الغلاة الخوارج (2)

عناصر الخطبة

  1. سمات الخوارج وصفاتهم
  2. نتائج محاورة ابن عباس للخوارج
  3. كلمة حق يُرَاد بها باطل
  4. جرأة الخوارج على الدماء
  5. تأجيل الصحابة سيرهم للشام حتى ينتهوا من الخوارج
  6. الخوارج من أغرب أشكال بني آدم
اقتباس

لقي بعض الخوارج خنزيرًا لبعض أهل الذمة، فضربه بعضهم بشيء، فشق جلده، فقال له آخر: لِمَ فعلت هذا وهو لذمي؟! فاذهب لذلك الذمي فاستحله وأرضِه، وبينما هم معه إذ سقطت تمرة من نخلة، فأخذها أحدهم فألقاها في فمه، فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن؟! فألقاها ذلك من فمه –يعني: ورعًا-، فقال لهم عبدالله بن خباب: “أنا أعظم حرمة من هذه التمرة”، فأخذوه فَقَرَّبُوهُ فَضَرَبُوا رَأْسَهُ، ثم جاءوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها، ولما وصلت أخبارهم إلى عليّ -رضي الله عنه- أدرك خطورتهم..

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]،  ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

أما بعد: في صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود وغيرهم يحدّث وهب الجهني، وكان في الجيش الذي كان مع علي -رضي الله عنه- الذين صاروا إلى الخوارج، قال علي -رضي الله عنه- "أيها الناس! إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يأتي في آخر الزمان قوم يخرجون من قِبل المشرق حدثاء الأسنان –شباب صغار في الغالب- سفهاء الأحلام –أي فيهم طيش- يقولون من خير قول البرية –في كلامهم وخطبهم آيات وأحاديث- ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء –يعني للقرآن- ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء -يكلم الصحابة -رضي الله عنهم- يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضي لهم على لسان نبيهم -صلى الله عليه وسلم- لاتكلوا على العمل، وآية ذلك أن فيهم رجل له عضد وليس له زراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض".

هذا المشهد يمثل آخر فصول النزاع الذي دار بين علي -رضي الله عنه- وبين الخوارج، مشهد مسير جيش عليّ إليهم في النهروان؛ حيث حصلت قبل مسيره إليهم أحوال وحوادث أدت في النهاية إلى هذه المواجهة.

ومن ذلك ما انتهى عنده الكلام الأسبوع الماضي؛ حيث انتهى عند نجاح ابن عباس في إقناع فئة من الخوارج ممن انفصلوا عن جيش أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وهو راجع من صفين إلى كوفة، ونزلوا بأرض يقال لها حوراء من جانب الكوفة.

 انتهى الكلام عند إقناع فئة منهم بسوء فهمهم للنصوص الشرعية والمواقف النبوية، ومن ثَم انصراف تلك الفئة عن الباقين، وأولئك الباقون في حوراء، وهم خليط من قادة الخوارج ومن فُتن بهم من الأغرار، أولئك هم الذين قاتلهم عليّ -رضي الله عنه- في النهروان لما رأى أن في بقاءهم خطر على المسلمين وفساد في الأرض.

فكما ذكر ابن كثير والطبري وابن الأثير وغيرهم أنه لما رجع ابن عباس من مهمته تلك في محاورة الخوارج، ولم يرجع معه كلهم، وبقي منهم من بقي، خرج إليهم عليّ -رضي الله عنه- بنفسه فكلمهم وكلمهم، فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة.

ثم إنهم لما وصلوا الكوفة بدّلوا وأشاعوا بين الناس أن عليّ ساب من الحكومة –أي: من تحكيم الرجال في صفين-، وأن ذاك هو سبب رجوعهم معه، فبلغ ذلك عليًّا، فقام خطيبًا وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: "لا حكم إلا لله".

