المسلم- أن ليس أحدٌ مجبرا على تفسير رؤياه، ولن يخرج عما كتب الله له، فلا يلقي باله للأضغاث ويشتغل بها ويُشغل الناس، ولو ترك السؤال عن الرؤيا فلا حرج عليه في ذلك.

أما هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد كان إذا صلى الفجر وأقبل على الناس بوجهه قال: "هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟"، وفي حديث ابن عباس: "مَن رأى منكم رؤيا فليقصها، أُعبرها له".

وقد نقلت لنا كتب السنة من الرؤى التي رآها الرسول -صلى الله عليه وسلم- الكثير، ومنها ما رواه ابن عمر قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "بينا أنا نائم أُتيت بقدحِ لبنٍ فشربت منه، حتى إني لأرى الرِّيَ يخرج من أطرافي، فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب"، فقال من حوله: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: "العلم".

وروى ابن عمر -أيضاً- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة (وهي الجحفة)، فأولت أن وباء المدينة نقل إليها".

ومما حدث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرؤى ما رواه ابن عباس عند البخاري أن رجلاً أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف (أي تقطر وتصب) السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء (والسبب: الحبل) فأراك أخذت به، فعلوت؛ ثم أخذ به رجلٌ فعلا، ثم أخذ به، آخر فانقطع، ثم وصل.

فقال أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي والله لتدعني فأعبرها! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عبرها"، فقال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف السمن والعسل فالقرآن؛ حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به آخر فينقطع له ثم يوصل فيعلو به. فأخبِرْني يا رسول الله، بأبي أنت وأمي: أصبت أم أخطأت؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً". قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت به. قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقسم".

اللهم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير، والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين، بشيراً للمتقين، ونذيراً للمجرمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: الرؤيا منزلتها في ديننا عظيمة، لكن لا تثبت بها الأحكام الشرعية، وشرعنا قد كمل في عهد النبوة.

والرؤى ليست مصدراً للتشريع كما يزعم بعض أصحاب الطرق المخالفة للسنة، ويدعون أنهم رأوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأمرهم ونهاهم، فيأخذون بذلك الأمر أو النهي ويتركون أحكام الشرع.

معاشر المسلمين: بين حين وآخر توزع نشرة منسوبة إلى من يسمي نفسه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، وتروج بين الجهلة والعوام، يزعم فيها أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، وأخبره بكثرة الفساد في الناس وأنه يموت من أمته كل جمعة مائة وستون ألفاً على غير الإسلام، وأخبره ببعض علامات الساعة، وقرب قيامها، وأمره أن يعلن الوصية للناس، ويعد بالجميل لمن يصدقها ويجتهد في نشرها، ويتهدد بالوعيد لمن يكذبها ويكتمها ولا يبلغها الناس.

وقد عرض ذلك على اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لتعرض وتبين موقف الشرع من مثل هذه الدعاوى. فأجابت عليه مشكورة، وإليكم نص الفتوى:…

أيها الإخوة: من رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بصورته المعروفة الواردة في كتب السنة فإنه قد رآه حقاً للحديث السابق، وقد ورد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها أنه ليس بالطويل البائن ولا بالقصير البائن، وليس بالأبيض الشديد البياض، بل كان أبيض مشوباً بحمرة، وكان أسود الحدقة، أهدب الأشفار، وكان وجهه كالقمر من النور والبهاء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعم الله عليهم…

فمن رآه إذاً على صورة تخالف تلك الأوصاف؛ كأن يرى رجلاً طويلاً جداً، أو قصيراً جداً، أو يرى رجلاً حليقاً، أو لابساً بنطلوناً، أو عقالاً وغترة أو شماغاً، ونحو ذلك مما لم يرد في وصفه، فليس ذاك بشخص الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإنما تمثيل من الشيطان، حتى لو قيل له في المنام، أو ظهر على أنه النبي -صلى الله عليه وسلم-…