أنواع الحياء

عناصر الخطبة

  1. من فضائل الحياء
  2. الهدي النبوي في الحياء
  3. من الحياء الممدوح والمأمور به
  4. من الحياء المذموم
  5. دعوة للتخلق بالحياء في معاملتنا كلها
اقتباس

الحياء خلق كريم، وهو مصدر الأخلاق والفضائل؛ إذ هو خلق ينهى العبد عما حرم الله عليه، ويمنعه من الوقوع في الرذائل من الأقوال والأفعال، وهذا الحياء له فضل كبير؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ”، وهو رأس الأخلاق كلها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “إن لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ”.

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.

فيا أيُّها النَّاس: اتَّقوا اللهَ -تعالى- حَقَّ التقوى.

عباد الله: الحياء خلق كريم، وهو مصدر الأخلاق والفضائل؛ إذ هو خلق ينهى العبد عما حرم الله عليه، ويمنعه من الوقوع في الرذائل من الأقوال والأفعال.

وهذا الحياء له فضل كبير؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ“، وهو رأس الأخلاق كلها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “إن لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ“.

وهذا الحياء له فضائل عدة؛ فمن فضائله: أنه صفة من صفات ربنا -جل وعلا-، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يغتسل في الصحراء، فخطب في الناس وقال: “إن الله حليم سِتّير يحب الستر والحياء، فإذا أراد أحدكم أن يغتسل فليستتر“.

وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد قضاء حاجته في الصحراء أبعد عن الناس، وكان يضع أمامه سترة يستتر بها عند قضاء الحاجة.

ومن فضائل الحياء: أنه صفة يحبها الله -جل وعلا-، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعَمِه عَلَيْهِ، وإن الله يكره البؤس والتباؤس، ويبغض الملحف في المسألة، ويحب الحَيِيَّ العفيف المتعفف“.

ومن فضائل الحياء: أنه خلق محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الله -جل وعلا- جبله على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]، يقول أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره الشيء عرف ذلك في وجهه“.

ومن فضائل الحياء: أنه مفتاح للخير، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ“، وأنه أيضًا مغلاق للشر، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاس مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ“، يقول الخطابي -رحمه الله-: “إن هذا الحديث خرج بمخرج الأمر، بمعنى أن من لم يستحْيِ فليعمل ما يشاء؛ لأنه لا رادع ولا مانع عنده إذا فقَد الحياء من أن يقارف أية جريمة وشنيعة من الأقوال والأفعال“.

ومن فضائل الحياء: أنه مفتاح للزينة، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ، وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شيءٍ إِلاَّ زَانَهُ“.

ومن فضائل الحياء: أنه من أسباب تنعم العبد بالظل يوم القيامة، يقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله: “ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله“.

ومن فضائله: أنه سبب لدخول الجنة، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ“.

وقد دلّ الكتاب والسنة على الترغيب في هذا الخلق الكريم، يقول الله -جل وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة:26]، فالله -جل وعلا- أخبر أنه لا يستحيي من ضرب مثل وإن كان حقيرًا إذا كان ضرب هذا المثل فيه منفعة وتوجيه للناس.

وقال -جل وعلا-: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف:26]، قال بعض المفسرين: إن لباس التقوى هو الحياء.

وأخبر -جل وعلا- في قصة موسى -عليه السلام-: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ [القصص:25]، يعني مغطية وجهها على حياء.

ومن ترغيب الإسلام في الحياء أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الحياء خلق متوارث منذ عهد الأنبياء -عليهم السلام-، يدعو له كل نبي: “إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاس مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ“، فقد جاءت به الأنبياء، فلم ينسخ كما نسخت شرائعهم، بل هو دائم ثابت.

أيُّها المسلم: ومن فضائل الحياء: أنه يقي الإنسان من المعاصي والشرور، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاهَا قول لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ“.

سمع النبي رجلاً يعظ أخاه في الحياء، فقال له: “دعه؛ فإن الحياء من الإيمان“، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “اسْتحْيُوا مَنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَياءِ“، قالوا: كيف ذلك يا رسولَ اللَّه؟! قال: “أنْ تَحْفَظ الرَّأْسَ ومَا وَعى، والْبَطْنَ ومَا حَوى، وأن تذْكرَ المَوتَ والبلى؛ وَمنْ أرادَ الآخِرَةَ تَرَك زِينَةَ الدُّنيا، فذلك الحياء من الله“.

أيُّها المسلم: إن الحياء ممدوح دائمًا إذا كان في الحق؛ فمن الحياء الممدوح والمأمور به حياؤك من ربك، حياؤك من خالقك ورازقك، تستحيي منه لعلمك أنه محيط بك، عالم بسرك وعلانيتك، يسمع كلامك، ويرى مكانك، ولا يخفى عليه شيء من أحوالك: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس:61].

وقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7]، ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة:6].

