أعظم الفرائض

عناصر الخطبة

  1. استشعار نعمة الله في فرائضه وشرائعه
  2. أهمية الصلاة منزلتها ومكانتها
  3. من ثمرات المحافظة على الصلاة
اقتباس

لقد اشتملتِ الصلاةُ على أحسنِ الأقوالِ، وأفضلِ الأفعال؛ فمن أقوالها: التكبير، وقراءةُ القرآن، والتسبيحُ، وأنواعُ الذِّكرِ والدعاء، ومن أفعالها: القنوتُ، والركوعُ والسجود، وقد بلغت الغايةَ في الذُّلِّ والتعظيمِ لله -تعالى-. ودليلُ عظيمِ منزلتِهَا عند الله -جل جلاله- أن الملائكةَ والنبيينَ ي…

الخطبة الأولى:

 أما بعد:

عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى-؛ فإنها سبيل النجاة والفلاح: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الزمر: 61].

أيها المسلمون: نِعَمُ الله -تعالى- على عباده لا تحصى؛ وكثيرٌ من الناس لا يبصرون من نِعَمِ الله إلا النِّعمَ الدنيويةَ الحسيةَ الزائلة، ويغْفَلُون عن النِّعمِ الدِّينِيَّةِ التي شرعها الله -تعالى- لهم، وهداهم إليها، وهي أعظمُ أثراً على العباد، وأكثرُ نفعاً لهم.

قليلٌ من الناس من يُدرِكُ المعانيَ العظيمةَ لهذهِ الفرائضِ والعبادات، وأثرَهَا في صَلاحِ قلوبِ العباد، واستقامةِ أمورِهم، وهنَاءِ عيشِهِم، فهيَ جنةُ الدُّنيَا الموصلةُ إلى جنةِ الآخرة.

فَوَاجبُ العبادِ أن يشكُرُوا الله -تعالى- حينَ شَرَعَهَا لهم، وأَوْجَبَها عليهم، ثم يشكُرُوهُ -سبحانه وتعالى- حيثُ هداهم لمعرفَتِها، ووفَّقَهُم لأَدَائِها؛ فكم من جاهلٍ لم يعْلَمْهَا، وكمْ من محرُومٍ فرَّطَ في أَدَائِها، وكمْ من مُستَكْبِرٍ أعْرَضَ عنها؟!

عباد الله: الصلاةُ هي أعظمُ الفرائضِ في الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمودُهُ الذي لا قِوَامَ لهُ إلا بها، ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها، ومن ضيَّعها فقد ضيَّع دينه، وهو لما سواها أضيع، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لمعاذٍ -رضي الله عنه-: "ألاَ أُخبركُ برأس الأمرِ كُلِّه وعَمُودِه وذِروةِ سَنامِه؟" قال: بلى يا رسول الله، قال: "رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاةُ، وذِروةُ سَنامه الجهاد".

قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "ومتى وقع عمودُ الفُسطاطِ وقعَ جميعُه، ولم يُنتفع به".

لقد اشتملتِ الصلاةُ على أحسنِ الأقوالِ، وأفضلِ الأفعال؛ فمن أقوالها: التكبير، وقراءةُ القرآن، والتسبيحُ، وأنواعُ الذِّكرِ والدعاء، ومن أفعالها: القنوتُ، والركوعُ والسجود، وقد بلغت الغايةَ في الذُّلِّ والتعظيمِ لله -تعالى-.

ودليلُ عظيمِ منزلتِهَا عند الله -جل جلاله- أن الملائكةَ والنبيينَ يتقرَّبُون إلى الله -تعالى- بها، وهم أفضلُ خلقِ الله -تعالى-، وأعلَمُهُم به سبحانه وتعالى.

وفي حديث الإسراءِ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: "هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ".

والقرآن الكريم مليء بذكر قنوت الأنبياء، وسجودهم وركوعهم، وصلاتهم.

وكانت الصلاةُ من أوائلِ الأعمالِ التي دعا النبي -عليه الصلاة والسلام- لإقامتِها.

وجاء في بعض السورِ المكيةِ الأمرُ بها؛ كما في سورة الروم: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الروم: 31].

بل جاء في ختام أول سورة نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: 19].

فأَطلق سبحانه السجودَ وأراد الصلاة؛ لأن السجودَ أخصُّ صِفَاتها، ورَبَط بين السجودِ والاقترابِ من الله -تعالى-.

وهذا يدل على أن الصلاةَ أعظمُ قُربةٍ إلى الله -جل وعلا-.

وفي مسند الإمام أحمد: "أن أوَّلَ شيءٍ علمه جبريلُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- الوضوءَ والصلاة".

وجاء في السيرة النبوية: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه كانوا يصلون صلاتين قبل أن تُفرَضَ الصلواتُ الخمس: الأولى في أوَّلِ النهار، والثانيةُ في آخره".

فلما أُسريَ بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وعُرج به إلى ما فوق السماء السابعة حتى سمع صريف الأقلام، أَخَذَ فريضةَ الصلاةِ عن ربه -جل جلاله- مباشرة بلا واسطة.

فرضها الله -تعالى- خمسينَ صلاةً ثم خففها إلى خمسٍ في الأداء، خمسينَ في الأجر والمثوبة؛ كما في حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَفَرَضَ الله على أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، قال: فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حتى أَمُرَّ بِمُوسَى، فقال مُوسَى -عليه السلام-: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ على أُمَّتِكَ؟ قال: قلت: فَرَضَ عليهم خَمْسِينَ صَلَاةً، قال لي مُوسَى -عليه السلام-: فَرَاجِعْ رَبَّكَ فإن أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذلك، قال: فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا، قال: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى -عليه السلام- فَأَخْبَرْتُهُ، قال: رَاجِعْ رَبَّكَ فإن أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذلك، قال: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فقال: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، قال: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فقال: رَاجِعْ رَبَّكَ، فقلت: قد اسْتَحْيَيْتُ من رَبِّي"[متفق عليه].

وفي رواية للبخاري: "فَنُودِيَ: إني قد أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عن عِبَادِي".

وجاء في سنن النسائي من حديث جابر -رضي الله عنه-: "أن جبريل -عليه السلام- نزل من السماء يُعلِّم النبي -صلى الله عليه وسلم- مواقيتَ الصلاة، ويصلي به كلَّ صلاةٍ في وقتها، والناسُ خلفَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- يأتمون به، وهو يأتمُّ بجبريل -عليه السلام-".

ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "روي أن الصلاةَ أول ما فُرضَتْ كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ثم فُرضت الخمسُ ليلةَ المعراج وكانت ركعتين ركعتين، فلما هاجر أُقِرَّتْ صلاةُ السَّفَرِ وزِيدَ في صلاةِ الحَضَر، وكانت الصلاةُ تُكْمَلُ شيئا بعد شيء، فكانوا أولاً يتكلمون في الصلاة ولم يكنْ فيها تشهد، ثم أُمروا بالتشهد وحُرِّم عليهم الكلام، وكذلك لم يكن بمكةَ لهم أذانٌ وإنما شُرِعَ الأذَانُ بالمدينة بعد الهجرة" ا.هـ.

فالحمد لله الذي شَرَعَهَا وفَرَضَهَا وحَفِظَهَا، والحمد لله الذي هدانا لها، ونسأله -عز وجل- أن يُعِينَنَا على القيام بها كما يحب ويرضى.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم….

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه.

أيها المسلمون: إنَّ مما يميِّزُ أهلَ الإيمانِ أنهم أذْعَنُوا لله -تعالى-، وانقادُوا له واستَسْلَمُوا لأمرهِ الشرعيِّ، ورَضُوا به ديناً يَدِينُونَ به، وشريعةً يعْمَلُونَ بها؛ فكانُوا هُمْ أهلَ القنوتِ والطاعةِ؛ فامتدحهم الله -تعالى- بذلك في آياتٍ كثيرة منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ﴾[الأحزاب: 35].

ثم ذكر جملةً من صِفَاتِهم ثم قال سبحانه: ﴿أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 35].

والعباداتُ التي يقومُ بها المسلمُ لله -تعالى- من دلائلُ قنوتِهِ لربِّهِ -جل وعلا-، وكلَّما كان العبدُ طائعاً لله، خاضعاً لأمره، مجتنباً ما نَهَى عنه؛ كان أكثرُ قنوتاً لربه -جل وعلا-.

والصلاةُ أعظمُ ميدانٍ للقنوتِ لله -تعالى-؛ لأنَّ فيها من الخضوعِ لله -تعالى-في أفعالها وأقوالها ما ليس في غيرها من العبادات، وفيها إمساكٌ عن كلِّ الشهوات، وانتصابٌ لله -تعالى-، مما يدُلُّ على حقيقةِ كَونِها قنوتاً لله -تعالى-، ويشيرُ إلى منزِلَتِها عند الله -جل جلاله-.

والوقوفُ في الصلاةِ بين يدي الله -تعالى- يُسمَّى قنوتا؛ لأن المصلي واقفٌ لا يتحرك، وثابتٌ لا يتزحزح، ورامٍ ببصرِهِ في موضِعِ سجودِهِ لا يرفَعُهُ ولا يتلفِت، وبهذه الهيئةِ العظيمةِ أَمر الله -تعالى- المصلين، فقال: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238].

قال مجاهد -رحمه الله تعالى-: "فمن القنوت: الركودُ والخشوع، وغضُّ البصرِ، وخفضُ الجناحِ من رهبةِ الله -عز وجل-".

إن القنوتَ هيئةُ ذُلٍّ وخشوعٍ لا يستشعرُها كثيرٌ من الناس، ولا يُدرِكونَ معانيها العظيمة، ولماَّ كان رَفْعُ البصرِ إلى السماء ينافي الذُّلَّ والخضوعَ والقنوت؛ نُهيَ المصلي عن رفعِ بصرِهِ إلى السماء؛ فعن أَنَسٍ -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في صَلَاتِهِمْ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ في ذلك حتى قال: لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك أو لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ".

ورغم أن الركوع والسجود فيهما من الانحناء والتعظيم لله -تعالى- ما لا يخفى؛ فإن في هيئةِ الوقوفِ الواردةِ من الذُّلِّ والتعظيمِ لله -تعالى- ما لا يقْصُرُ عن الركوعِ والسجود، فقد فُضِّلَ على سائِرِ أركانِ الصلاة بأشْرَفِ الكلامِ وأفضلِه، فكان محلُّ قراءةِ القرآنِ دونَ غيرِهِ من الأركان؛ وأفضلُ الصَّلَوَات ما طالَ قيَامُهَا؛ كما في حديث جَابِرٍ -رضي الله عنه- قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَل؟ قال: "طُولُ الْقُنُوتِ".

والوقوفُ في الصلاةِ بِذُلٍّ وقنوتٍ لله -تعالى- يُهيِّئُ لِذُلِّ الانحناءِ في الركوع، والهَوْيِّ إلى الأرض في السجود، وتمريغِ الجبينِ والأنفِ في الأرض ذُلاًّ لله -تعالى-، وتعظيماً ومحبةً ورجاءً وخوفاً. فهنيئًا لعبدٍ قَنَتَ قلبُه مع قُنُوتِ جسدِهِ لله -تعالى-، فأقبلَ بكلِّيَتِهِ على صلاتِه، فَذَاكَ الذي يجِدُ لذَّةَ الصلاة، وذاك الذي تنهاهُ صلاتُهُ عن الفحشَاءِ والمنكر: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9].

ومما يجبُ أن يعلَمَهُ المسلمُ: أنَّ الوقوفَ تعظيماً وذُلاً لله رُكنٌ من أركانِ الصلاة؛ ويجبُ أن لا يُصرَفَ إلا لله -تعالى-، وقد جاء النهيُّ الصَّرِيحُ في تعظيم غير الله -تعالى- بالوقوف له أو عليه؛ عن جَابِرٍ -رضي الله عنه- قال: اشْتَكَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وهو قَاعِدٌ وأبو بَكْرٍ يُسْمِعُ الناس تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا فلما سَلَّمَ قال: "إن كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ على مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فلا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إن صلى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صلى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا"[رواه مسلم].

وعن أبي مِجْلَزٍ -رحمه الله تعالى- قال: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامُوا له، فقال: سمعت رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سَرَّهُ أن يَمْثُلَ له الرِّجَالُ قِيَاماً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"[رواه أحمد].

عباد الله: لقد كان للسلف الصالح شأنٌ عظيمٌ مع القنوتِ في الصلاة، قُدوَتُهُم في ذلك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يُطيلُ القيام حتى تتفطرَ قدماه، فما أكبر هممهم! وما أعظم فهمهم! وما أمضى عزائمهم، وما أقوى صبرهم في طاعة ربهم -جل وعلا-! وجدوا لذةً في القنوت لله -تعالى- فقنتت قلوبهم وأجسادهم تعظيما لله -تعالى- ومحبة وخوفا ورجاء، تذكَّرُوا طولَ الوقوفِ يوم القيامة بين يدي الله –تعالى-؛ فهان عليهم طولُ وقوفِهِم في صلاتهم، ولم يجدوا مشقةً في ذلك.

نسألك اللهم أن ترحم ضعفنا وعجزنا، وتُصلِح ما فسد من قلوبنا وأعمالنا، واجعلنا من القانتين.

وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى…