الصيف عظة وعبرة

عناصر الخطبة

  1. تقليب الله لليل والنهار والحكمة في ذلك
  2. وقفات مهمة حول فصل الصيف
  3. قصص في مسابقة الصالحين للأعمال الصالحة
  4. غفلة الناس عن العبادة في شهر شعبان وبعض العبادات المشروعة فيه
  5. بعض فوائد الحر ومصالحه
  6. التحذير من التفريط في أوامر الله وتضيع فرائضه
اقتباس

أيها المسلمون: الحر خلق من خلق الله فيه مصالح للأبدان، وللزروع والثمار، فلا يجوز سبه ولعنه، فهذا من سب الدهر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال الله -تعالى-: “يُؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر؛ بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار”. وإذا كان الإنسان يفر من حرارة الشمس إلى الظل، ويهرب من الأجواء الحارة إلى الأجواء الباردة ، حفاظا على اعتدال المزاج، وطلبا للصحة، فأولى ثم أولى أن…

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي تفرد بالكبرياء والعظمة، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويصرف الليالي والأيام، ويخلق ما يشاء ويختار إن ربك حكيم عليم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده الملك وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى عليه الله وملائكته والمؤمنون وعلى أزواجه وآله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فاتقوا الله -تعالى- وراقبوه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[الحشر: 18].

أيها المسلمون: في هذه الأيام تشتد حرارة الجو لحكمة يعلمها علام الغيوب، ومالك الملك فلا إله إلا هو ما أقواه! وما أضعف الإنسان! وما أهونه!.

هل يستطيع أحد من البشر أن يخفض درجة الحرارة؟ أم هل يستطيع تخفيف حرارة الشمس؟

ما سبب هذا الحر؟ هل له من منافع؟ هل سبق أن مر على الناس مثله؟

أسئلة ومناقشات تدور على ألسنة الناس افترها طبيعة البشر وما هم عليه من الضعف والزجر.

أيها المسلمون: ربنا -عز وجل- حكيم عليم، يقلب الليل والنهار، ويعاقب بين الفصول والأيام، في الطول والقصر، والبرد والحر، والخصب والجذب، وغير ذلك: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾[النور: 44].

فكم من الحكم والفوائد والعبر في هذه الأحوال المتفاوتة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وفي الصيف يحتد الهواء، ويسخن جدا، فتنضج الثمار، وتنحل فضلات الأبدان والأخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتفور البرودة، وتهرب إلى الأجواف، ولهذا تبرد العيون والآبار، ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة؛ لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد".

فسبحان الحكيم العليم.

إن من الوقفات المهمة في مثل هذه الأجواء: أن يتذكر الإنسان ضعفه ومسكنته، وأنه بأمس الحاجة إلى ربه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)[فاطر: 15-17].

فعليه أن يحسن في عبادة ربه، وأن يكثر من دعائه، والتضرع إليه.

ومن هذه الوقفات: أن يفكر الإنسان في إخوانه المسلمين الذين يبقون مددا من الزمن، تصهرهم حرارة الشمس، وتحرقهم حرارة الرمضاء، بلا ظل ولا مأوى.

قد شردوا من أوطانهم، وأخرجوا من ديارهم، وأنهكتهم الحروب، ومسهم الجوع في أقطار من العالم.

إن لهم حق المواساة بالكسوة والطعام، والدعاء.

وهذا يوجب علينا أيضا: أن نشكر الله -جل وعلا- الذي أطعم من جوع، وآمن من خوف.

ويؤكد علينا شكر القلب واللسان والجوارح، فعندنا من الأجهزة والوسائل ما ندفع به حرارة الجو، وشدة الصيف عوازل حرارية، وأجهزة كهربائية، ونعم متعددة، وأشربة مبردة: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾[النحل: 34].

فأين الشاكرون؟

﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[التكاثر:8].

جاء في سنن الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة أن يقال: ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد؟".

أيها المسلمون: إن ما نشعر به من شدة الحرارة هذه الأيام إنما هو نفس من أنفاس جهنم؛ ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير".

وهذا هو السبب الشرعي.

فإذا كان هذا من نفسها في الصيف، فكيف بأنفاسها جميعا؟ وما حال من يعذبون فيها؟ ومن هم خالدون مخلدون في النار؟ -نعوذ بالله من جهنم وعذابها-.

في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم".

فلكي يتذكر العباد شدة حرارة النار الكبرى في هذه الدار الدنيا، تعاقب عليهم الحر بين أوانه وأخرى.

ولما قال المنافقون في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ﴾[التوبة: 81].

قال الله -تعالى-: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(82)﴾[التوبة: 81-82].

لكن أهل الإيمان على صلاتهم دائمون، وإلى أعمال الخيرات يسارعون، يحتسبون خطاهم، ويقمعون هواهم، ويرضون مولاهم، ويخشون النار الكبرى.

يحافظون على الجُمع والجماعات، ويؤدون الصلوات في بيوت الله، رجاء ثواب الله.

ثبت في الصحيح أن رجل من الأنصار يمشي إلى مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ليصلي فيه كل وقت في الحر والبرد، والليل والنهار، وكان بيته بعيدا من المسجد، فقيل له: يا فلان لو اشتريت حمارا تركبه في حر الرمضاء وفي الليلة الظلماء؟ قال: والله لا أحب أن منزلي بجوار المسجد إني أحب أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد جمع الله لك ذلك كله".

وفي القرآن: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس: 12].

وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صلى البردين دخل الجنة".

وهما صلاة: الفجر والعصر.

فيا ليت من هجر المساجد في غالب أوقاتهم: أن يتذكروا ما رتب على هذه الأعمال الصالحات من أجر وجزاء، وما توعد التاركين لها بوعد ووعيد.

سمعت امرأة من الصالحات: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ(44)﴾[الحجر: 43-44].

فقالت للقارئ: أعد -رحمك الله-، فأعاد، فقالت: "في بيتي سبعة من الأرقة أشهدكم أنهم أحرار لوجه الله لكل باب منهم واحد".

وقال إبراهيم التيمي: "مثلت نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ آكُلُ ثِمَارَهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا، وَأُعَانِقُ أَبْكَارَهَا، ثُمَّ مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ آكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ صَدِيدِهَا، وَأُعَالِجُ سَلاسِلَهَا وَأَغْلالَهَا، فَقُلْتُ لِنَفْسِي: أَيْ نَفْسِي، أَيُّ شَيْءٍ تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا، فَأَعْمَلَ صَالِحًا، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتِ فِي الأُمْنِيَةِ، فَاعْمَلِي".

فرحم الله أولئك الأقوام، لقد كانوا يهربون من النار وأعمالهما، ويسعون إلى الجنة وأعمالها، قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "صوموا يوما شديدا حره، لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور ".

وكان بعض السلف يصوم في الصيف طلبا لكثرة الأجر، ويقول قائلهم: "إن الشيء إذا رخص اشتراه كل أحد".

وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن صَام يومًا في سبيل الله -عز وجل- بَاعَد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا".

فيا أيها المسلم: احرص أن تكون من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن تشرب من حوض المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- في عرصات القيامة شربة لا تظمأ بعدها أبداً.

وها أنتم -عباد الله-: في شهر شعبان وهو بين شهر حرام، أعني رجب وبين رمضان، والناس يغفلون فيه عن عباد الله وطاعته؛ فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-: " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر، ويفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه وإلا صامهما، ولم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان، فقلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما؟ قال: "أي يومين؟" قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس، قال: ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" قلت: ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين -عز وجل- فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"[رواه الإمام أحمد والنسائي].

قال ابن رجب -رحمه الله- "قد تضمن هذا الحديث ذكرى صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جميع السنة وصيامه من أيام الأسبوع وصيامه من شهور السنة.

فأما صيامه من السنة فكان يسرد الصوم أحيانا والفطر أحيانا فيصوم عليه الصلاة والسلام، حتى يقال لا يفطر ويفطر حتى يقال لا يصوم؛ كما في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- وعن ابن عباس وأنس -رضي الله عنهما-".

وأما صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور.

وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان".

زاد البخاري في رواية: "كان يصوم شعبان كله".

وفي رواية لمسلم: "كان يصوم شعبان إلا قليلا".

وقد رجح جماعة من العلماء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره.

ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لشهر الصوم المعظم،

قال سلمة بن كهيل: "كان يقال شهر شعبان شهر القُرّاء".

وكان حبيب بن أبي ثابت: إذا دخل شعبان، قال: "هذا شهر القراء".

وكان عمرو بن قيس: إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرَّغ لقراءة القرآن.

ذكر ذلك الحافظ بن رجب -رحمه الله تعالى-.

أيها المسلمون: إن هذه الأيام من أيام المسابقة إلى طاعة الرحمن، وكل دهر العبد وزمنه كله زمن المسابقة والمسارعة إلى طاعة الله -عز وجل-.

نسأل الله أن يعيننا وإياكم على كل خير، وأن يجعلنا وإياكم من المسارعين للخيرات المنافسين في الطاعات، وأن يعيذنا من نار جهنم وعذابها، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وأعمالنا.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشه أن نبينا محمد عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-: حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي والسيئات، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.

أيها المسلمون: الحر خلق من خلق الله فيه مصالح للأبدان، وللزروع والثمار، فلا يجوز سبه ولعنه، فهذا من سب الدهر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال الله -تعالى-: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر مقلب الليل والنهار".

وإذا كان الإنسان يفر من حرارة الشمس إلى الظل، ويهرب من الأجواء الحارة إلى الأجواء الباردة ، حفاظا على اعتدال المزاج، وطلبا للصحة، فأولى ثم أولى أن يفر من نار حامية، وأن يقي نفسه وأهله منها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم: 6].

تفر من الهجير وتتقيه *** فهلا من جهنم قد فررتا

ولست تطيق أهونها عذابا *** ولو كنت الحديد به لذبتا

جسمك بالحمية حصنته *** مخافة من ألم طاري

وكان أولى بك أن تحتمي *** من المعاصي خشية النار

حذاري حذاري -عباد الله-: من التفريط في أوامر الله، وإضاعة الصلاة، واتباع الشهوات، فهناك يوم الحر الأكبر، والوقوف الأعظم يوم يقوم الناس لرب العالمين.

فالحر هذه الأيام 40 يوما، لكن ذلك اليوم من أيام الآخرة كألف سنة مما تعدون، يقف الناس في على أقدامهم حفاة غرا غير مختونين عراة، غير لابسين، تدنو منهم الشمس، حتى تكون على مقدار ميل، ويلجمهم العرق، ويشتد الهول.

في ذلكم الموقف يفرح أهل الإيمان بما قدموا من صالح الأعمال.

جعلني الله وإياكم في ذلك اليوم من الآمنين، وممن يأخذ كتابه باليمين.

اللهم يا حي يا قيوم أجرنا وأهلنا وأزواجنا وذرياتنا من النار، وأدخلنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين.