الصبر عن المعاصي

عناصر الخطبة

  1. فضائل الصبر ومنزلته
  2. معنى الصبر وحقيقته
  3. أقسام الصبر وأنواعه
  4. أفضل أنواع الصبر
  5. فضل الصبر عن المعاصي
  6. الوسائل المعينة على الصبر عن المعاصي
  7. الحذر من عقوبات المعاصي.
اقتباس

ومن أسباب الصبر عن المعاصي: محبة الله، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع, وفَرْق بين من يحمله على ترك المعصية خوفه من سوط سيده وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده، ومنها خوف الله وخشية عقابه الذي توعد به من عصاه, وإذا امتلأ قلب المؤمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه منعه ذلك من معصيته..

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي لم يزل بصفات الكمال متصفاً، جوادٌ كريم إذا وعد أنجز ووفى، تواب حليم إذا عُصي تجاوز وعفا، أحمده -سبحانه- وأشكره على ما بسط من آلائه وأوفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسبي وكفى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أزكى البرية أصلاً، وأعلى الأنام شرفاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الحنفاء السادة الخلفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله- فإن تقوى الله عروة ما لها انفصام، من استمسك بها حمته -بإذن الله- من محذور العاقبة، ومن اعتصم بها وَقَتْهُ من كل نائبة، فعليكم بتقوى الله فالزموها.

أيها الإخوة: الصبر مقام عظيم من مقامات هذا الدين، وخُلق كريم من أخلاق عباد الله الصالحين، قال الله -تعالى-: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾ [العصر: 1 – 3]،  فجعل الله -سبحانه- الخلق كلهم في خسارة إلا من آمن وثبت على الحق ووصى غيره به، وصبر على ذلك.

وقد أمر الله -عزَّ وجلَّ- بالصبر وعلق الفلاح به, فقال -سبحانه-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].

وبيّن ربنا -جل وعلا- أن المغفرة والأجر الكبير إنما تحصل بالصبر والعمل الصالح, فأخبر -سبحانه- أن كل أحد خاسر ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود: 11]، وجعل -سبحانه- الصبر سبب محبته ومعيته، ونصره وعونه، وحسن جزائه، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، فقال -سبحانه-: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146]، وقال -سبحانه-: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].

وأخبر ربنا -سبحانه- أن الإمامة في الدين تنال بالصبر واليقين, قال -سبحانه-: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، وبين -سبحانه- مضاعفة أجر الصابر على غيره بقوله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، ووعد الله الصابرين بثلاث خصال, كل واحدة خير من الدنيا وما فيها, فقال -سبحانه-: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)﴾ [البقرة: 155 – 157].

وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على التمسك بالصبر وبين فضائله، فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه” (البخاري ومسلم).

وبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، ومدار سعادة الدنيا والآخرة عليهما، فعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ” ﴿مسلم﴾, فلله على كل عبد عبودية في حال العافية، وعبودية في حال البلاء، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة البلاء بالصبر.

وإذا كانت ساحة العافية أوسع للصبر من ساحة البلاء، فإنه بعد نزول البلاء ليس للعبد أوسع من الصبر، وأما قبله فالعافية أوسع له كما جاء من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ وَمَا أعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ” (البخاري ومسلم).

عباد الله: ومما قيل في معنى الصبر: أنه حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن ما لا يحمد, وحقيقة الصبر أنه خُلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به الإنسان من فعل ما لا يحسن فعله، والوقوف مع البلاء بحسن الأدب، والثبات على أحكام وضوابط الكتاب والسنة، وحدُّه: أن لا يعترض على التقدير، فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر.

عباد الله: الصبر له ثلاثة أركان: صبر على طاعة الله, وصبر عن معصية الله, وصبر على أقدار الله المؤلمة. وينبغي أن يُعلم أن كل صبر في محله وموضعه أفضل؛ فالصبر عن الحرام في موضعه أفضل, والصبر على الطاعة في محلها أفضل, والطاعات ترفع الدرجات, والمصائب تحط السيئات.

