البعث والحشر

عناصر الخطبة

  1. وجوب الإيمان بيوم القيامة
  2. ذكر بعض أهوال يوم القيامة ومواقفه
  3. يوم يقوم الناس لرب العالمين.
اقتباس

يوم عظيم جداً شديد وطئته على المؤمنين والكافرين تشيب منه رؤوس الولدان وتلد منه أولات الأحمال والولدان، حديثنا عن حدث جليل تحدث الأرض منه أخبارها وتضع أحمالها بأن ربك أوحى لها، حديث في الإيمان باليوم الآخر الذي غفل عنه الكثيرون، وكادت الدنيا أن تنسيهم يوم معادهم وحشرهم ونشرهم حديثنا عن يوم الحشر والنشر والبعث من القبور.. فمن أعظم أهوال يوم القيامة التي يجب على المؤمن الإيمان بها والاستعداد لها موقف الحشر…

الخطبة الأولى:

الحمد لله…

حديثنا لهذا اليوم عن يوم عظيم جداً شديد وطئته على المؤمنين والكافرين تشيب منه رؤوس الولدان وتلد منه أولات الأحمال والولدان، حديثنا عن حدث جليل تحدث الأرض منه أخبارها وتضع أحمالها بأن ربك أوحى لها، حديث في الإيمان باليوم الآخر الذي غفل عنه الكثيرون، وكادت الدنيا أن تنسيهم يوم معادهم وحشرهم ونشرهم حديثنا عن يوم الحشر والنشر والبعث من القبور؛ أعاذنا الله وإياكم في شر ذلكم اليوم.

فمن أعظم أهوال يوم القيامة التي يجب على المؤمن الإيمان بها والاستعداد لها موقف الحشر. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(50)﴾ [الواقعة: 49، 50]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجر: 25] وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود: 103].

والله -عز وجل- يحشر الناس ويجمعهم ليوم القيامة سواء من كان منهم في قبره، أو أكلته السباع، أو احترق، أو غرق في البحار، أو مات بأي ميتة كانت: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 148]: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].

والله -عز وجل- يحشر الخلائق جميعًا لا ينسى منهم أحدًا، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]، وقال تعالى: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 47]، وقال تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)﴾ [مريم: 93، 94].

 وهذه النصوص تدل على حشر الخلائق جميعًا الجن والإنس والبهائم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى: وأما البهائم فجميعها يحشرها الله –سبحانه- كما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التكوير: 5]، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: 29]، وحرف إذا إنما يكون لما يأتي لا محالة.

ويحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً أي غير مختونين كما ولدتهم أمهاتهم. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ قَالَ -صلى الله عليه وسلم- "يَا عَائِشَةُ! الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ".

وكل إنسان يُبعَث على الحال التي مات عليها من التقوى والإيمان والكفر والعصيان، روى مسلم في من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ".

وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: "الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ مُحرِمٌ يُبعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا"، وَ"الشَّهِيدُ يُبعَثُ يَومَ القِيَامَةِ وَجَرحُهُ يَثعَبُ، اللَّونُ لَونُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسكِ" (رواه البخاري ومسلم).

عباد الله الحشر يوم القيامة مواقف، وأهوال والناس يحشرون على أصناف متعددة ونِحلٍ متفرقة:

فمن ذلك أن الكفار يحشرون على وجوههم: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ [الإسراء: 97]، وروى البخاري ومسلم في من حديث أنس -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟!"

ومن ذلك أن الناس يُحشرون على طرائق روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنفٌ مُشَاةٌ، وَصِنفٌ رُكبَانٌ، وَصِنفٌ عَلَى وُجُوهِهِم"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِم؟ وَقَالَ عَفَّانُ: يَمْشُونَ – قَالَ: "إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُم عَلَى أَرْجُلِهِم قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُم عَلَى وُجُوهِهِم، أَمَا إِنَّهُم يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِم كُلَّ حَدَبٍ وَشَوكٍ".

قال السندي: هم أهل الإيمان عوامه وخواصهم. يتقون بوجوههم كل حدبٍ، الحدب المرتفع من الأرض، أي: يجعلون وجوههم مكان الأيدي والأرجل في التوقّي عن مؤذيات الطرق، وقد غلت أيديهم وأرجلهم، وذلك لما لم يجعلوها ساجدة لخالقها.

