نظرات في سورة الحشر

عناصر الخطبة

  1. صورة عجلى لسورة الحشر
  2. ابتداء السورة وانتهاؤها بتسبيح الله -جل وعلا-
  3. أربعة أوصاف نُسبت إلى اليهود
  4. هل الأمم تتوارث الأخلاق النفسية والتقاليد الاجتماعية
  5. كان لا بد من معاقبة اليهود
  6. فوائد من سورة الحشر
  7. أسباب محاربة الشيوعية في مصر
اقتباس

وتسبيح الله بالنسبة إلى أفعاله -وهو مدخل السورة- أساسه أن الجنس اللعين الذي تمتع بالشهوات، والذي تبجح في الأرض، والذي استباح الربا والزنا، والذي عاش وفق هواه واستدبر هدايات الله؛ تُرك ولكنه تُرك إلى حين، وأُمهل ولكنه لم يُهمَل، وأن العقوبة الإلهية أخذت تنزل به، فتسبيح الله هنا إشعار بأنه ما يترك أفعال الخلق تسير فوضى، إن الزمام بيده وهو الغالب على أمره، ولذلك عندما بدأ…

الخطبة الأولى: 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فنستعين بالله تعالى الآن على رسم صورة عجلى لسورة الحشر؛ بدأت سورة الحشر -كما ختمت أيضًا- بتسبيح الله وتحميده: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، وخُتمت بتسبيح الله وتحميده: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

تسبيح الذات معناه أن الله -تبارك وتعالى اسمه- منزه عن الضد والند والصاحبة والولد، وأنه يستحيل أن يشبه بشرًا، أو أن يشبهه بشر، وأنه لا يوصف بأنه والد ولا ولد.

وتسبيح الله بالنسبة إلى أفعاله -وهو مدخل السورة- أساسه أن الجنس اللعين الذي تمتع بالشهوات، والذي تبجح في الأرض، والذي استباح الربا والزنا، والذي عاش وفق هواه واستدبر هدايات الله؛ تُرك ولكنه تُرك إلى حين، وأُمهل ولكنه لم يُهمَل، وأن العقوبة الإلهية أخذت تنزل به، فتسبيح الله هنا إشعار بأنه ما يترك أفعال الخلق تسير فوضى، إن الزمام بيده وهو الغالب على أمره، ولذلك عندما بدأ ينكل بهؤلاء ذكر اسمه مقرونًا بالتسبيح والتحميد، وهو -جل شأنه- يوجّه أنظار الصالحين إلى هذه الحقيقة كلما اشتدت عليهم الضوائق؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)﴾.

إن توجيه نظرة إلى تسبيح الله وتحميده هو إشعار له بأن الأمور لا تفلت من يد الله، وأنه إن ضاق اليوم فإن المستقبل له.

وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ(49)﴾. هذا التسبيح لله رب العالمين هو شعور من الإنسان بأن أحوال الخلق وأن مصائر العباد إلى الله، لابد أن يبت فيها ولابد أن يرسل حكمه العدل في قضاياها إن عاجلاً وإن آجلاً، وقد سكت على اليهود دهرًا ولكنه الآن يضربهم الضربة القاصمة: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ(2)﴾.

هذا الوصف يعطي أن اليهود كانوا مركز القوة، وأن حصونهم كانت تخيف المؤمنين وتدع في قلوبهم يأسًا من أن اقتحامها سهل، كانوا يعتقدون أن حصونهم مانعتهم من الله، وكان المسلمون يتهيبون هذه الحصون التي أقيمت، لكن الذي حدث كان مفاجأة؛ فإن الحصون خربت، والدور التي أقيمت خلفها هدمت، وكان المؤمنون واليهود جميعًا يشتغلون بتخريب هذه الحصون.