فقال علي -رضي الله عنه-: "كلمة حق يُرَاد بها باطل"، فجاء إليه رجلان منهم وهما زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي فقالا: "لا حُكم إلا لله"، فقال عليّ: "لا حكم إلا لله"، فقال له حرقوص: "تب من خطيئتك، واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا".

فقال عليّ: "فقد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهودًا، وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ [النحل: 91]"، فقال حرقوص: "ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، أما والله يا عليّ لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنّك؛ أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه".

فقال له عليّ: "تبًّا لك! ما أشقاك! كأني بك قتيلاً تسفي عليك الرياح"، فقال حرقوص: "وددت أن كان ذلك"، هذا عقله، وهذا تفكيره، يرجو أن يكون شهيدًا لو مات وهو يقاتل عليًّا -رضي الله عنه-.

فقال له عليّ: "إنك لو كنت محقًّا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم".

فخرجا من عنده ثائرين يزمجران، ثم إن الخوارج تعرضوا لعليّ في سائر خُطَبه، وأسمعوه السب والشتم، والتعريض بآيات الله من القرآن، ويقولون: "لا حكم إلا لله"، وقام رجل منهم وهو واضع أصبعه في أذنيه لا يريد الاستماع إليه ويقول: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[الزمر: 65]، يقصد بذلك عليًّا.

فجعل عليّ يقلّب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر ويقول: "حكم الله ننتظر فيكم، حكم الله ننتظر فيكم".

معاشر المسلمين: بالرغم من كل ذلك الإفساد إلا أن عليًّا -رضي الله عنه- كان يتقي الله -تعالى-، ويستعظم الدماء المسلمة، ولذلك قال لهم: "لكم علينا ثلاثة: ألا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدأكم بقتال ما لم تحدثوا فسادًا".

وقد ذكر ابن حجر والشوكاني وغيرهم: أن أولئك القوم خرجوا من الكوفة شيء بعد شيء، إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم عليّ في الرجوع، فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر في رضاه بالتحكيم ويتوب، أنه كفر عندما وافق على التحكيم، ثم راسلهم أيضًا.

يقول الطبري: "فلم تزل رسله تختلف إليهم، تغدو وتروح؛ أرسل إليهم الحارث بن مُرَّة العبدي، وقال له: "اعلم لي أمرهم، واكتب إليَّ بهم على الجلية"، فلما قدم عليهم الحارث قتلوه ولم ينظروه، قتلوا رسول عليّ -رضي الله عنه-".

ثم اجتمعوا على أن مَن لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، وما أشبه الليلة بالبارحة!! واستعرضوا الناس فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، يعني أصبح القتل عندهم عادة مستلذة.

جاء في البداية والنهاية وفي مصنّف ابن أبي شيبة وغيره جاء أثر حميد بن هلال عن رجل صاحَب أولئك الخوارج، ثم استنكر أفعالهم، وهرب منهم، قال: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ يُجَالِسُنَا فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ، قَالَ: لَحِقْتُ بِأَصْحَابِ النَّهْرَوَانِ فَكُنْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ كَرِهْتُ أَمْرَهُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَقْتُلُونِي، فَإِنِّي لأَسِيرُ مَعَ طَائِفَةٍ إِذْ أَتَيْنَا عَلَى قَرْيَةٍ وَبَيْنِي وَبَيْنَهَا نَهْرٌ، فَخَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ رَجُلٌ مَذْعُورٌ آخِذٌ بِثَوْبِهِ حِينَ رَأَى الْخَيْلَ، قَالُوا: كُنَّا رَوَّعْنَاكَ، قَالَ: أَجَلْ، قَالُوا: لا رَوْعَ عَلَيْكَ فَقَطَعُوا إِلَيْهِ النَّهْرَ فَعَرَفُوهُ وَلَمْ أَعْرِفْهُ، فَقَالُوا: أَنْتَ ابْنُ خَبَّابٍ صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ حَدِيثًا تَحَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تُحَدِّثُنَا بِهِ؟، قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ فِتْنَةً جَائِيَةً الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ".

فقادوه بيده فبينما هو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنزيرًا لبعض أهل الذمة، فضربه بعضهم بشيء، فشق جلده، فقال له آخر: لِمَ فعلت هذا وهو لذمي؟! فاذهب لذلك الذمي فاستحله وأرضِه، وبينما هم معه إذ سقطت تمرة من نخلة، فأخذها أحدهم فألقاها في فمه، فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن؟! فألقاها ذلك من فمه –يعني ورعًا-، فقال لهم عبدالله بن خباب: أنا أعظم حرمة من هذه التمرة، فأخذوه فَقَرَّبُوهُ فَضَرَبُوا رَأْسَهُ، فَرَأَيْتُ دَمَهُ حَتَّى سَالَ فِي النَّهَرِ، مَا امْذَقَّ بِالْمَاءِ، وَلا اخْتَلَطَ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فِي الْمَاءِ كَأَنَّهُ شِرَاكٌ أَحْمَرُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيَّ.

ثم جاءوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها، ولما وصلت أخبارهم إلى عليّ -رضي الله عنه- أدرك خطورتهم، وكان قد تأهب للمسير إلى الشام، يقول ابن كثير في البداية: "فبلغ ذلك عليًّا فقال -رضي الله عنه- لرجاله: تذهبون إلى معاوية وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟! والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم –أي: يكونوا هم الخوارج الذين تحدث عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا –إبل وغنم وممتلكات- في سرح الناس، فسيروا على اسم الله".

فسلك ناحية الأنبار وبعث بين يديه قيس بن سعد، وأمره أن يأتي المدائن، وأن يتلقاه بنائبها سعد بن مسعود -وهو أخو عبد الله بن مسعود الثقفي- في جيش المدائن، فاجتمع الناس هنالك على عليّ، وبعث إلى الخوارج: "أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب -يعني أهل الشام-، ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه".

فبعثوا إليه يقولون: كلنا قتل إخوانكم، ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم، فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوه من الأمر العظيم والخطب الجسيم، فلم ينفع وكذلك فعل أبو أيوب الأنصاري أنّبهم ووبخهم فلم ينجع فيهم.

وتقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إليهم، فوعظهم وخوّفهم وحذّرهم وأنذرهم وتوعدهم، وقال: "إنكم أنكرتم عليَّ أمرًا أنتم دعوتموني إليه، فنهيتكم عنه فلم تقبلوا، وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه، ولا ترتكبوا محارم الله، فإنكم قد سولت لكم أنفسكم أمرًا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيمًا عند الله، فكيف بدماء المسلمين؟!".

فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيؤا للقاء الرب -عز وجل- الرواح الرواحَ إلى الجنة، وتقدموا فاصطفوا للقتال، وتأهبوا للنزال.

وأمر عليّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج، ويقول لهم: "من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إنه لا حاجة لنا في دمائكم إلا فيمن قتل إخواننا"، فانصرف منهم طوائف كثيرون، وكانوا في أربعة آلاف، فلم يبقَ منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي، فزحفوا إلى عليّ فقدم عليّ بين يديه الخيل، وقدم منهم الرماة وصفّ الرجالة وراء الخيالة، وقال لأصحابه: كفّوا عنهم حتى يبدؤكم، وأقبلت الخوارج وهم يقولون: "لا حكم إلا لله، الرواحَ الرواح إلى الجنة".

يقول سلمة بن كهيل: فأنزلني زيد بن وهب منزلاً، حتى قال: مررنا على قنطرة، فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي وهو أميرهم وقائدهم، فقال لهم وهب: "ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها، فإني أخاف أن يناوشوكم كما ناوشوكم يوم حروراء".