ومنها أن المتقين يُحشرون على أحسن مركب. قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا(86)﴾ [مريم: 85، 86]؛ أي: عطاشًا، وقال جمع من المفسرين: إنهم يُحشرون – أي المتقين – على الإبل النجائب تكريمًا لهم، ويُحشر الناس يوم القيامة على أرض غير هذه الأرض. قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: 48].

روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ" قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ: "لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأَحَدٍ".

ومعنى عفراء: "قال الخطابي العفر بياض ليس بناصع، وقال ابن فارس: معنى عفراء خالصة البياض، والنقي: أي الدقيق النقي من الغش والنخالة، والمعلم: هو العلامة التي يهتدي بها إلى الطريق كالجبل والصخرة". (فتح الباري: 11/375).

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الوقت الذي تبدَّل فيه الأرض غير الأرض والسماوات هو وقت مرور الناس على الصراط. روى مسلم في صحيحه من حديث ثوبان -رضي الله عنه- أن حبرًا من أحبار اليهود سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ".

يشير إلى قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة: 4- 5]، وقال البخاري -رحمه الله تعالى-: أوحى لها وأوحى إليها، ووحى لها ووحى إليها واحد. وكذا قال ابن عباس. وعنه -رضي الله عنه- قال: قال لها ربها: قولي فقالت وقال مجاهد: أوحى لها أي أمرها. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

وتقيء يوم العَرض من أكبادها *** كالأسطوانِ نفائس الأثمانِ

يشير رحمه الله إلى قول الله -عز وجل-: ﴿وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ وإلى ما رواه مسلم: في (صحيحه) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تُلقي الأرضُ أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيءُ القاتل فيقول في هذا قُتِلت، ويجيءُ القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارقُ فيقول في هذا قُطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً".

فيقوم النَّاس من قبورهم لرب العالمين كما أخبرنا جَلَّ وَعَلا وَهُوَ أصدق قائل وَذَلِكَ أن الله ينزل ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يَوْمًا فتنبت منه الأجساد في قبورهم كما ينبت الحب في الأرض، قال ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:

وإِذَا أَرَادَ اللهُ إِخْرَاجَ الوَرَى *** بَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى مَعَادٍ ثَانِي

أَلْقَى عَلَى الأَرْضِ التِي هُمْ تَحَتَهَا *** واللهُ مَقْتَدِرٌ وذَوْ سُلْطَانِ

مَطَرًا غَلِيظًا أَبْيَضًا مُتَتَابِعًا *** عَشْرًا وعَشْرًا بَعْدَهَا عَشْرَانِ

فَتَظَلُّ تَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَامُ الْوَرَى *** وَلُحُومُهُمْ كَمَنَابِتِ الرَّيْحَانِ

حَتَّى إِذَا مَا الأُمُّ حَانَ وَلادُهَا *** وَتَمَخَّضَتْ فَنِفَاسُهَا مُتَدَانِ

أَوْحَى لَهَا رَبُّ السَّمَا فَتَشَقَّقَتْ *** فَبَدَا الْجَنِينُ كَأَكْمَلِ الشُّبَّان

وَتَخَلَّتِ الأُمُّ الْوَلُودُ وَأَخْرَجَتْ *** أَثْقَالَهَا أُنْثَى وَمِنْ ذُكْرَانِ

وَاللهُ يُنْشِئُ خَلْقَهُ فِي نَشْأَةٍ *** أُخْرَى كَمَا قَدْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ

هَذَا الَّذِي جَاءَ الكِتَابُ وَسُنَّةُ الْ *** هَادِي بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى الإِيمَان

بارك الله لي ولكم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله…

ومن آثار الإيمان بهذا الحدث الغيبي العظيم:

أولًا: أن الله أخبر عباده بأهوال هذا اليوم – وهم في الدنيا – ليعلموا ما هم صائرون إليه، وليكونوا على بينة من أمرهم، وليستعدوا لذلك ويحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

وصدق الله إذ يقول: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: 30].

أما المجرمون فيقولون: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: 49].

ثانيًا: أن الناس يذهلون من هول المحشر عن كل شيء. قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37)﴾ [عبس: 34 – 37] وقال تعالى: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل: 17].

ثالثًا: قدرة الله العظيمة على جمعهم وحشرهم في صعيد واحد ومحاسبتهم. قال تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: 29] وقال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50].

رابعًا: في يوم الحشر تظهر حقيقة الدنيا لأهلها وحقارتها. قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [يونس: 45] وقال عن المجرمين: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا(103)﴾ [طه: 102، 103].

نسأل الله السلامة والعافية..