ننظر إلى السورة فنجد أربعة أوصاف نُسبت إلى اليهود:

الوصف الأول: أنهم شاقوا الله ورسوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. ومعنى مشاقتهم لله ورسوله أنهم عصوا ربهم واستباحوا حرماته وعطلوا أحكامه وشرائعه وأضاعوا حدوده وحقوقه، واليهود سادة هذه الخصال وأسباب انتشارها في العالمين.

الوصف الثاني: أنهم فاسقون: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾.

الوصف الثالث: أنهم يخشون الناس أكثر مما يخشون الله: ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾.

الوصف الرابع: أن مظهرهم يدل على الوحدة والجماعة، ولكن سرائرهم متفرقة ممزقة، يكره بعضهم بعضًا، وليست لأنهم لا عقيدة جامعة ولا وحدة فكرية أو عاطفية تربط بينهم: ﴿لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾.

هذه هي المواضع الأربعة في السورة التي تحدثت عن أخلاق اليهود عندما هزموا، وأظن هذا الإحصاء ناضحًا بأن القوم قد استجمعوا ما يؤهلهم للضياع وما يرشحهم للغضب الإلهي.

هنا يجب أن نسائل أنفسنا: هل الأمم تتوارث الأخلاق النفسية والتقاليد الاجتماعية والخصائص الفكرية والسياسية من جيل إلى جيل؟!

قد يحدث هذا وقد لا يحدث، وعندما يحدث فإن السابق واللاحق يشتركان في نتيجة واحدة، وربما لا يحدث هذا فيكون مَنْ جَمَع خصال الشر جديرًا بأن يجنى الشر، ومن استجمع خصال الخير كان جديرًا بأن يجنى الخير.

ومعلوم أن اليهود يوم خرجوا من مصر كانوا أذلة؛ لأنهم مُرِّنوا على أن يوطئوا ظهورهم ويحنوا رؤوسهم؛ ولذلك ما أفلحوا في قتال ولا شرفوا موسى فيما قصد إليه من معارك وقالوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾.

ولقد قال المؤرخون: إن الله توَّههم في سيناء أربعين سنة حتى هلكت الأجيال الجبانة ونبتت أجيال شجاعة أمكن أن تحقق رسالة موسى، وأن تكون وفق ما يرضي الله.

إذن الأخلاق تورث ولا تورث، والخصائص العامة تتنقل ولا تتنقل، ولو كانت الأخلاق تورث والتقاليد تتنقل لكان المسلمون الآن على أخلاق الصحابة والتابعين.

إن السورة التي شرحت لنا لماذا هزم اليهود ولماذا قذف في قلوبهم الرعب قالت لنا: كان لابد أن يعاقب اليهود: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾.

ولذلك فإن هذه السورة التي قالت للمسلمين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(19)﴾، هاتان الآيتان -في سياق سورة الحشر- تنبئان المسلمين بأنه لا يجوز أن يقعوا فيما وقع اليهود فيه، واليهود نسوا الله فأنساهم أنفسهم، واليهود لم يتقوا الله ولم يحسبوا حساب الغد.

والواقع أن اليهود فيما يتصل بيوم القيامة حذفوا ما يتصل به من نصوص، لا يوجد في العهد القديم نص تحدث عن يوم القيامة، ولذلك فإن أغلب اليهود يرون أن جنتهم في التجمع في فلسطين، وأن إقامة مملكة يهوه على الأرض -كما يزعمون- هذا النعيم الذي يوعدون به والذي يجيء بهم من المشارق والمغارب إلى أرض فلسطين.

ينبه القرآن المسلمين إلى أن لا يسلكوا مسالك اليهود، ويبين لهم أن مصير الناسين النار، وأن مصير الذاكرين الجنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ(20)﴾.

ويبين آلله بعد ذلك أنه أنزل القرآن الكريم عقيدة وشريعة، وأن الأمة التي تجعله رايتها وتمشي تحته لابد أن تسمو وأن تزكو وأن تنتفع وأن ترتفع، وأن هذا القرآن حوى من المواعظ ما يزلزل الطغيان ويمنع الكفران ويجعل صلة الإنسان بربه -جل جلاله- صلة قائمة على الخوف والوجل: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

بعد هذا العرض السريع بدأ ختام السورة بذكر الله مرة أخرى وتسبيحه وتحميده: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(24)﴾.

سورة الحشر -إلى هذا القدر من الشرح- تبيّن منها:

أن الله تحدث عن نفسه أولها وآخرها، وأنه أذل أهل الكتاب من اليهود لمسالكهم الشائنة ومواقفهم الرديئة، وبقي بعد ذلك أن نعرف الوقائع التي تضمنتها السورة، حاول اليهود قتل رسول الله وانتهزوا لذلك فرصه أنه ذهب إليهم ليطلب منهم -كما تقضي المعاهدة المبرمة بين المسلمين واليهود- المعاونة في دية قتيلين، ولقد أجاب اليهود إجابة حسنة، وأظهروا كأنهم يستعدون لجمع الدية وتسليمها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، واستند النبي إلى جدار ينتظر الوفاء، ولكنه -وهو المحفوف برعاية الله- عرف أنهم يتآمرون عليه، وفعلاً لقد قال بعض اليهود للبعض الآخر: لن تجدوا الرجل مستغفلاً كحالته هذه، فليذهب أحدكم بصخرة وليلقها عليه من السطح وهو مستند إلى الجدار ليريحنا منه، وعرف النبي المؤامرة، فترك المكان على عجل، ولحق به أصحابه وفرض عليهم الحصار.

المجتمع في المدينة كان مجتمعًا خليطًا، كان فيه مؤمنون خُلَّص، صدقوا الله وكانوا أتباعًا ناصحين لله ولرسوله، وهم المهاجرون والأنصار ومن انضم إليهم.

وكان فيه منافقون يعيشون في المدينة، قلوبهم مع قريش ضد الإسلام، قلوبهم مع اليهود ضد الإسلام، وفي الوقت نفسه يتظاهرون بأنهم على إيمان، هؤلاء قالوا لليهود: اثبتوا في مواقعكم، إن الحصار الذي سيضرب عليكم لن يدوم طويلاً، وسنشترك معكم في القتال حتى تفض هذا الحصار، ولكن المسلمين حاصروا بني إسرائيل وشددوا عليهم الخناق، وبدا من حماسهم وقوتهم وجرأتهم وإيمانهم واعتمادهم على الله أنه لن يستطع أحد أن يفك قبضتهم عن عدو الله وعدوهم، وبعد أن كان المنافقون يلوحون بتدخلهم ويشعرون اليهود بأنهم معهم تخاذلوا؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ(12)﴾.

لو أن قوى الدنيا كلها تجمعت لمساندة اليهود فإن هذه القوى ستتمزق وتتلاشى، ولابد من أن ينزل بطش الله باليهود على يدي محمد وصحبه.

هذا ما كان في بني النضير، وفعلاً تمت المعركة، وكان الرعب الذي بثه الله في قلوب اليهود عونًا على أنفسهم، وكان سلاحًا إسلاميًّا ضدهم، وانتصر المسلمون وأخذوا أموال اليهود، فماذا فعلوا بها؟! أعطوها الفقراء المهاجرين الذين خرجوا من مكة تاركين أموالهم ودورهم، فكان ذلك تعويضًا حسنًا لهم، وكان ذلك إشارة إسلامية إلى أن المجتمع المؤمن لا يبقى فيه ناس دون مال وناس لهم مال كثير، ولذلك يقول الله -جل شأنه-: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.

تعطي هذه السورة الجليلة أن الله -تبارك وتعالى- لما نصر نصر عقيدة حرة عادلة منصفة لها أتباع كرام مؤثرون مخلصون شجعان مؤمنون على قوم يتصفون بالفسق ومشاقتهم لله ورسوله، ويتصفون بأنهم في مظهرهم كيان واحد وفي باطنهم أحزاب متفرقة وفرق متشاكسة، ويتصفون بأنهم يخشون الناس أكثر مما يخشون الله، النصر هنا لأحوال ولرجال، والهزيمة هنا لأحوال ولرجال، ومعنى ذلك أن المسلمين إذا فسقوا، وإذا شاقوا الله ورسوله، وإذا كانوا في مظهرهم كيانًا واحدًا وفي باطنهم أحزابًا متفرقة، وإذا كانوا يخشون الناس أكثر مما يخشون الله؛ فإنهم عندئذ ليسوا أهل نصر.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى الصالحين. وأشهد أن محمدًا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.

واعلموا -أيها الإخوة- أننا في بلدنا هذا -وهو قلب الأمة الإسلامية- حاربنا الشيوعية يوم كانت الشيوعية صبغة غالبة لبعض القابعين في كراسي السلطة، وبعض المتربصين على عرش الصحافة، وبعض الذين ملكوا ناصية القلم، وكثيرين من هؤلاء الذين أغواهم الشيطان فحطبوا في حبله ونصروا طريقته.

حاربنا الشيوعية، ولي فيها كتاب ينشر في الخارج اسمه "الإسلام في وجه الزحف الأحمر"، أُلِّف في سنة 1967م في أيام عجاف وأزمات عصيبة كانت تمسك بخناق المؤمنين وأصحاب الغيرة على الإسلام.

لم حاربنا الشيوعية؟!

حاربناها لأننا نحب الله بداهة، ومن أنكر الله احتقرناه، حاربناها لأننا نعرف الإسلام ونعرف أن الله -سبحانه وتعالى- أودع في تضاعيف الكتاب والسنة من النصوص والتعاليم والقواعد ما يغني الأمة الإسلامية عن أي فلسفة لقيطة وأي فكر دخيل.

لكني أعرف ناسًا كثيرين لا يحاربون الشيوعية للمعنى الجليل الذي في نفوسنا، لعلهم يحاربونها لأن لهم أموالاً يخافون عليها، أو لأن لهم نفوذًا يخشون أن يتقلص، أو لأن لهم منافع يريدون أن تدوم.

لسنا من هؤلاء، إننا نحارب الشيوعية لحساب الإسلام وحده، ولذلك فنحن نقول: لا يكفي في محاربة الشيوعية أن أسماءً تختفي، وأن بعض الذين مسّت خيانتهم أولي الأمر يتلاشون من ظاهر الميدان، إنما المهم أن التيار الإسلامي يقوى، وأن الثقافة الإسلامية تنتعش، وأن العودة إلى الإسلام تتضح، وأن التقاليد الإسلامية تسود، وأن الأخلاق الإسلامية تنمو، وأن تقنين الشريعة يبدأ يأخذ طريقه إلى النور وإلى الحياة، وأن الأجهزة المحنطة في الأزهر وفي غيره الأزهر والتي كتب لها أن تعمل للإسلام وهي لا تعمل له إلى الآن عملاً محترمًا، أو عملاً واضحًا يجب أن تتحرك لخدمة دينها.

لا يكفي في ضد الشيوعية أو الإباحية الغربية أن يختفي بعض الذين قادوا الضلال في بلدنا دهرًا طويلاً، إنما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن الثقافة الإسلامية معتلة وأن التشاريع الإسلامية مختفية، وأن أوضاعًا إسلامية كثيرة مختلة، ويجب أن يعود إليها ما ينبغي أن يسودها من نظام ومن اتساق ومن إنتاج، هذا هو الكفاح الحقيقي للشيوعية ولليهودية الهاجمة علينا، وأنا موقن بأنه يوم تبدأ اليقظة الإسلامية تأخذ طريقها إلى الضمير العربي وإلى العقل العربي فإن المد اليهودي سيأخذ في الانكماش.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

أقم الصلاة..