كرم أم المؤمنين عائشة وسياستها في الإنفاق

عناصر الخطبة

  1. حاجة مجتمعنا للقدوات
  2. سيرة أم المؤمنين عائشة منهج تربوي متكامل
  3. دور أصلها ونشأتها في اتصافها بالكرم
  4. مواقف تبين عظيم كرمها
  5. موقفها مع ابن الزبير جرَّاء شدَّة كرمها
  6. اتخاذها لنهجٍ وسياسةٍ في الإنفاق
اقتباس

فأبوها الصدَّيق هو الذي جاد بماله كله دون أدنى خوف أو وجل من العاقبة! فعندما سئل عما ترك لأهله قال: تركت لهم حب الله وحب رسوله! وكان لهذا المنشأ في صغر عائشة، ثم انتقالها إلى كنف زوجها الحبيب -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يُعرَف له مثيلٌ في الكرم أثرٌ كبيرٌ، وصدىً طيبٌ في ترسيخ أسس الكرم الأصيلة لدى عائشة، وفي تكوين شخصيتها الكريمة، فكان كرمُها مضربًا للمثل ..

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى صحابته الكرام الذين اهتدوا بهديه، واقتدوا بسنته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 

أما بعد: اتقوا الله عباد الله، وكونوا مسلمين لله بحق، فالإسلام هو الاستسلام لله، وهكذا كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين استجابة لله، وتزكية للنفس، ومحاسبة لها؛ ولهذا كانوا -رضي الله عنهم- مدرسة للرجال والأجيال.

وكنا قد بدأنا الحديث عن سلسلة خطب عن سيرة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-، قضينا معها أربعة أشهر بالتمام والكمال في ست عشرة خطبة، تناولت عددًا من صفحات سيرة أم المؤمنين عائشة العطرة، مع ربطها بالواقع المعاصر، خاصة فيما يتعلق بالفتاة المسلمة العصرية والتي تعلقت قلوب الكثير منهن بشهيرات يبرزهن الإعلام وبشكل صارخٍ وَمُزْرٍ، أثَّرَ سَلْبًا على بناتنا وأخواتنا، بِسِنٍّ هن أحوج ما يكن للأسوة الحسنة.

وكان الهدف الرئيس من هذه السلسلة هو: إبراز أسلوب التربية بالقدوة، أقوى وأهم وأفضل وسيلة تربوية للأولاد والبنات، خاصة في واقعنا المعاصر الذي يعيش أزمة قدوات بحق، فكان لزامًا على المربين والناصحين الصادقين إيجاد وإبراز القدوة الحسنة، بدءًا بأنفسهم، ومرورًا بتاريخنا الذهبي الذي سطره لنا الآباء والأجداد بحياتهم العملية، وتجاربهم الحياتية، فكانت مدرسة فذة رائعة مليئة بالدروس والعبر لمن كان له قلب وسمع وبصر.

وربْطُ أجيالِنا بتاريخهم أمانة على الجميع من آباء ومربين وإعلاميين وعلماء ومسؤولين، ومن هذه المسؤولية العظيمة كان هذا المشروع العلمي التربوي، بدءًا ببعض قصص الأنبياء بالقرآن، ثم بسلسلة مواقف نبوية في سيرة حبيبنا وقدوتنا محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام-، ثم بقصص موسى وواقعنا المعاصر بِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خطبةً، ثم بقصص النساء بالقرآن بثلاثين خطبة، ثم بسلسة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بعشرين خطبة بقي منها أربع خطب.

وانتهينا -بفضل الله- من ست عشرة خطبة، بدءًا بعائشة كطفلة، ثم عائشة كفتاة يافعة، ثم عائشة كابنة بارة لوالديها، ثم عائشة كمخطوبة، ثم سَنَة أولى زواج في حياة عائشة، ثم عائشة وفلسفة السعادة الزوجية، ثم عائشة والواقعية في حياتها الزوجية، ثم عائشة والإشاعات، ثم عائشة واللسان، ثم عائشة والوفاء والحب لزوجها، ثم عائشة كأخت بارة بإخوانها وشقيقتيها، ثم عائشة كأم رؤوم حنون، ثم عائشة وبناء شخصيتها الإيمانية وعلاقتها بربها، ثم عائشة العالمة الفقيهة والمربية الفذة، ثم عائشة كسياسية محنكة، كل هذه الجوانب محيطة بنا، وجميعنا يحتاجها لبناء وتكامل شخصيته، خاصة الفتاة المعاصرة.

