التوكل

عناصر الخطبة

  1. أهمية التوكل ومنزلته
  2. التوكل الشرعي الصحيح
  3. التوكل عمل قلبي
  4. نماذج رائعة في التوكل
  5. الفرق بين توكل القلب وتوكل الجوارح
  6. هل الرقية تنافي التوكل؟
  7. التوكل والثقة بالله
اقتباس

إن إيمان العبد بالله -تعالى- ربا، خالقا مقدرا مصرفا، ويقينه التام بهذه الصفات لله -تعالى- يجب أن يكون له ثمرة، يجب أن يكون له مدلول، ومدلوله هو ما دام العبد يؤمن إيمانا عميقا لا يعتريه شك بأن شيئا في هذا الكون لا يتخلق ولا يتحقق، ولا يبدأ ولا ينتهي إلا بإذن الله، فلابد إذاً أن يعتمد قلبه على الله وحده في طلب المصالح، ودفع المضار والمفاسد. وهو ما يسمى بـ…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن إيمان العبد بالله -تعالى- ربا، خالقا مقدرا مصرفا، ويقينه التام بهذه الصفات لله -تعالى- يجب أن يكون له ثمرة، يجب أن يكون له مدلول، ومدلوله هو ما دام العبد يؤمن إيمانا عميقا لا يعتريه شك بأن شيئا في هذا الكون لا يتخلق ولا يتحقق، ولا يبدأ ولا ينتهي إلا بإذن الله، فلابد إذاً أن يعتمد قلبه على الله وحده في طلب المصالح، ودفع المضار والمفاسد.

وهو ما يسمى بالتوكل، والتوكل الصحيح يجب أن يقترن به حسن الظن بالله، فالعبد عندما يطرح قلبه بين يدي ربه -تعالى-، ويفوض أمره إليه، فإنه يفعل ذلك نتيجة حسن ظنه بالله، ويقينه بحسن اختياره له، أما إذا كان لا يحسن الظن بربه، فكيف يفوض أمره إليه؟!

هذا هو أثر إيمان العبد الموحد لربه بتلك الصفات، وهو الإله الخالق المصرف المقدر لهذا الكون بما فيه: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد: 2].

﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31].

﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ [فصلت: 47].

﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [فاطر: 11].

هذا هو الله الإله الخالق البارئ -سبحانه-، فالتوكل عليه هو صدق اعتماد القلب عليه في طلب المصالح ودفع المفاسد.

التوكل إذاً عمل قلبي، قناعة إيمانية، معتقد ثابت، والمعتقد لا يكون فاعلا صادقا إلا إذا بنى عليه العبد مواقفه.

فما ما جدوى اعتقاد لا أثر له على سلوك صاحبه، ما جدواه إذاً؟

مثال ذلك التوكل على الله في الرزق مثلا، العبد الذي يعتقد أن الرزق مقدر في السماء: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22].

إذا قرأ هذه الآية، واستقرت معانيها في قلبه، بداهة يتوكل على الله في طلب الرزق، فيثق في ربه، ويراعي أمره ونهيه، ويحترم حدوده، ويتقي الله في كل مكان، وفي السوق بشكل خاص.

يراقبه حين يتعامل مع الناس في البيع والشراء، ويحذر إغواء الشيطان، فلا يقصد الحرام استبطاء للرزق، فيرشي ويختلس ويبرر لنفسه: الناس كلهم يفعلون هذا! والسوق قائم على هذا!، وغيرها من المبررات.

ويحتال ويبرر لنفسه، ويغمض عينيه عن الباطل والمشبوه، ويظل في هذا الطريق يجمع المال بهذه الوسائل، حتى يتبلد ضميره، ويطمس على بصيرته، ويختم على قلبه، فلا يشعر بعظم الذنب، بل يستأنس به -نسأل الله العافية-؛ لأن في نظره: أن الاختلاس والاحتيال هو الذي يجلب له المال، وهو يريد رزقا عاجلا، هكذا يبتلي الله العباد.

صح في ابن ماجة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس: اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم".

وعند الحاكم ما نصه: "ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد أمرتكم به، وما عمل يقرب من النار إلا نهيتكم عنه، فلا يستبطئن أحد منكم رزقه، فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله من بمعصيته".

فالرزق -أيها الإخوة – رزقان: رزق حلال مبارك، فيه الخير والسعادة والنماء، ولو كان قليلا، ورزق ممحوق لا بركة فيه، يحمل معه السوء والبلاء، والتعاسة والشقاء في الدنيا وفي الآخرة، وكل رزق منهما مقدر من عند الله، فالرزق بالنسبة لله كله خير، إلا أن المحق والسوء في أي رزق هو بالنسبة للعبد لا لله -تعالى-.

فالرزق أصله خير، ولكن العبد هو الذي يختار أن يكتسبه بطريق الحرام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وأما الرزق الذي ضمنه الله لعباده، فهو قد ضمن لمن يتقيه أن يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأما من ليس من المتقين، فضمن له ما يناسبه، بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا، ثم يعاقبه في الآخرة؛ كما قال عن الخليل‏:‏ ‏﴿‏وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏﴾ قال الله -تعالى-:‏ ‏﴿‏وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ أي أمتعه في الدنيا قليلا أيضا بالمال وغيره: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 126].

فالمال قد يزداد بالحرام نعم، بل يزداد كثيرا وكثيرا، لكنه كالورم إذا ازداد حجما لا من صحة، بل من مرض، هذا هو المال الحرام -نسأل الله السلامة-.

وقد صح في البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله".

وفي ابن حبان قال صلى الله عليه وسلم: "يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت النار أولى" فالسحت هو: الحرام الخبيث من المكاسب.

فالتوكل يبنى على اليقين لما تقدم ذكره، والتوكل إذا صح في القلب فعلا اجتنب العبد الحرام ثقة في الله، وخوفا من سخطه وعقابه.

مثال آخر: التوكل على الله في الشفاء من المرض؛ قال الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)﴾ [الشعراء: 78-80].

في صحيح مسلم من حديث جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله".

فلا برئ لمرض إلا بإذن الله؛ لأن المرض من قدر الله، والدواء من قدر الله، والشفاء من قدر الله، فهل يكون التوكل في الشفاء إذاً إلا على الله، إلا على الله وحده؟!

والذي ينبغي أن نتنبه إليه جيدا حين الحديث عن التوكل: الفرق بين توكل القلب، وتوكل الجوارح، فتوكل الجوارح هو: الأخذ بالأسباب الطبيعية، أو المادية، لجلب الخير أو دفع الشر، أما توكل القلب، كما ذكرنا آنفا فهو: اعتماد القلب على الله وحده دون غيره من الأسباب في جلب الخير أو دفع الشر.

فالقلب الذي هو محل التوكل يجب ان ينقطع عن السبب، فيتعلق بالله وحده، أما الجوارح التي تمثل العمل الظاهر، فتوكلها على السبب.

ولاشك أن الأخذ بالأسباب أنه هو توكل الجوارح من مجموع التوكل؛ لأن الله -تعالى- خلق المسببات في هذا الكون تبعا للأسباب، وأمرنا باتخاذ الأسباب كي نحصل على المسببات: ﴿فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾[البقرة: 60].

قال القرطبي -رحمه الله-: "وقد كان تعالى قادراً على تفجير الماء، وفلق الحجر من غير ضرب، لكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب، حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد، وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد".

وقال تعالى لمريم: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25].

ألم تر أن الله أوحى لمريم *** وهزّى إليك الجذع يسّاقط الرّطب

ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه *** إليها ولكن كل شيء له سبب

قال الحافظ بن حجر: "والحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أو يدعها؟ قال: "أعقلها وتوكل" فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل" أي أن عقل الناقص لا ينافي التوكل"، والله أعلم.

فالمريض المؤمن إذا أخذ الدواء لم يعتقد أن الدواء منقطعا بذاته ينفع في علاج المرض بمعزل عن تقدير الإله، لا، بل اعتقاده أن خاصية رفع المرض الذي يمتاز بها ذاك الدواء؛ إنما هو سبب قدره الله في ذلك الدواء، وساق الإنسان إلى معرفته وإلى تسميعه، وأنه تعالى هو الذي أذن بذلك، ولو شاء ما نفع الدواء في رفع المرض أبدا، هذا هو اعتقاد المؤمن.