يقول ذلك لأنه في يوم حروراء رجع جماعة من أتباعه حين أقنعهم ابن عباس بكلامه، ومن ثَم فإن قائدهم لا يريدهم أن يحتكوا بناصحين، يريدهم أن لا يسمعوا أيّ نصيحة من عليّ وأصحابه، فيختاروا الصلح، وهو –طبعًا- لا يريد الصلح، ولذلك أمرهم أن لا يستخدموا الرماح لطول المسافة التي تحول بين الرمح وخصمه، فإنه قد يمكّن خصمه من مناصحته ووعظه، أما السيف فإنه قصير لا يمنح هذه الفرصة، وهذا هو شأنهم لا يسمحون أن يأخذ أتباعهم إلا من القائد ولا يأبهون لرأي عالم، ولو كان مَن كان، ما دام مخالفًا لهم فلا قيمة له.

قال: "فرجعوا فوحشوا برماحهم –يعني رموها بعيدًا- وسلوا السيوف وشجرهم الناس برماحهم" الله سبحانه تعالى كادهم، وأمكن الصحابة منهم بالرماح.

قال: "وقتل بعضهم على بعض"، صاروا أكوامًا من الجثث "وما أصيب من الناس –يعني من جند عليّ- يومئذ إلا رجلان، فقال عليّ -رضي الله عنه- التمسوا فيهم المخدج –يعني صاحب العلامة التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في نبوءته أن على رأس عضده مثل حلمة الثدي- فالتمسوه فلم يجدوه فقام عليّ -رضي الله عنه- بنفسه حتى أتى ناسًا قد قتل بعضهم على بعض، قال أخّروهم فوجدوه مما يلي الأرض، فكبّر ثم قال: "صدق الله، وبلغ رسوله".

قال فقام إليه عبيدة السلماني، فقال: "يا أمير المؤمنين! ألله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو" حتى استحلفه ثلاثًا، وهو يحلف له.

وهكذا قتل أمير المؤمنين أولئك الغلاة القتلة المعتدين، ومن فرَّ منهم لم يجاوز العشرة، فلله الحمد من قبل ومن بعد، وأستغفره تعالى وأتوب إليه، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيعلق ابن كثير -رحمه الله- على موقف عليّ وأصحابه في تأجيل سيرهم للشام حتى ينتهوا من الخوارج قائلاً: "فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام، واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم بهذا الصنع، فخافوا غائلتهم، وأشاروا على عليّ بأن يبدأ بهؤلاء، ثم إذا فرغ منهم ذهب إلى أهل الشام بعد ذلك والناس آمنون من شر هؤلاء، فاجتمع الرأي على هذا، قال: وفيه خيرة عظيمة لهم ولأهل الشام أيضًا؛ إذ لو قَوي هؤلاء –أي: الخوارج- لأفسدوا الأرض كلها عراقاً وشاماً، ولم يتركوا طفلاً ولا طفلة، ولا رجلاً ولا امرأة؛ لأن الناس عندهم قد فسدوا فساداً لا يصلحهم إلا القتل جملة".

وهكذا فعلوه وهم قلة هاربون حكموا بكفر علي وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان كلهم كفار -رضي الله عنهم- وخططوا لقتلهم تقربًا لله فكيف لو كانوا كثرة!

ولذلك ذكر ابن كثير طفرة من كلامهم لما اجتمعوا وتعاهدوا على قتل المسلمين ممن لم يدخلوا تحت لواءهم وقالوا: "اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يُطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأُطيع الله كما أردتم، أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن فشلتم فأيّ شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته".

ثم قال ابن كثير بعد ذلك: "وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم, فسبحان من نوَّع خلقه كما أراد وسبق في قدره العظيم, وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا(105)﴾ [الكهف: 103- 104].

قال: "والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال, والأشقياء في الأقوال والأفعال اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين, وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس, ويتحصنوا بها, ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم ممن هم على رأيهم ومذهبهم من أهل البصرة وغيرها فيوافوهم إليها, ويكون اجتماعهم عليها". هكذا كلامه، رحمه الله.

أسأل الله تعالى أن يهدي ضالّ المسلمين، وأن يحفظ المسلمين من كل شر..