فكلنا يحب ويتمنى، بل ويبذل الغالي والنفيس، لتكون ابنته أو أخته بمثل هذا البناء الإنساني الرائع، ولاشك أن التوجيه والإرشاد بداية البداية، فمهم جدًّا أن نقف مع هذه السلسلة طويلاً، وأن نوفرها لبناتنا وأخواتنا لتكون سراجًا ومنارًا يضئ لهن الطريق في الزمن الصعب الذي قَلَّ فيه المـــُرَبِّي الأمين؛ ولذا ستتوفر هذه السلسلة بكتاب، وبألبوم صوتي متكامل، بمشيئة الله، لتكون أجمل هدية تؤكد روعة هذه الشخصية كقدوة للفتاة المعاصرة مع الأصالة، وبين الحاضر والماضي.

فسيرة عائشة -رضي الله عنها- كانت -وما زالت- أنموذجًا ومنهجًا تربويًّا وعمليًّا متكاملاً للفتاة المسلمة اليوم، وإنها -رضي الله عنها- شخصية نسائية فذة، جمعت خصالاً كثيرة، حتى أصبحت قدوة ومعلِّمةً للرجال والأجيال.

معاشر المؤمنين والمؤمنات: تعالوا اليوم لنكمل المسيرة لهذه السيرة، لنفتح صفحة أخرى من صفحات تاريخها المشرق، صفحة تكشف لنا عن صفة جميلة تضفي على المرأة جمالاً ونضارة، صفة عرفت بها الكثير من النساء، وبكل صراحة تميزت بها المرأة، وبزَّتْ بها الكثير من الرجال، ألا وهي صفة الكرم، فكرم أم المؤمنين عائشة عجيب وعظيم، سخاؤها وبرُّها مدرسة، فتعالوا لنقف على منهجها وخطتها في هذا الباب.

فالكرم -عباد الله- قيمة من قيم الإسلام، وشيمة من أبرز شيم العربية الأصيلة، له جذور موغلة وممتدة في التاريخ، حيث كانت العرب -من قديم الزمان- يتفاخرون به، وأسهب شعراؤهم في أشعارهم من ذكره، حتى جاء الإسلام فزاد هذه القيمة قيمة، وربطها بالأجر الجميل، والثواب الجزيل عند الله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران:92]، وأعلن أن الناس يوم القيامة في ظل أعطياتهم وصدقاتهم، وقد وردت مادة الكرم في القرآن الكريم فيما يقرب من خمسين موضعًا بصيغ مختلفة، ومدلولات متنوعة.

والكرم هو الإنفاق بطيب النفس فيما يعظم خطره، ويكثر نفعه، وبذل ما ينبغي من الأموال فيما ينبغي من المجالات، وإن كان الكرم عند بعض الكرماء خلقًا مكتسبًا، فقد كان في عائشة خلقًا أصيلاً، وطبعًا راسخًا، حيث نشأت في بيت مسؤوله الأول أكرم شخص في هذه الأمة بعد رسولها -عليه وعلى صاحبه أفضل صلاة وسلام-.

فأبوها الصدَّيق هو الذي جاد بماله كله دون أدنى خوف أو وجل من العاقبة! فعندما سئل عما ترك لأهله قال: تركت لهم حب الله وحب رسوله! وكان لهذا المنشأ في صغر عائشة، ثم انتقالها إلى كنف زوجها الحبيب -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يُعرَف له مثيلٌ في الكرم أثرٌ كبيرٌ، وصدىً طيبٌ في ترسيخ أسس الكرم الأصيلة لدى عائشة، وفي تكوين شخصيتها الكريمة، فكان كرمُها مضربًا للمثل.

هي حقًّا بنت أبيها، فقد كانت تعطي عطاء من لا يخشى الفقر والفاقة أبدًا، ولم يكن لكرمها ساحل ولا حدود، فكانت كريمة إلى درجة أن المال لا يكاد يقر بيديها حتى تنفقه على الفقراء والمساكين، وتوزع الآلاف المؤلفة في يوم واحد في حين تلبس البالي وثيابها مرقعة، فكُتب السير والتراجم حافلة بمواقفَ تحكي لنا هذه الصفة العظيمة لعائشة، لا أقول إنها كرم حاتمي، بل أقول: إنه كرم خريجة مدرسة النبوة، ومدرسة صديق الأمة.

مواقف عجيبة غريبة، تنم عن مدى بلوغ صاحبتها في الزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله، ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾ [النحل:96]، عَنْ أُمِّ ذَرَّةَ، قَالَتْ: بَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى عَائِشَةَ بِمَالٍ فِي غِرَارَتَيْنِ، يَكُوْنُ مائَةَ أَلْفٍ، فَدَعَتْ بِطَبَقٍ، فَجَعَلَتْ تَقْسِمُ فِي النَّاسِ. فَلَمَّا أَمْسَتْ، قَالَتْ: هَاتِي يَا جَارِيَةُ فُطُوْرِي. فَقَالَتْ مولاتها أُمُّ ذَرَّةَ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ، أَمَا اسْتَطَعْتِ أَنْ تَشْتَرِي لَنَا لَحْماً بِدِرْهَمٍ؟ قَالَتْ: لاَ تُعَنِّفِيْنِي، لَوْ أَذْكَرْتِيْنِي لَفَعَلْتُ.

يا الله! كم يهزني هذا الموقف؟! أيُعْقَلُ أن يصل التجلي والإيمان بالإنسان أن ينسى نفسه؟! والموقف لم يحدث مرة واحدة، بل تكرر مع عائشة، فقد ذكر الذهبي في السِّيَر عن عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ أنه قال: إِنَّ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ مَرَّةً إِلَى عَائِشَةَ بِمائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَوَاللهِ مَا أَمْسَتْ حَتَّى فَرَّقَتْهَا. فَقَالَتْ لَهَا مَوْلاَتُهَا: لَوْ اشْتَرَيْتِ لَنَا مِنْهَا بِدِرْهَمٍ لَحْماً؟ فَقَالَتْ: أَلاَ قُلْتِ لِي؟. وعَنْ عُرْوَةَ قال: إن عَائِشَةَ: تَصَدَّقَتْ بِسَبْعِيْنَ أَلْفاً؛ وَإِنَّهَا لَتَرْقَعُ جَانِبَ دِرْعَهَا -رضي الله عنها- وأرضاها.

كل هذه المواقف تؤكد أن اهتمام عائشة بالفقير والمحتاج يفوق اهتمامها بنفسها وحاجتها لدرجة النسيان، حتى إنها باعت ذات مرة دارًا لها لمعاوية بمائة ألف دينار، ثم قسمت الثمن على الفقراء، فعتب عليها ابن أختها وربيبها عبد الله بن الزبير وقال: والله لتنتهين أم المؤمنين عن بيع رباعها أو لَأَحْجُرَنَّ عليها! فلما سمعت بالخبر غضبت وقالت: أهو يحجر علي؟! ثم قالت: لله عليَّ نذرٌ ألَّا أكلِّمَه حتى يفرِّقَ بيني وبينه الموت! وطالت المدة، وما زال عبد الله بن الزبير يلح عليها ويقدِّم الشفاعات فتمتنع، حتى دخل عليها حيلة ذات مرة فكلمته بعد شفاعات، ثم كفَّرَتْ عن نذرها بأن أعتقت أربعين أو مائة رقبة، وكانت إذا ذكرت نذرها هذا بكت حتى تبل خمارها.

هكذا كان كرم أم المؤمنين عائشة فوق الوصف، كرم وليس إسرافًا، فهي تنفق المال في حقه، وفي أوجهه الصحيحة، ولم تبذِّرْه على الموضات والزينة، ولا على الفساتين ومساحيق التجميل، رغم حرصها على التجمُّل ولبس الحسن كما مر معنا في عائشة كزوجة، لكنه الكرم وإيثار ما عند الله.

ولو وقف أبو تمام على جودها لما قال ما قال إلا في شأنها:

هُوَ البَحْرُ مِنْ أِّيِّ النواحِي أَتَيْتَهُ *** فَلُجَّتُهُ المعْرُوفُ والجُودُ ساحِلُهْ تَعَوَّدَ بَسْطَ الكفِّ حتَّى لو انَّهُ *** ثناها لِقَبْضٍ لَمْ تُطِعْهُ أَنامِلُهْ ولَوْ أَنَّ ما فِي كَفِّهِ غيْر نفْسِهِ *** لَجادَ بِها، فَلْيَتَّقِ اللهَ سائلُهْ

عباد الله! إن قصة كرم عائشة وعظيم إنفاقها طويلة وشيقة جدًّا، خاصة إذا علمنا أن لها منهجًا انفردت به من بين أولاد الصديق -رضوان الله عنهم أجمعين-، خطة محكمة في الكرم والإنفاق والتصدق، وفلسفتها قائمة على مراعاة حال ومكانة المتصدَّق عليه، ومدى حاجته إلى الصدقة، ثم النظر إلى جدوى الصدقة، وما تترك من أثر على حياة السائل، وهذا ما سنبينه ونفصل فيه في الخطبة القادمة بإذن الله تعالى.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.