وأكمل أنواع الصبر: الصبر المتعلق بالتكليف، وهو الأمر والنهي، فهو أفضل من الصبر على مجرد الأقدار؛ فإن هذا الصبر يأتي به البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فلا بدَّ لكل أحد من الصبر على القدر اختياراً أو اضطراراً، وأما الصبر على الأوامر والنواهي فصبر الرسل وأتباعهم، وأعظمهم اتباعاً أصبرهم في ذلك.

أيها الإخوة: وصبر العبد عن المعاصي ينشأ من أسباب عديدة؛ منها: الحياء من الله -سبحانه- عند المعصية، فهو يراه ويسمعه، فكيف يتعرض لمساخطه؟ ومنها: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، وهذا كافٍ في تركها، ولو لم يعلِّق عليها وعيد العذاب.

ومنها: مراعاة العاقل نعم الله عليه، وإحسانه إليه؛ فالذنوب تزيل النعم ولا بدّ، والمعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب، وما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من نعم الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب ورجع رجعت إليه أو مثلها أو أكثر منها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة بعد نعمة، حتى تسلبه النعم كلها، وأعظم النعم الإيمان والطاعات.

أيها الإخوة: ومن أسباب الصبر عن المعاصي محبة الله، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع, وفَرْق بين من يحمله على ترك المعصية خوفه من سوط سيده وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده، ومنها خوف الله وخشية عقابه الذي توعد به من عصاه, كما قال -سبحانه-: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 14]. وإذا امتلأ قلب المؤمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه منعه ذلك من معصيته حياء وطاعة لربه، وما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه.

ومنها شرف النفس وفضلها وأنفتها أن تختار ما يحطها ويضع من قدرها، ويسوي بينها وبين السفلة. ومنها قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضرر الناشئ منها من سواد الوجه، وظلمة القلب، وشدة قلقه واضطرابه، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريته من زينته، وتخلي وليه وناصره عنه، وتولي عدوه المبين له.

ومنها أن العبد بسبب المعصية يصير أسيراً بيد أعدائه، بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه. ومنها: زوال أمنه، وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة. ومنها: زوال الأنس، فكلما ازداد العبد إساءة ازداد وحشة. ومنها: زوال الطمأنينة بالله، والسكون إليه، وزوال الرضا، واستبداله بالسخط.

ومنها: وقوع العاصي في بئر الحسرات، فلا يزال في حسرة دائمة، كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها أو غيرها إن قضى وطره منها, وكلما اشتد نزوعه, وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه.

ومنها: فقره بعد غناه، فإنه كان غنياً بما معه من رأس مال الإيمان، وهو يَتَّجِرُ به ويربح الأرباح الكثيرة من الأعمال الصالحة. ومنها: نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه. ومنها: زوال المهابة التي لبسها بالطاعة. ومنها: حصول النفرة منه، والبغض له في قلوب الناس، فكما جعل الله المودة لكل مؤمن، وكل مطيع فكذلك جعل الكراهية لكل كافر وكل عاصٍ.

ومنها: ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض منه. ومنها: الطبع والرَّين على قلبه. ومنها: أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان، والرغبة في الآخرة. ومنها: إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه، فأعرضت عنه ملائكته وعباده.

ومنها: علمه بفوات ما هو أحب إليه منها. ومنها: علمه بأن أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعة الله أوصله ذلك إلى دار أهل طاعته وولايته. ومنها: علمه أن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه.

ومنها: علمه أن أعمال البر والطاعات تنهض بالعبد وتقوم به، وتصعد إلى الله به، وأعمال الفجور تهوي به، وتجذبه إلى الهاوية، وتجره إلى أسفل سافلين, قال -سبحانه-: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ [فاطر: 10]، وقال -سبحانه-: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 40]، فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم، بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند الموت، بل أغلقت عنها, وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله، فتحت كذلك لأرواحهم حتى وصلت إلى ربها وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليين.

عباد الله: ومن أسباب الصبر عن المعصية: علم العبد أنه متى عصى الله فقد خرج من حصنه الذي لا ضيعة على من دخله، فإذا خرج بمعصيته منه صار نهباً للصوص وقطاع الطريق. ومنها: علم العبد بقصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال تحت ظل شجرة ثم سار وتركها.

ومنها: ثبات شجرة الإيمان في القلب، وهو أعظمها، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فإن من باشر قلبه الإيمان بالله، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب، والجنة والنار، حجزه ذلك عن المعاصي، ومنعه من أن لا يعمل بموجب هذا العلم.

ومن ظن أنه يقوى على ترك المعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإن سراج الإيمان إذا قوي في القلب، وأضاءت جهاته كلها به، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة، غير متثاقلة ولا كارهة, بل تفرح بدعوته حين يدعوها كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته, ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [البقرة: 105].

وبالجملة فآثار المعاصي أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط العبد بها علماً، فخير الدنيا والآخرة كله بحذافيره في طاعة الله ورسوله، وشر الدنيا والآخرة كله بحذافيره في معصية الله ورسوله.

عباد الله: والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة تلك الأسباب، ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة، والآثار الجميلة, ومن أقوى أسبابها الإيمان ومحبة الله، فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.

ولكن أيهما أفضل: صبر العبد على الطاعة أوصبره عن المعصية؟.

ذلك يختلف باختلاف الطاعة والمعصية؛ فالصبر على الطاعة المعظمة الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة, فصبر العبد على الجهاد مثلاً أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الصبح، وصوم يوم تطوعاً ونحوه, فالطاعات يفعلها البَرُّ والفاجر، ولكن المعاصي لا يصبر عنها إلا صدِّيق.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، والصلاة والسلام على نبينا محمد، إمام المتقين وقائد الغُرّ الميامين, صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة: والنفس لها قوتان: قوة الإقدام, وقوة الإحجام, فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفع العبد، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره, ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينفعه أقوى من صبره عن ما يضره، ومنهم من تكون قوة صبره عن المعاصي أقوى من صبره على مشقة الطاعات، ومنهم من لا يصبر على هذا, ولا على هذا.

وأفضل الناس أصبرهم على النوعين مع الصبر على أقدار الله فهؤلاء هم الصابرون حقاً، ويأخذون أجرهم بغير حساب, كما قال -سبحانه-: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

إن إكرام الضيف من الناس والإحسان إلى الجار من لوازم الإيمان وموجباته، فما الظن بإكرام أكرم الأضياف وخير الجيران وأبرهم وهم الملائكة, فإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصي والظلم والفواحش فقد أساء جواره، وبالغ في أذاه وطرده عنه، فهل يليق بالمسلم أن يؤذي جاره فضلاً عن أنصح الخلق له من الملائكة قال -سبحانه-: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)﴾ [الانفطار: 10-12], وأكثر الناس لؤما من لا يستحي من الكريم العظيم القادر ولا يكرمه ولا يوقره؟ ألا يستحي العصاة من هؤلاء الملائكة الحافظين الكرام، ويكرمونهم ويجلونهم أن يروا منهم ما يستحون أن يراهم عليه من هو مثلهم؟.

والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يَفْجُر ويعصي بين يديه، وإن كان قد يعمل مثل عمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ وهل يليق بالعاقل فضلاً عن المسلم أن يسكن في أرض الله، ويأكل من رزق الله، ثم يبارز من خلقه وأسكنه ورزقه بالمعاصي؟ ﴿وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34].

ومن لم يصبر عن المعاصي في الدنيا، فقارفها بلا حياء ولا خوف، فليوطن نفسه على تحمل عقوبتها في الآخرة؛ حيث لا ينفع الصبر قال -سبحانه- عن النار: ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور: 16].

ومن عقوبة المعصية: المعصية بعدها، فإبليس لما عصى ربه -تعالى- ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك، عاقبه الله بأن جعله داعياً إلى كل معصية, فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعياً إلى كل معصية وفروعها، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.