فمن تدبّر هذا المقام استحيا من ربه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره، وذلك من قوة الإيمان، نسأل الله التوفيق والسداد.

ومن الحياء استحياؤك من ملائكة الرحمن الموكلين بكتابة أعمالك وأقوالك، فإن الله -جل وعلا- وكَّل بكل إنسان ملَكين، يكتب هذا حسناته وهذا سيئاته، ملازمَين له؛ يقول الله -جل وعلا-: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)﴾ [الانفطار:10-12]، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، وفي الحديث: “إِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لاَ يُفَارِقُكُم إِلاَّ عِنْدَ الْغَائِطِ وَحِينَ يُفْضِى الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ“. فمن تدبر ذلك استحيا من الملكين أن يكتبا عنه سوءًا.

ومن الحياء الممدوح -أيها المسلم- حياؤك من الناس، من أن تمد إليهم لسانك بالسوء من غيبة ونميمة ووشاية وأقوال خاطئة، أو تؤذيهم بيدك “الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ“.

والحياء من الناس يحملك على كف الأذى عنهم، وأن لا تؤذي الناس، وأن لا تكون مصدر قلق لهم في أمورهم كلها، فتحترمهم وتعاملهم كما تحب أن يعاملوك.

ومن الحياء استحياؤك من نفسك في خلواتك؛ فلا تعمل سوءًا، سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَوْرَاتُنَا! مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟! قَالَ: “احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُكَ“، فَقَالَ: يا رسول الله: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ قومه! قَالَ: “إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ“، قال: الرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا. قَالَ: “فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْه من الناس“.

فخلق الحياء صاحب لك في مجتمعك، وفي بيتك، ومع أهلك، ومع زملائك، ومع الآخرين؛ حياء يبعدك عن الرذائل، ويحملك على الفضائل.

ومن الحياء أن تستحيي من أبويك الكريمين فتخاطبهما بكل لطف وخلق كريم وأقوال حميدة: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ [الإسراء:23].

ومن الحياء أن تستحيي من ضيفك فتكرمه ولا تجرح شعوره.

أيُّها المسلم: ولكن هناك أمورًا قد يذمّ فيها الحياء؛ كما إذا حمل الحياء العبد أن لا يسأل عن أمور دينه، وأن لا يستفسر عما أشكل عليه، فهذا حياء مذموم، والله يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:43، الأنبياء:7].

ولهذا جاء عن أم سلمة أن امرأة سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله: هل على المرأة من غسل إذا هي رأت الماء؟! قال: “نعم، إذا رأت الماء فلتغتسل“، قالت أم سلمة: وهل يكون ذلك؟! قال: “تربت يمينك! فأين يشبهها ولدها؟!“.

جاء أبو موسى الأشعري إلى أم المؤمنين عائشة فقال: يا أم المؤمنين: إني أريد أن أسألك سؤالاً وأستحيي أن أسأله. قالت: يا أبا موسى: “إنما أنا أمك؛ فاسألني“، قال: قلت: يا أم المؤمنين: ما يوجب الغسل؟! قالت: “على الخبير سقطت، إذا قعد بين شعبها الأربع، والتقى الختان بالختان، فقد وجب الغسل“.

هكذا الحياء الممدوح، وهكذا الحياء المذموم، فليكن حياؤنا حياءً في حدوده، لا حياء يمنع من الخير.

ومن الحياء المذموم: حياء يمنعك أن تأمر بمعروف وتنهى عن منكر؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق أهل الإسلام: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104]، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:110].

ومن الحياء المذموم: أن تترك واجبًا حياءً من الناس، أو تفعل محرمًا حياءً من الناس؛ فمن عباد الله من يترك الصلاة ويتهاون بالجماعة مجاراة لمن معه؛ فالواجبات لا يستهان بها؛ بل يجب أن تؤدى فرائض الإسلام، ولا يمنع عن أدائها حياء؛ بل هذا دليل على الخير كله.

ومن سوء الحياء: أن تفعل معصيةً مجاراة للجلساء، لا تفعل المعاصي ولا تنتهك حرمات الله مهما كان حال مَن معك. في الحديث: “إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا: اتَّقِ الله ودع عنك هذا فلا يحل لك! ثم يلقاه من الغد فيكون قعيده وأكيله وشريبه، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم لعنهم ﴿عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة:78]”.

أيُّها المسلم: ابتعد عن المعصية وعن أهلها حين مواقعتهم لها، وأشعرهم بأنك مخالف لهم وأنهم قد انتهكوا حرمات الله، ولا تشهد معصيتهم ولا تعنهم على باطلهم واهجرهم في الله، مبينًا لهم الخطأ الذي وقعوا فيه، انصحهم لله -جل وعلا-، ودع المجاملة والجلوس معهم وهم يرتكبون المنكرات والفواحش، فالله يقول: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ﴾ [النساء:140].