أما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب" ثم قال واصفا إياهم: "هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن فقال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم " فقام آخر: أمنهم أنا؟ قال: "سبقك عكاشة" [رواه البخاري].

فإن هذا الحديث قد يشكل على البعض كون النبي -صلى الله عليه وسلم- يستثني من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أولئك الذين يسترقون ويكتوون، فكيف يجاب على هذا الإشكال؟

أسأل الله أن يوفق إلى ذلك.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهل تنافي الرقية التوكل، وبالتالي لا يدخل فاعلها ضمن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب؟

هناك ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء في هذه المسألة، أرجح هذه الأقوال قول أولئك الذين فرقوا بين أن يرقي الإنسان نفسه بنفسه، وهذا هو المحمود، أو يطلب الرقى من غيره، وهذا هو الأدنى.

نحن لا نتكلم عن الدواء العصري والحديث، بل نتكلم عن الرقية، القراءة، أن يقرأ عليك.

أو يطلب الرقى من غيره وهذا هو الأدنى، وهذا هو الأدنى الذي يقصد من الحديث، ولربما دخل القلب اعتقاد ما في الراقي، وهو مبعث خطر أن يعتقد الإنسان في طبيبه اعتقادا أن العلاج لا يكون إلا بيد هذا الإنسان، ولكن ليس في مجرد الذهاب إلى الراقي حرمة، أو كراهة، وإنما هو منافٍ تمام التوكل على الله، وهي الميزة الذي اختص بها السبعون ألفا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وكذلك يقال في الكي، أي أنه جائز ولكن تركه أولى وأكمل في مقام التوكل، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ورأي الشيخ ابن عثيمين -رحمهم الله جميعا-.

وعلى كل حال فالتداوي من الأسباب التي أمر الله باتخاذها من غير اعتماد عليها، بل يكون اعتماد القلب على الله وحده، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتداوي.

أيها الإخوة: إن مقام التوكل مقام عظيم، فهو مقام الأنبياء والصالحين، وهو من الأوامر المؤكدة في الإسلام مع كثرة ورودها في القرآن، فقد أمر الله نبيه بالتوكل في أكثر من آية: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب: 3].

﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)﴾ [الشعراء: 217-219].

﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61].

﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ [النساء: 81].

﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: 58].

﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: 123].

﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل: 79].

﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].

وفي ظل الأحوال والأهوال التي تواجهها الأمة اليوم تتأكد مقام التوكل في حياة كل فرد من أفرادها، فقد آن الأوان أن نعرف صفات الرب تمام المعرفة، فنوقن يقينا تاما بقدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه وصدوره عن مشيئته وحده لا شريك له، فنفوض أمورنا إليه، ونستخيره في أمورنا، نستخير الله -تعالى-.

وآن لنا أن نفهم أن التوكل لا يستقيم إلا بإثبات الأسباب، ورعاية الأسباب، لتحقيق سنة الله، ولكن دون الركون إلى تلك الأسباب، ولا اعتماد القلب عليها، ولذلك لما قال رجل يوم حنين: "لن نغلب اليوم من قلة" شق ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت الهزيمة بادئ الأمر، وأنزل الله -تعالى- مؤكدا: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ [التوبة: 25].

ولذلك قال تعالى معيدا للتوكل موقعه الصحيح في قلب المؤمن: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].

لقد آن الأوان أن نحسن الظن بالله -تعالى-، وأن نوقن أنه لا يضيع عباده المتقين، إذا هم حفظوا حدوده، وصانوا حرماته، وعظموا أمره ونهيه، فلا خوف عليهم -إن شاء الله-.

وما هو إلا توكل على الله وحده، وإعداد وبذل لكل سبب ترتقي به الأمة، والدعاء المصاحب، ثم انتظر -يا عبد الله- فرجا.

فإن يك صدر هذا اليوم ولَّى *** فإن غدا لناظره قريبُ

أسأل الله -تعالى- أن يلحقنا بمقام المتوكلين.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها…