الرؤى والأحلام (1)

عناصر الخطبة

  1. لا يعلم الغيب إلا الله
  2. حرمة الاطلاع على ما ينشره العرافون والمنجمون
  3. أهمية الرؤيا
  4. أقسام الرائين
  5. الفرق بين الرؤى والأحلام
  6. آداب وأحكام الرؤى والأحلام
  7. تواطؤ رؤيا الصالحين
  8. أسباب تعين على صلاح الرؤى
اقتباس

ولكون الرؤيا من الغيب، لكنه غيب يُطلع ربنا من شاء من عباده عليه، ولأنها جزء من النبوة، سنتناول بعضاً من أحكامها وآدابها في هذه الجمعة، ونرجئ الآخر إلى الجمعة القادمة إن شاء الله -تعالى-.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتعلموا من أحكام دينكم ما تتعبدون به ربكم على بصيرة.

معاشر المسلمين: من طبيعة النفس البشرية أنها تتوق إلى معرفة مستقبلها وما أخفي عنها، وذلك غيب، والغيب أمره إلى الله جل في علاه، حجبه عن خلقه، ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل:65]، ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام:59].

ومع أن أمر الغيب مطوي عن الخلق، إلا أن بعض أصحاب النفوس المريضة لم يقف عند حده، بل ذهب يدعي لنفسه القدرة على معرفة الغيب، فزين لهم الشيطان أعمالهم فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.

وفي عصرنا هذا، عصر الانفتاح، عهد الاتصالات، أصبحنا -للأسف- نستورد كل لقيط من القول وساقط من الفكر، كم ينقل هؤلاء الهابطون عبر القنوات الفضائية والجرائد والمجلات، كم ينقلون إلى بلاد المسلمين من ألوان الشرور عن طريق من يُسمون بالعرافين والمنجمين، وقراء الكف والفنجان، واللاعبين بالودع والصدف! وقل مثل ذلك في أبراج الحظ التي لا يكاد تخلو منها مجلة.

عباد الله: إن الاطلاع على ما ينشر مما سمعتم، مجرد الاطلاع حرام لا يجوز، يدل على ذلكم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً".

تأمل أيها المسلم؛ مجرد الإتيان والسؤال فقط يوقع صاحبه بردِّ صلاته أربعين يوماً، أما إذا صدقه فالأمر أعظم، واسمع في هذا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد".

إن العاقل ليعجب أشد العجب: كيف يذهب من ينتسب إلى الإسلام إلى من يخبره بالغيب وهو يعلم أن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه دون أحدٍ سواه؟ يذهب ذلك الجاهل فيتابع بشغف ونهم ما يسمى بأبراج الحظ، فيبحث عما يوافق ميلاده مثلاً، فيقرأ برغبة ورهبة، فيفرح أو يحزن على ضوء أو على ظلام ما كتبه أولئك الدجالون.

فاحذر -أخي المسلم- هذا الدجل أن ينطلي عليك، ولا تدع الكمال وقوة الإيمان؛ فتقول: سأقرأ ما يكتبون لمجرد الاطلاع؛ لأنه يخشى عليك حينئذ أن تدخل في الوعيد الوارد بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- السابق ذِكره.

أيها المسلمون: ومقابل ذلكم فثمة أمرٌ طيب كم نفع الله به الصالحين، هو جزء من النبوة؛ إنه الرؤيا تلك التي قال فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا، يراها العبد الصالح أو ترى له" رواه مسلم، ويقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث أنس: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" رواه البخاري.

ولكون الرؤيا من الغيب، لكنه غيب يُطلع ربنا من شاء من عباده عليه، ولأنها جزء من النبوة، سنتناول بعضاً من أحكامها وآدابها في هذه الجمعة، ونرجئ الآخر إلى الجمعة القادمة إن شاء الله -تعالى-.

إن للرؤيا مكانةً عظيمة رفيعة قبل الإسلام، وبعده؛ فبالرؤيا خرج نبي الله يوسف -عليه السلام- من السجن، وبتعبيرها تبوأ مكانة عالية، وبالرؤيا وقع ما قص علينا المولى -جل شأنه- في خبر الخليل في ذبح ابنه إسماعيل: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى في المنامِ أَنِّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ ماذَا ترى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إنْ شَاءَ اللهُ مِن الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات:102].

ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قال عنه ربه: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح:27]، قال ابن كثير حول هذه الآية: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أُري في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت، فأخبر الصحابة بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- ستفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجوع الرسول ومن معه عامهم ذلك دون أن يدخلوا مكة، على أن يعودوا من قابل، وقع في نفس بعض الصحابة شيء، حتى سأل عمر -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك فقال فيما قال من سؤاله: أفلم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟"، قال عمر: لا. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإنك آتيه ومطوف به".

عباد الله: الناس يتفاوتون في الرؤيا على أقسام عدها بعض أهل العلم خمسة أقسام: الأول: الأنبياء، ورؤياهم كلها صدق، وفي الحديث: "إن رؤيا الأنبياء حق"، وفي رواية: "إن رؤيا الأنبياء وحي". الثاني: الصالحون، وهؤلاء الأغلب في رؤياهم الصدق. الثالث: المستورون من المسلمين، ويستوي في رؤياهم الصدق والأضغاث. الرابع: الفساق، ويقل في رؤياهم الصدق. الخامس: الكفار، ويندر في رؤياهم الصدق، وغالب ما يرون من الشيطان.

ولكن -عباد الله- هل كل ما يرى الإنسان من منامه رؤيا؟ هناك فرقٌ بين الرؤيا والحلم، فالنائم يرى الرؤيا في منامه كما أنه يرى ما يسمى بالأحلام والأضغاث، فأما الرؤيا فهي ما يراه من الخير والشيء الحسن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان".

من علامات الحلم الذي هو من الشيطان: أن يرى النائم مناظر متناقضة متداخلة لا يعرف أولها من آخرها، ومن علاماته أن يكون الإنسان مريضاً فيرى في منامه ما يوافق مرضه فإذا كان مصاباً بالبرد مثلاً رأى في منامه ودياناً وثلوجاً وبحاراً، وإذا أصيب بالحمى رأى شمساً ونيراناً وجمراً، وهكذا.

ومن علامات الحلم -أيضاً- أن يرى ما لا يمكن أن يكون، كالأشياء المحالة؛ فيرى مثلاً أن رأسه انقطع وهو يلعب به، وقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر له شيئاً من ذلك فقال له النبي: "ما تريد أن أفعل بلعب الشيطان بك؟".

ومن علامات الحلم أن يرى في المنام ما حدثته به نفسه في اليقظة، وما كان يفكر به. ومثل هذه الأحلام لا ينبغي للمسلم أن يشتغل بها أو يشغل غيره بها.

أما الرؤيا الصادقة فمن علاماتها انتفاء جميع ما تقدم من علامات الأحلام، ومن علاماتها -أيضاً- أن يكون الرائي معروفاً بالصدق في كلامه، وفي هذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً" رواه مسلم. وهذا في الغالب وليس دائماً، فقد يري غير الصادق رؤيا صادقة يكون فيها إيقاظاً لغفلته فينتفع بها.

ومن علامات الرؤيا الصادقة: أن يعرف أولها وآخرها، وتكون مترابطة لا تقطع فيها. ومن علاماتها: أن تكون ذات معانٍ مرتبة، ويكون فيها خير؛ كتبشير بالثواب على الطاعة، أو تحذيرٍ من العقوبة على المعصية. ورؤيا الليل أصدق من رؤيا النهار، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أصدق الرؤيا بالأسحار" رواه أحمد.

أيها المؤمنون بالله ورسوله: ولأهمية شأن الرؤيا فقد جاء الشرع المطهر بآداب تضبطها، وتستثمر نفعها، وتُوقِّي ضررها.

فيشرع لمن رأى ما يكره في منامه أن يقول ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأى أحدكم ما يكره -يعني في النوم- فليتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، وليتفل عن يساره ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً؛ فإنها لا تضره" أخرجه الشيخان. وفي حديث جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه" رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة: "إذا رأى أحدكم الرؤيا تسوؤه فلا يذكرها ولا يفسرها"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليصل، ولا يحدث بها الناس" رواه مسلم.

فتحصل لنا من هذه الأحاديث تسعة آداب نبوية تتعلق بالرؤيا التي يراها مزعجةً له: أن يتعوذ بالله من شر ما رأى ثلاث مرات، أن يتعوذ بالله من شر الشيطان ثلاث مرات، أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، أن يتحول عن جنبه الذي كاد عليه إلى الجنب الآخر، أن يسأل الله من خيرها، أن يعتقد أنها لا تضره، أن يصلي عقبها، أن لا يحدث بها أحداً، أن لا يطلب تفسيرها.

أما إذا رأى رؤيا صالحة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بشأنها: "إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها" رواه البخاري، وعند مسلم بزيادة: "ولا يخبر بها إلا من يحب".

فتحصل لنا من هذه الأحاديث في الرؤيا الصالحة آداب أربعة: أن يعتقد أنها من الله، وأن يحمد الله عليها، وأن يطلب تفسيرها، أن لا يحدث بها إلا من يحب.

معاشر الإخوة الفضلاء: يحرم الكذب في الرؤيا، وقد ورد تحذير شديد على لسان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من الكذب فيها أو الزيادة أو النقص المتعمد؛ روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين –أي: حبتي شعير- ولن يفعل"، وفي رواية أخرى: "من تحلم كاذباً دفع إليه شعيرة وعذب حتى يعقد بين طرفيها، وليس بعاقد". وروى البخاري أيضاً: "مِن أفرى الفرى أن يُرِيَ الرجلُ عينيه ما لم تريا".

قال الطبري: إنما اشتد الوعيد فيه مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه، لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يُره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين. اهـ.

وأخيراً -عباد الله- فإنه إذا تواطأت رؤيا عددٍ من الناس الصالحين على أمر معين، فإن ذلك غالباً ما يكون صدقاً مطابقاً، شريطة أن لا يخالف ما نص عليه الشرع. وقد عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- برؤيا الصحابة حين تواطأت رؤاهم في ليلة القدر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" وفي هذا الحديث أيضاً دلالة على عظيم قدر الرؤيا في ديننا.

اللهم…

الخطبة الثانية:

﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام:1].

والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وخير الخلق أجمعين، الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه كافة والتابعين.

أما بعد: أيها المسلمون: فاتقوا الله، واعلموا أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

يا سعادة من بحث عن الحق والهدى وسار على سنة المصطفى ومات عليها! جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.

معاشر الإخوة: جاء شرعنا المطهر بآداب تكون سبباً في صلاح الرؤيا، ووسيلة لدفع الشيطان. من ذلكم: أن يحرص المسلم أن لا ينام إلا على طهارة، وأن ينام على جنبه الأيمن، وأن يقرأ الأوراد المشروعة عند النوم من نصوص الكتاب والسنة فمن نام على هذه الحال وُقي كل شر بإذن الله.

وإن مما يتعين أن يعلم أن يحذر صاحب الرؤيا من الاغترار بها أو دخول العجب إلى نفسه؛ فإن ذلك مما يفرح الشيطان، ويتصيد به ضعاف القلوب، قال الإمام أحمد: "الرؤيا تسر المؤمن ولا تغرّه"، وقال الذهبي عن الرؤيا بأنها جند من جند الله تسر المؤمن، ولا سيما إذا تواترت.

هذه -أيها المسلمون- بعض أحكام وآداب الرؤى، وبقي تعبيرها وآدابُ ذلك، ونماذجُ من رؤى النبي -صلى الله عليه وسلم-، يكون الحديث عنها لا حقاً -إن شاء الله تعالى- في الجمعة القادمة…

اللهم…