فالراضي بالمعصية، الساكت عن تغييرها، المجالس لأهلها وهم يمارسونها، شريك لهم في الإثم والعصيان؛ بل هو أعظم إثمًا؛ لأن تساهله وسكوته عنها يدل على عدم فراغ قلبه منها، وأنه لا يكرهها.

فلنتق الله في أنفسنا، ولنراقب الله في أحوالنا كلها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.

أما بعدُ:

فيا أيُّها النَّاس: اتَّقوا اللهَ -تعالى- حقَّ التقوى.

عباد الله: ليكن الحياء خلقًا لنا في تعاملنا مع ربنا ومع أنفسنا ومع مجتمعنا، وفي أحوالنا كلها.

أيُّها الزوج الكريم: يجب عليك أن تتخلق بالحياء بينك وبين امرأتك، فعالج المشاكل بينك وبينها بأدب واحترام، ومع أهلها، وإياك وقلةَ الحياء وسبّها والطعن فيها وفي أهلها! فكل هذا من قلة الحياء، حاول الإصلاح بينك وبينها بكل الطرق والوسائل الممكنة دون قلة حياء، وإذا تعذّر البقاء فالفراق خير من قلة الحياء وسوء التصرف.

أيّتها الزوجة الكريمة: اتقي الله وعالجي المشاكل مع زوجك بأدب واحترام، واحذري قلة الحياء والبذاءة التي لا خير فيها، والله يقول للزوجين: ﴿وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة:237]؛ فمن الأخطاء إشاعة الأسرار وقلة الحياء، والتحدث مع الآخَرين بالكذب والافتراء، كل هذا من قلة الحياء.

أيّها المسلم: ليكن الحياء مصاحبًا لك حتى مع خصومتك، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في أخلاق المنافق: “وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ“، فالمنافق إذا خاصم فجر في خصومته، وربما افترى الكذب، وربما كشف عن عيوبٍ ليضعف بها جانب المدعي، ويقلل من شأنه؛ فيكسب الدعوى، هذا لا يجوز.. خاصِمْ بأدب، وطالب بحقك بأدب، وإياك والبذاءةَ وقلة الحياء والطعن في الناس والشماتة بهم! فبعض الناس قد ينسحب عن الدعوى إذا كان خصمه بذيء اللسان، فاجرًا في أقواله، يقول الأباطيل، ويكذب، ويفتري؛ نسأل الله السلامة والعافية.

أيها الإخوة: قد نختلف في آرائنا العلمية وقضايانا الفكرية؛ فهل نتراشق بالتهم ويسب بعضنا بعضًا، ويحتقر بعضنا بعضًا؟! لا يا أخي؛ ليس هذا من خلق ديننا، حياؤنا يمنعنا من ذلك، حياؤنا يدعونا إلى أن نحترم الآخرين، عندما أقول وأبيّن خطأ هذا القول أبينه بأدب واحترام واتزان، والحياء يمنعني من القول السيئ، وعندما أنتقد فكرًا من الأفكار لا بد أن أكون صادقًا.. عندما أكتب أفكر فيما أكتب: هل كتابتي هي حق وإخلاص ومنفعة للأمة، أم كتابة تبرز شخصيتي وإن كان في هذا خلاف للحق والواقع؟ فليكن الحياء ملازمًا لنا في الأمور كلها.

أيها المربون والمربيات: اتقوا الله في تعليم الأبناء والبنات، علموا الجميع الحياء والخلق الفاضل، فإن هذا من أخلاق الإسلام.

أيها الإعلاميون.. رجال الإعلام ومُلاك القنوات الفضائية: ليتق الجميع ربهم فيما يعرضون وينشرون من مسلسلات وأفكار وأطروحات، لتكن هادفةً نافعةً موجهة؛ لا هابطة.

ومما يؤسف له أن بعض القنوات التي يملكها بعض أبناء المسلمين هابطة في أفكارها وفي أخلاقها؛ فليتق المسلمون ربهم، وليخافوا من سوء العاقبة؛ فإن نشر هذه الفضائح والدعوة إليها داخل في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النور:19].

أيها المسلم: إياك والتحدثَ بمعاصيك وسيئاتك وأخلاقك السيئة! إياك أن تنشر أخلاقك السيئة التي عملتها.. تب إلى الله منها واجعلها بينك وبينه -تعالى-؛ فإن من البلايا أن تتحدث عن معاصيك وأخطائك وسيئاتك متبجحًا بها.. يقول -صلى الله عليه وسلم-: “كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ ويُمَسِي وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ: عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا“.

كل هذا من قلة الحياء، وفيه دعوة للمعصية ونشر لها، نسأل الله لنا ولكم الثبات والاستقامة، إنه على كل شيء قدير.

واعلموا -رحمكم الله- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

وصَلُّوا -رحمكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم، قال -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].

اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد…