مكة

مكة


مَكَّةُ


بيت الله الحرام، قال بطليموس: طولها من جهة المغرب ثمان وسبعون درجة، وعرضها ثلاث وعشرون درجة، وقيل إحدى وعشرون، تحت نقطة السرطان، طالعها الثريّا، بيت حياتها الثور، وهي في الإقليم الثاني، أما اشتقاقها ففيه أقوال، قال أبو بكر بن الأنباري: سميت مكة لأنها تمكّ الجبّارين أي تذهب نخوتهم، ويقال إنما سميت مكة لازدحام الناس بها من قولهم: قد امتكّ الفصيل ضرع أمّه إذا مصه مصّا شديدا، وسميت بكة لازدحام الناس بها، قاله أبو عبيدة وأنشد:

إذا الشريب أخذته أكّهفخلّه حتى يبكّ بكّه

ويقال: مكة اسم المدينة وبكة اسم البيت، وقال آخرون: مكة هي بكة والميم بدل من الباء كما قالوا:
ما هذا بضربة لازب ولازم، وقال أبو القاسم: هذا الذي ذكره أبو بكر في مكة وفيها أقوال أخر نذكرها لك، قال الشرقيّ بن القطاميّ: إنما سميت مكة لأن العرب في الجاهلية كانت تقول لا يتم حجّنا حتى نأتي مكان الكعبة فنمكّ فيه أي نصفر صفير المكّاء حول الكعبة، وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها، والمكّاء، بتشديد الكاف: طائر يأوي الرياض، قال أعرابيّ ورد الحضر فرأى مكّاء يصيح فحنّ إلى بلاده فقال:

فاصعد إلى أرض المكاكي واجتنب ... قرى الشام لا تصبح وأنت مريضوالمكاء، بتخفيف الكاف والمد: الصفير، فكأنهم كانوا يحكون صوت المكّاء، ولو كان الصفير هو الغرض لم يكن مخفّفا، وقال قوم: سميت مكة لأنها بين جبلين مرتفعين عليها وهي في هبطة بمنزلة المكّوك، والمكوك عربيّ أو معرب قد تكلمت به العرب وجاء في أشعار الفصحاء، قال الأعشى:
ألا أيّها المكّاء ما لك ههناألاء ولا شيح فأين تبيض
والمكاكيّ والصّحاف من الفضّة والضامرات تحت الرحال

قال وأما قولهم: إنما سميت مكة لازدحام الناس فيها من قولهم: قد امتكّ الفصيل ما في ضرع أمه إذا مصّه مصّا شديدا فغلط في التأويل لا يشبّه مص الفصيل الناقة بازدحام الناس وإنما هما قولان: يقال سميت مكة لازدحام الناس فيها، ويقال أيضا: سميت مكة لأنها عبّدت الناس فيها فيأتونها من جميع الأطراف من قولهم: امتكّ الفصيل أخلاف الناقة إذا جذب جميع ما فيها جذبا شديدا فلم يبق فيها شيئا، وهذا قول أهل اللغة، وقال آخرون: سميت مكة لأنها لا يفجر بها أحد إلا بكّت عنقه فكان يصبح وقد التوت عنقه، وقال الشرقيّ: روي أن بكة اسم القرية ومكة مغزى بذي طوى لا يراه أحد ممن مرّ من أهل الشام والعراق واليمن والبصرة وإنما هي أبيات في أسفل ثنية ذي طوى، وقال آخرون: بكة موضع البيت وما حول البيت مكة، قال: وهذه خمسة أقوال في مكة غير ما ذكره ابن الأنباري، وقال عبيد الله الفقير إليه: ووجدت أنا أنها سمّيت مكة من مك الثدي أي مصه لقلة مائها لأنهم كانوا يمتكون الماء أي يستخرجونه، وقيل: إنها تمك الذنوب أي تذهب بها كما يمك الفصيل ضرع أمه فلا يبقي فيه شيئا، وقيل: سميت مكة لأنها تمك من ظلم أي تنقصه، وينشد قول بعضهم:

يا مكة الفاجر مكي مكّا،ولا تمكّي مذحجا وعكّا

وروي عن مغيرة بن إبراهيم قال: بكة موضع البيت وموضع القرية مكة، وقيل: إنما سميت بكة لأن الأقدام تبك بعضها بعضا، وعن يحيى بن أبي أنيسة قال: بكة موضع البيت ومكة هو الحرم كله، وقال زيد بن أسلم: بكة الكعبة والمسجد ومكة ذو طوى وهو بطن الوادي الذي ذكره الله تعالى في سورة الفتح، ولها أسماء غير ذلك، وهي: مكة وبكة والنسّاسة وأم رحم وأم القرى ومعاد والحاطمة لأنها تحطم من استخفّ بها، وسمّي البيت العتيق لأنه عتق من الجبابرة، والرأس لأنها مثل رأس الإنسان، والحرم وصلاح والبلد الأمين والعرش والقادس لأنها تقدس من الذنوب أي تطهر، والمقدسة والناسّة والباسّة، بالباء الموحدة، لأنها تبسّ أي تحطم الملحدين وقيل تخرجهم، وكوثى باسم بقعة كانت منزل بني عبد الدار، والمذهب في قول بشر بن أبي خازم:
وما ضمّ جياد المصلّى ومذهب
وسماها الله تعالى أم القرى فقال: لتنذر أم القرى ومن حولها، وسماها الله تعالى البلد الأمين في قوله تعالى: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين، وقال تعالى: لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ بهذا البلد، وقال تعالى: وليطّوّفوا بالبيت العتيق، وقال تعالى: جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ، 5: 97 وقال تعالى على لسان إبراهيم، عليه السّلام:
رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، 14: 35 وقال تعالى أيضا على لسان إبراهيم، عليه السلام: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ من ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِيزَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ 14: 37 (الآية) ، ولما خرج رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، من مكة وقف على الحزورة قال: إني لأعلم أنك أحبّ البلاد إليّ وأنك أحب أرض الله إلى الله ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت، وقالت عائشة، رضي الله عنها: لولا الهجرة لسكنت مكة فإني لم أر السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة ولم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة، وقال ابن أم مكتوم وهو آخذ بزمام ناقة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وهو يطوف:

يا حبّذا مكة من وادي،أرض بها أهلي وعوّادي
أرض بها ترسخ أوتادي،أرض بها أمشي بلا هادي

ولما قدم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، المدينة هو وأبو بكر وبلال فكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول:

كلّ امرئ مصبّح في أهله،والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا انقشعت عنه رفع عقيرته وقال:

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةبفخّ وعندي إذخر وجليل؟
وهل أردن يوما مياه مجنّة،وهل يبدون لي شامة وطفيل؟

اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من مكة! ووقف رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، عام الفتح على جمرة العقبة وقال:
والله إنك لخير أرض الله وإنك لأحب أرض الله إليّ ولو لم أخرج ما خرجت، إنها لم تحلّ لأحد كان قبلي ولا تحلّ لأحد كان بعدي وما أحلّت لي إلا ساعة من نهار ثم هي حرام لا يعضد شجرها ولا يحتش خلالها ولا تلتقط ضالتها إلا لمنشد، فقال رجل:
يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لبيوتنا وقبورنا، فقال، صلّى الله عليه وسلّم: إلا الإذخر، وقال، صلى الله عليه وسلم: من صبر على حرّ مكة ساعة تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام وتقربت منه الجنة مائتي عام، ووجد على حجر فيها كتاب فيه: أنا الله رب بكة الحرام وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزال أخشابها مبارك لأهلها في الحمإ والماء، ومن فضائله أنه من دخله كان آمنا ومن أحدث في غيره من البلدان حدثا ثم لجأ إليه فهو آمن إذا دخله فإذا خرج منه أقيمت عليه الحدود، ومن أحدث فيه حدثا أخذ بحدثه، وقوله تعالى: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا، وقوله: لتنذر أم القرى ومن حولها، دليل على فضلها على سائر البلاد، ومن شرفها أنها كانت لقاحا لا تدين لدين الملوك ولم يؤدّ أهلها إتاوة ولا ملكها ملك قط من سائر البلدان، تحج إليها ملوك حمير وكندة وغسان ولخم فيدينون للحمس من قريش ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم مفروضا وشرفا عندهم عظيما، وكان أهله آمنين يغزون الناس ولا يغزون ويسبون ولا يسبون ولم تسب قرشيّة قط فتوطأ قهرا ولا يجال عليها السّهام، وقد ذكر عزهم وفضلهم الشعراء فقال بعضهم:

وقال الزّبر قان بن بدر لرجل من بني عوف كان قد هجا أبا جهل وتناول قريشا:
أبوا دين الملوك فهم لقاحإذا هيجوا إلى حرب أجابوا
أتدري من هجوت أبا حبيبسليل خضارم سكنوا البطاحا
أزاد الركب تذكر أم هشاماوبيت الله والبلد اللّقاحا؟

وقال حرب بن أميّة ودعا الحضرميّ إلى نزول مكة وكان الحضرمي قد حالف بني نفاثة وهم حلفاء حرب ابن أميّة وأراد الحضرمي أن ينزل خارجا من الحرم وكان يكنّى أبا مطر فقال حرب:

أبا مطر هلمّ إلى الصلاحفيكفيك الندامى من قريش
وتنزل بلدة عزّت قديما،وتأمن أن يزورك ربّ جيش
فتأمن وسطهم وتعيش فيهم،أبا مطر هديت، بخير عيش

ألا ترى كيف يؤمّنه إذا كان بمكة؟ ومما زاد في فضلها وفضل أهلها ومباينتهم العرب أنهم كانوا حلفاء متألفين ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم، عليه السلام، ولم يكونوا كالأعراب الأجلاف ولا كمن لا يوقره دين ولا يزينه أدب، وكانوا يختنون أولادهم ويحجون البيت ويقيمون المناسك ويكفنون موتاهم ويغتسلون من الجنابة، وتبرأوا من الهربذة وتباعدوا في المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت غيرة وبعدا من المجوسية، ونزل القرآن بتوكيد صنيعهم وحسن اختيارهم، وكانوا يتزوجون بالصداق والشهود ويطلّقون ثلاثا ولذلك قال عبد الله بن عباس وقد سأله رجل عن طلاق العرب فقال: كان الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم هو أحق بها فإن طلّقها ثنتين فهو أحق بها أيضا فإن طلقها ثلاثا فلا سبيل له إليها، ولذلك قال الأعشى:

أيا جارتي بيني فإنك طالقه،كذاك أمور الناس غاد وطارقه
وبيني فقد فارقت غير ذميمة،وموموقة منّا كما أنت وامقه
وبيني فإنّ البين خير من العصاوأن لا تري لي فوق رأسك بارقه

ومما زاد في شرفهم أنهم كانوا يتزوجون في أي القبائل شاءوا ولا شرط عليهم في ذلك ولا يزوجون أحدا حتى يشرطوا عليه بأن يكون متحمسا على دينهم يرون أن ذلك لا يحلّ لهم ولا يجوز لشرفهم حتى يدين لهم وينتقل إليهم، والتّحمّس: التشدّد في الدين، ورجل أحمس أي شجاع، فحمّسوا خزاعة ودانت لهم إذ كانت في الحرم وحمّسوا كنانة وجديلة قيس وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس بن عيلان وثقيفا لأنهم سكنوا الحرم وعامر بن صعصعة وإن لم يكونوا من ساكني الحرم فإن أمّهم قرشية وهي مجد بنت تيم بن مرّة، وكان من سنّة الحمس أن لا يخرجوا أيام الموسم إلى عرفات إنما يقفون بالمزدلفة، وكانوا لا يسلأون ولا يأقطون ولا يرتبطون عنزا ولا بقرة ولا يغزلون صوفا ولا وبرا ولا يدخلون بيتا من الشّعر والمدر وإنما يكتنّون بالقباب الحمر في الأشهر الحرم ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحلّ إذا دخلوا الحرم وأن يخلّوا ثياب الحل ويستبدلوها بثياب الحرم إما شرى وإما عارية وإما هبة فإن وجدوا ذلك وإلا طافوا بالبيت عرايا وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك إلا أن المرأة كانت تطوف في درع مفرّج المقاديم والمآخير، قالت امرأة وهي تطوف بالبيت:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه، ... وما بدا منه فلا أحلّهأخثم مثل القعب باد ظلّه ... كأنّ حمّى خيبر تملّه
وكلفوا العرب أن تفيض من مزدلفة وقد كانت تفيض من عرفة أيام كان الملك في جرهم وخزاعة وصدرا من أيام قريش، فلولا أنهم أمنع حيّ من العرب لما أقرّتهم العرب على هذا العزّ والإمارة مع نخوة العرب في إبائها كما أجلى قصيّ خزاعة وخزاعة جرهما، فلم تكن عيشتهم عيشة العرب، يهتبدون الهبيد ويأكلون الحشرات وهم الذين هشموا الثريد حتى قال فيهم الشاعر:

عمرو العلى هشم الثريد لقومه،ورجال مكة مسنتون عجاف

حتى سمي هاشما، وهذا عبد الله بن جدعان التيمي يطعم الرّغو والعسل والسمن ولبّ البرّ حتى قال فيه أمية بن أبي الصّلت:

له داع بمكة مشمعلّ،وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشّيزى ملاءلباب البرّ يلبك بالشّهاد

وأول من عمل الحريرة سويد بن هرميّ، ولذلك قال الشاعر لبني مخزوم:

وعلمتم أكل الحرير وأنتمأعلى عداة الدهر جدّ صلاب

والحريرة: أن تنصب القدر بلحم يقطّع صغارا على ماء كثير فإذا نضج ذرّ عليه الدقيق فإن لم يكن لحم فهو عصيدة وقيل غير ذلك، وفضائل قريش كثيرة وليس كتابي بصددها، ولقد بلغ من تعظيم العرب لمكة أنهم كانوا يحجّون البيت ويعتمرون ويطوفون فإذا أرادوا الانصراف أخذ الرجل منهم حجرا من حجارة الحرم فنحته على صورة أصنام البيت فيحفى به في طريقه ويجعله قبلة ويطوفون حوله ويتمسحون به ويصلّون له تشبيها له بأصنام البيت، وأفضى بهم الأمر بعد طول المدة أنهم كانوا يأخذون الحجر من الحرم فيعبدونه فذلك كان أصل عبادة العرب للحجارة في منازلهم شغفا منهم بأصنام الحرم، وقد ذكرت كثيرا من فضائلها في ترجمة الحرم والكعبة فأغنى عن الإعادة، وأما رؤساء مكة فقد ذكرناهم في كتابنا المبدإ والمآل وأعيد ذكرهم ههنا لأن هذا الموضع مفتقر إلى ذلك، قال أهل الإتقان من أهل السير: إن إبراهيم الخليل لما حمل ابنه إسماعيل، عليهما السلام، إلى مكة، كما ذكرنا في باب الكعبة من هذا الكتاب، جاءت جرهم وقطوراء وهما قبيلتان من اليمن وهما ابنا عمّ وهما جرهم بن عامر بن سبإ بن يقطن بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، عليه السّلام، وقطوراء، فرأيا بلدا ذا ماء وشجر فنزلا ونكح إسماعيل في جرهم، فلما توفي ولي البيت بعده نابت بن إسماعيل وهو أكبر ولده ثم ولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي خال ولد إسماعيل ما شاء الله أن يليه ثم تنافست جرهم وقطوراء في الملك وتداعوا للحرب فخرجت جرهم من قعيقعان وهي أعلى مكة وعليهم مضاض ابن عمرو، وخرجت قطوراء من أجياد وهي أسفل مكة وعليهم السّميدع، فالتقوا بفاضح واقتتلوا قتالا شديدا فقتل السميدع وانهزمت قطوراء فسمي الموضع فاضحا لأن قطوراء افتضحت فيه، وسميت أجياد أجيادا لما كان معهم من جياد الخيل، وسميت فعيقعان لقعقعة السلاح، ثم تداعوا إلى الصلح واجتمعوا في الشعب وطبخوا القدور فسمي المطابخ، قالوا: ونشر الله ولد إسماعيل فكثروا وربلوا ثم انتشروا في البلاد لا يناوئون قوما إلا ظهروا عليهم بدينهم، ثم إن جرهمابغوا بمكة فاستحلّوا حراما من الحرمة فظلموا من دخلها وأكلوا مال الكعبة وكانت مكة تسمى النّسّاسة لا تقرّ ظلما ولا بغيا ولا يبغي فيها أحد على أحد إلا أخرجته فكان بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة بن غسان وخزاعة حلولا حول مكة فآذنوهم بالقتال فاقتتلوا فجعل الحارث بن عمرو بن مضاض الأصغر يقول:

لا همّ إنّ جرهما عبادك،الناس طرف وهم تلادك

فغلبتهم خزاعة على مكة ونفتهم عنها، ففي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض الأصغر:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفاأنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولم يتربّع واسطا فجنوبهإلى السرّ من وادي الأراكة حاضر
بلى، نحن كنّا أهلها فأبادناصروف الليالي والجدود العواثر
وأبدلنا ربي بها دار غربةبها الجوع باد والعدوّ المحاصر
وكنّا ولاة البيت من بعد نابتنطوف بباب البيت والخير ظاهر
فأخرجنا منها المليك بقدرة،كذلك ما بالناس تجري المقادر
فصرنا أحاديثا وكنا بغبطة،كذلك عضّتنا السنون الغوابر
وبدّلنا كعب بها دار غربةبها الذئب يعوي والعدوّ المكاثر
فسحّت دموع العين تجري لبلدةبها حرم أمن وفيها المشاعر

ثم وليت خزاعة البيت ثلاثمائة سنة يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشيّة بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة وهو خزاعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء الخزاعي وقريش إذ ذاك هم صريح ولد إسماعيل حلول وصرم وبيوتات متفرقة حوالي الحرم إلى أن أدرك قصيّ بن كلاب بن مرّة وتزوّج حبّى بنت حليل بن حبشية وولدت بنيه الأربعة وكثر ولده وعظم شرفه ثم هلك حليل بن حبشيّة وأوصى إلى ابنه المحترش أن يكون خازنا للبيت وأشرك معه غبشان الملكاني وكان إذا غاب أحجب هذا حتى هلك الملكاني، فيقال إن قصيّا سقى المحترش الخمر وخدعه حتى اشترى البيت منه بدنّ خمر وأشهد عليه وأخرجه من البيت وتملّك حجابته وصار ربّ الحكم فيه، فقصيّ أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل وذلك في أيام المنذر ابن النعمان على الحيرة والملك لبهرام جور في الفرس، فجعل قصي مكة أرباعا وبنى بها دار النّدوة فلا تزوّج امرأة إلا في دار الندوة ولا يعقد لواء ولا يعذر غلام ولا تدرّع جارية إلا فيها، وسميت الندوة لأنهم كانوا ينتدون فيها للخير والشر فكانت قريش تؤدّي الرفادة إلى قصي وهو خرج يخرجونه من أموالهم يترافدون فيه فيصنع طعاما وشرابا للحاج أيام الموسم، وكانت قبيلة من جرهم اسمها صوفة بقيت بمكة تلي الإجازة بالناس من عرفة مدة، وفيهم يقول الشاعر:

ثم أخذتها منهم خزاعة وأجازوا مدة ثم غلبهم عليها بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان وصارت إلى رجل منهم يقال له أبو سيّارة أحد بني سعد بن وابش ابن زيد بن عدوان، وله يقول الراجز:
ولا يريمون في التعريف موقعهمحتى يقال أجيزوا آل صوفانا
خلّوا السبيل عن أبي سيّارهوعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز سالما حمارهمستقبل الكعبة يدعو جاره

وكانت صورة الإجازة أن يتقدمّهم أبو سيّارة على حماره ثم يخطبهم فيقول: اللهمّ أصلح بين نسائنا وعاد بين رعائنا واجعل المال في سمحائنا، وأوفوا بعهدكم وأكرموا جاركم واقروا ضيفكم، ثم يقول: أشرق ثبير كيما نغير، ثم ينفذ ويتبعه الناس، فلما قوي أمر قصيّ أتى أبا سيّارة وقومه فمنعه من الإجازة وقاتلهم عليها فهزمهم فصار إلى قصيّ البيت والرفادة والسقاية والندوة واللواء، فلما كبر قصيّ ورقّ عظمه جعل الأمر في ذلك كله إلى ابنه عبد الدار لأنه أكبر ولده وهلك قصيّ وبقيت قريش على ذلك زمانا، ثم إن عبد مناف رأى في نفسه وولده من النباهة والفضل ما دلّهم على أنهم أحق من عبد الدار بالأمر، فأجمعوا على أخذ ما بأيديهم وهمّوا بالقتال فمشى الأكابر بينهم وتداعوا إلى الصلح على أن يكون لعبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، وتعاقدوا على ذلك حلفا مؤكّدا لا ينقضونه ما بلّ بحر صوفة، فأخرجت بنو عبد مناف ومن تابعهم من قريش وهم بنو الحارث بن فهر وأسد بن عبد العزّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرّة جفنة مملوءة طيبا وغمسوا فيها أيديهم ومسحوا بها الكعبة توكيدا على أنفسهم فسمّوا المطيبين، وأخرجت بنو عبد الدار ومن تابعهم وهم مخزوم بن يقظة وجمح وسهم وعدي بن كعب جفنة مملوءة دما وغمسوا فيها أيديهم ومسحوا بها الكعبة فسمّوا الأحلاف ولعقة الدم ولم يل الخلافة منهم غير عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، والباقون من المطيّبين فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام وقريش على ذلك حتى فتح النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مكة في سنة ثمان للهجرة فأقرّ المفتاح في يد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى ابن عثمان بن عبد الدار وكان النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أخذ المفاتيح منه عام الفتح فأنزلت: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، فاستدعاه ورد المفاتيح إليه وأقر السقاية في يد العباس فهي في أيديهم إلى الآن، وهذا هو كاف من هذا البحث، وأما صفتها، يعني مكة، فهي مدينة في واد والجبال مشرفة عليها من جميع النواحي محيطة حول الكعبة، وبناؤها من حجارة سود وبيض ملس وعلوها آجرّ كثيرة الأجنحة من خشب الساج وهي طبقات لطيفة مبيّضة، حارّة في الصيف إلا أن ليلها طيّب وقد رفع الله عن أهلها مؤونة الاستدفاء وأراحهم من كلف الاصطلاء، وكل ما نزل عن المسجد الحرام يسمونه المسفلة وما ارتفع عنه يسمونه المعلاة، وعرضها سعة الوادي، والمسجد في ثلثي البلد إلى المسفلة والكعبة في وسط المسجد، وليس بمكة ماء جار ومياهها من السماء، وليست لهم آبار يشربون منها وأطيبها بئر زمزم ولا يمكن الإدمان على شربها، وليس بجميع مكة شجر مثمر إلا شجر البادية فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار وحوائط كثيرة وأودية ذات خضر ومزارع ونخيل وأما الحرم فليس به شجر مثمر إلا نخيل يسيرة متفرقة، وأما المسافات فمن الكوفة إلى مكة سبع وعشرون مرحلة وكذلك من البصرة إليها ونقصان يومين، ومن دمشق إلى مكة شهر، ومن عدن إلى مكة شهر، وله طريقان أحدهما على ساحل البحر وهو أبعد والآخر يأخذ على طريق صنعاء وصعدة ونجران والطائف حتى ينتهي إلى مكة، ولها طريق آخر على البوادي وتهامة وهو أقرب من الطريقين المذكورين أولا على أنها على أحياءالعرب في بواديها ومخالفها لا يسلكها إلا الخواصّ منهم، وأما أهل حضرموت ومهرة فإنهم يقطعون عرض بلادهم حتى يتصلوا بالجادّة التي بين عدن ومكة، والمسافة بينهم إلى الأمصار بهذه الجادة من نحو الشهر إلى الخمسين يوما، وأما طريق عمان إلى مكة فهو مثل طريق دمشق صعب السلوك من البوادي والبراري القفر القليلة السكان وإنما طريقهم في البحر إلى جدّة فإن سلكوا على السواحل من مهرة وحضرموت إلى عدن بعد عليهم وقلّ ما يسلكونه، وكذلك ما بين عمان والبحرين فطريق شاقّ يصعب سلوكه لتمانع العرب فيما بينهم فيه.

مكة


هي البلد الأمين الذي شرفه الله تعالى وعظمه وخصه بالقسم وبدعاء الخليل، عليه السلام: رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات. واجعله مثابة للناس، وأمناً للخائف، وقبلةً للعباد، ومنشأ لرسول الله، صلى الله عليه وسلم. وعن رسول الله، عليه السلام: من صبر على حر مكة ساعة تباعدت عنه جهنم مسيرة عام، وتقربت منه الجنة مائتي عام! إنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كان بعدي، وما أحلت لي إلا ساعة من نهار، ثم هي حرام لا يعضد شجرها ويحتش خلاها ولا يلتقط ضالتها إلا لمنشد.
وعن ابن عباس: ما أعلم على الأرض مدينة يرفع فيها حسنة مائةً إلا مكة، ويكتب لمن صلى ركعة مائة ركعة إلا مكة، ويكتب لمن نظر إلى بعض بنيانها عبادة الدهر إلا مكة، ويكتب لمن يتصدق بدرهم ألف درهم إلا مكة!وهي مدينة في واد والجبال مشرفة عليها من جوانبها، وبناؤها حجارة سود ملس وبيض أيضاً. وهي طبقات مبيضة نظيفة حارة في الصيف جداً، إلا أن ليلها طيب وعرضها سعة الوادي وماؤها من السماء، ليس بها نهر ولا بئر يشرب ماؤها، وليس بجميع مكة شجر مثمر، فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار ومزارع ونخيل، وميرتها تحمل إليها من غيرها بدعاء الخليل، عليه السلام: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع، إلى قوله من الثمرات.
وأما الحرم فله حدود مضروبة بالمنار قديمة، بينها الخليل، عليه السلام، وحده عشرة أميال في مسيرة يوم، وما زالت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام. فلما بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقر قريشاً على ما عرفوه، فما كان دون المنار لا يحل صيده ولا يختلى خشيشه، ولا يقطع شجره ولا ينفر طيره، ولا يترك الكافر فيه. ومن عجيب خواص الحرم ان الذئب يتبع الظبي، فإذا دخل الحرم كف عنه! وأما المسجد الحرام فأول من بناه عمر بن الخطاب في ولايته، والناس ضيقوا على الكعبة، وألصقوا دورهم بها فقال عمر: إن الكعبة بيت الله ولا بد لها من فناء. فاشترى تلك الدور وزادها فيه واتخذ للمسجد جداراً نحو القامة، ثم زاد عثمان فيه، ثم زاد عبد الله بن الزبير في اتقانه، وجعل فيها عمداً من الرخام وزاد في أبوابه وحسنه. ثم زاد عبد الملك بن مروان في ارتفاع حيطانها وحمل السواري إليها من مصر في الماء إلى جدة، ومن جدة إلى مكة على العجل، وأمر الحجاج فكساها الديباج، ثم الوليد بن عبد الملك زاد في حلى البيت لما فتح بلاد الأندلس، فوجد بطليطلة مائدة سليمان، عليه السلام، كانت من ذهب ولها أطواق من الياقوت والزبرجد، فضرب منها حلى الكعبة والميزاب، فالأولى المنصور وابنه المهدي زادوا في اتقان المسجد وتحسين هيئته، والآن طول المسجد الحرام ثلاثمائة ذراع وسبعون ذراعاً، وعرضه ثلاثمائة ذراع وخمس عشرة ذراعاً، وجميع أعمدة المسجد أربعمائة وأربعة وثلاثونعموداً، وأما الكعبة زادها الله شرفاً فإنها بيت الله الحرام. إن أول ما خلق الله تعالى في الأرض مكان الكعبة، ثم دحا الأرض من تحتها، فهي سرة الأرض ووسط الدنيا وأم القرى؛ قال وهب: لما أهبط آدم، عليه السلام، من الجنة حزن واشتد بكاؤه، فعزاه الله بخيمة من خيامها وجعلها موضع الكعبة، وكانت ياقوتة حمراء، وقيل درة مجوفة من جواهر الجنة، ثم رفعت بموت آدم، عليه السلام، فجعل بنوه مكانها بيتاً من حجارة فهدم بالطوفان وبقي على ذلك ألفي سنة، حتى أمر الله تعالى خليله ببنائه، فجاءت السكينة كأنها سحابة فيها رأس يتكلم، فبنى الخليل وإسمعيل، عليهما السلام، على ما ظللته.
وأما صفة الكعبة فإنها في وسط المسجد مربع الشكل، بابه مرتفع على الأرض قدر قامة، عليه مصراعان ملبسان بصفائح الفضة طليت بالذهب، وطول الكعبة أربعة وعشرون ذراعاً وشبر، وعرضها ثلاثة وعشرون ذراعاً وشبر، وذرع دور الحجر خمسة وعشرون ذراعاً، وارتفاع الكعبة سبعة وعشرون ذراعاً.
والحجر من جهة الشام يصب فيه الميزاب، وقد ألبست حيطان الحجر مع أرضه الرخام، وارتفاعه حقو، وحول البيت شاذروان مجصص ارتفاعه ذراع في عرض مثله، وقاية للبيت من السيل. والباب في وجهها الشرقي على قدر قامة من الأرض، طوله ستة أذرع وعشر أصابع، وعرضه ثلاثة أذرع وثماني عشرة إصبعاً. والحجر الأسود على رأس صخرتين، وقد نحت من الصخر مقدار ما دخل فيه الحجر. والحجر الأسود حالك على الركن الشرقي عند الباب في الزاوية، وهو على مقدار رأس إنسان، وذكر بعض المكيين حديثاً رفعوا على مشايخهم انهم نظروا إلى الحجر الأسود عند عمارة ابن الزبير البيت، فقدروا طوله ثلاثة أذرع وهو ناصع البياض إلا وجهه الظاهر، وارتفاع الحجر من الأرض ذراعان وثلث ذراع، وما بين الحجر والباب الملتزم، سمي بذلك لالتزامه الدعاء. كانت العرب في الجاهلية تتحالف هناك، فمن دعا على ظالمهناك أو حلف اثماً عجلت عقوبته، وداخل البيت في الحائط الغربي الجزعة، على ستة أذرع من قاع البيت، وهي سوداء مخططة ببياض طولها اثنا عشر في مثل ذلك، وحولها طوق من ذهب عرضه ثلاث أصابع، ذكر أن النبي، عليه السلام، جعلها على حاجبه الأيمن.
والميزاب متوسط على جدار الكعبة بارز عنه قدر أربعة أذرع، وسعته وارتفاع حيطانه كل واحد ثماني أصابع، وباطنه صفائح الذهب، والبيت مستر بالديباج ظاهره وباطنه، ويجدد لباسه كل سنة عند الموسم. فإذا كثرت الكسوة خفف عنه وأخذها سدنة البيت، وهم بنو شيبة. وهذه صفة الكعبة والمسجد الحرام حولها، ومكة حول المسجد، والحرم حول مكة، والأرض حول الحرم هكذا.روي عن النبي، عليه السلام، ان الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف، فإن نقصوا كملهم بالملائكة، وان الكعبة كالعروس المزفوفة، وكل من حجها متعلق بأستارها يسعون معها حتى تدخل الجنة فيدخلون معها.
وعن علي: ان الله تعالى قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فغضب عليهم وأعرض عنهم. فطافوا بعرش الله سبعاً كما يطوف الناس بالبيت اليوم يسترضونه، يقولون: لبيك اللهم لبيك! ربنا معذرة إليك! نستغفرك ونتوب إليك! فرضي عنهم وقال: ابنوا في الأرض بيتاً يطوف به عبادي، من غضبت عليه أرضى عنه كما رضيت عنكم.
وأما خصائص البيت وعجائبه فإن أبرهة بن الصباح قصده وأراد هدمه، فأهلكه الله تعالى بطير أبابيل. وذكر أن اساف بن عمرو ونائلة بنت سهيل زنيا في الكعبة، فمسخهما الله تعالى حجرين نصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة ليعتبر بهما الناس. فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام، عبدا معها إلى أن كسرهما رسول الله فيهما كسر من الأصنام.
ومن عجائب البيت أن لا يسقط عليه حمام إلا إذا كان عليلاً، وإذا حاذى الكعبة عرقة من طير تفرقت فرقتين ولم يعلها طائر منها. وإذا أصاب المطر أحد جوانبها يكون الخصب في تلك السنة في ذلك الجانب، فإذا عم المطر جميع الجوانب عم الخصب جميع الجوانب، ومن سنة أهل مكة ان من علا الكعبة من عبيدهم يعتقونه، وفي مكة من الصلحاء من لم يدخل الكعبة تعظيماً لها.
وعن يزيد بن معاوية: ان الكعبة كانت على بناء الخليل، عليه السلام، إلى أن بلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، خمساً وثلاثين سنة، فجاءها سيل عظيم هدمها، فاستأنفوا عمارتها، وقريش ما وجدوا عندهم مالاً لعمارة الكعبة إلى أن رمى البحر بسفينة إلى جدة، فتحطمت فأخذوا خشبها واستعانوابها على عمارتها، فلما انتهوا إلى موضع الركن اختصموا وأراد كل قوم أن يكونوا هم الذين يضعونه في موضعه، وتفاقم الأمر بينهم حتى تناصفوا على أن يجعلوا ذلك لأول طالع، فطلع عليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فاحتكموا إليه فقال: هلموا ثوباً! فأتي به فوضع الركن فيه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ففعلوا ذلك حتى إذا رفعوه إلى موضعه أخذ النبي، عليه السلام، الحجر بيده ووضع في الركن.
وعن عائشة قالت: سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الحجر أمن البيت هو؟ قال: نعم. قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ فقال، صلى الله عليه وسلم: إن قومك قصرت بهم النفقة. قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعلوا ذلك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية أخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت اني أدخل الحجر في البيت. فأدخل عبد الله بن الزبير عشرة من الصحابة حتى سمعوا منها ذلك، ثم هدم البيت وبناها على ما حكت عائشة. فلما قتل الحجاج ابن الزبير ردها على ما كان، وأخذ بقية الأحجار وسد بها الغربي ورصف الباقي في البيت، فهي الآن على بناء الحجاج.
وأما الحجر الأسود فجاء في الخبر انه ياقوتة من يواقيت الجنة، وانه يبعث يوم القيامة وله عينان ولسان يشهد لمن استلمه بحق وصدق.
روي أن عمر بن الخطاب قبله وبكى حتى علا نشيجه، فالتفت فرأى علياً فقال: يا أبا الحسن ههنا تسكب العبرات، واعلم انه حجر لا يضر ولا ينفع! ولولا اني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقبله ما قبلته! فقال علي: بلى هو يضر وينفع يا عمر، لأن الله تعالى لما أخذ الميثاق على الذرية كتب عليهم كتاباً وألقمه هذا الحجر، فهو يشهد للمؤمن بالوفاء وعلى الكافر بالجحود، وذلك قول الناس عند الاستلام: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاءً بعهدك.قال عبد الله بن عباس: ليس في الأرض شيء من الجنة إلا الركن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة ولولا مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى. ولم يزل هذا الحجر محترماً في الجاهلية والإسلام يقبلونه إلى أن دخلت القرامطة مكة سنة سبع عشرة وثلاثمائة عنوة، فنهبوها وقتلوا الحجاج وأخذوا سلب البيت وقلعوا الحجر الأسود، وحملوه إلى الاحساء من أرض البحرين حتى توسط فيه الشريف أبو علي عمر بن يحيى العلوي، بين الخليفة المطيع لله وبين القرامطة، سنة خمس وثلاثين فأخذوا مالاً عظيماً وردوه. فجاءوا به إلى الكوفة وعلقوه على الأسطوانة السابعة من أساطين الجامع ثم حملوه على مكانه.
وحكي أن رجلاً من القرامطة قال لبعض علماء الكوفة وقد رآه يقبل الحجر ويتمسح به: ما يؤمنكم انا غيبنا ذلك الحجر وجئنا بمثله؟ فقال: ان لنا فيه علامةً وهي انا إذا طرحناه في الماء يطفو، فجاءوا بماء وألقي فيه فطفا.
وأما المقام فإنه الحجر الذي وقف عليه الخليل، عليه السلام، حين أذن في الناس بالحج. وذرع المقام ذراع وهو مربع سعة أعلاه أربع عشرة إصبعاً في مثلها، ومن أسفله مثل ذلك، وفي طرفيه طوق من ذهب وما بين الطرفين بارز لا ذهب عليه، طوله من نواحيه كلها تسع أصابع وعرضه عشر أصابع، وعرضه من نواحيه إحدى وعشرون إصبعاً، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع، وبين القدمين من الحجر إصبعان، ووسطه قد استدق من التمسح. وهو في حوض مربع حوله رصاص، وعليه صندوق ساج، في طرفه سلسلتان يقفل عليهما قفلان.
قال عبد الله بن شعيب بن شيبة: ذهبنا نرفع المقام في عهد المهدي فانثلم وهو حجر رخو، فخشينا أن يتفتت، فكتبنا به إلى المهدي فبعث إلينا ألف دينار فصببناها في أسفله وأعلاه، وهو الذي عليه اليوم.
وبها جبل أبي قبيس، وهو جبل مطل على مكة تزعم العوام ان من أكلعليه الرأس المشوي يأمن من وجع الرأس، وكثير من الناس يفعلون ذلك، والله أعلم بصحته.
وبها الصفا والمروة وهما جبلان ببطحاء مكة. قيل: ان الصفا اسم رجل والمروة اسم امرأة زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجراً، فوضعا كل واحد على الجبل المسمى باسمه لاعتبار الناس. وجاء في الحديث: ان الدابة التي هي من اشراط الساعة تخرج من الصفا، وكان عبد الله بن عباس يضرب عصاه على الصفا ويقول: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذا.
والواقف على الصفا يكون بحذاء الحجر الأسود، والمروة تقابل الصفا.
وبها جبل ثور أطحل، وهو جبل مبارك بقرب مكة، يقصده الناس لزيارة الغار الذي كان فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، مع أبي بكر، حين خرج من مكة مهاجراً. وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز: إذ أخرجه الذين كفروا الآية يزوره الناس متبركين به.
وبها ثبير، وهو جبل عظيم بقرب منى، يقصده الناس زائرين متبركين به لأنه أهبط عليه الكبش الذي جعله الله فداء لإسمعيل، عليه السلام، وكان قرنه معلقاً على باب الكعبة إلى وقت الغرق قبل المبعث بخمس سنين. رآه كثير من الصحابة ثم ضاع بخراب الكعبة بالغرق. وتقول العرب: أشرق ثبير كيما نغير، إذا أرادوا استعجال الفجر.
وبها جبل حراء وهو جبل مبارك على ثلاثة أميال من مكة، يقصده الناس زائرين. وكان النبي، عليه السلام، قبل أن يأتيه الوحي حبب إليه الخلوة، وكان يأتي غاراً فيه. وأتاه جبرائيل، عليه السلام، في ذلك الغار، وذكر ان النبي، صلى الله عليه وسلم، ارتقى ذروته ومعه نفر من أصحابه فتحرك فقال عليه السلام: اسكن حرا فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد! فسكن.
وبها قدقد، وهو من الجبال التي لا يوصل إلى ذروتها، وفيه معدن البرام يحمل إلى سائر بلاد الدنيا.وبها بئر زمزم وهي البئر المشهورة المباركة بقرب الكعبة؛ قال مجاهد: ماء زمزم إن شربت منه تريد شفاءً شفاك الله، وان شربته لظمإ أرواك الله، وان شربته لجوع أشبعك الله.
قال محمد بن أحمد الهمذاني: كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها أربعين ذراعاً، وفي قعرها ثلاث عيون: عين حذاء الركن الأسود، وأخرى حذاء أبي قبيس، وقل ماؤها في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، فحفروا فيها تسعة أذرع فزاد ماؤها، ثم جاء الله تعالى بالأمطار والسيول في سنة خمس وعشرين ومائتين فكثر ماؤها، وذرعها من رأسها إلى الجبل المنقور فيه إحدى عشرة ذراعاً وهو مطوي، والباقي وهو تسع وعشرون ذراعاً منقور في الحجر، وذرع تدويرها إحدى عشرة ذراعاً، وسعة فمها ثلاث أذرع وثلثا ذراع، وعليها ميلان ساج مربعة فيها اثنتا عشرة بكرة يستقى عليها. وأول من عمل الرخام عليها وفرش به أرضها المنصور. وعلى زمزم قبة مبنية في وسط الحرم عند باب الطواف تجاه باب الكعبة.
في الخبر: ان الخليل، عليه السلام، ترك إسمعيل وأمه عند الكعبة وكر راجعاً. قالت له هاجر: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: حسبنا الله! فأقامت عند ولدها حتى نفد ماؤها فأدركتها الحنة على ولدها، فتركت إسمعيل بموضعه وارتقت إلى الصفا تنظر هل ترى عيناً أو شخصاً، فلم تر شيئاً فدعت ربها واستسقته، ثم نزلت حتى أتت المروة ففعلت مثل ذلك، ثم سمعت صوت السباع فخشيت على ولدها، فأسرعت نحو إسمعيل فوجدته يفحص الماء من عين قد انفجرت من تحت خده، وقيل بل من تحت عقبه، فلما رأت هاجر الماء يسري جعلت تحوطه بالتراب لئلا يسيل، قيل: لو لم تفعل ذلك لكان عيناً جارية. قالوا: وتطاولت الأيام على ذلك حتى عفتها السيول والأمطار ولم يبق لها أثر.
وعن علي، كرم الله وجهه: ان عبد المطلب بينا هو نائم في الحجر إذأمر بحفر زمزم. قال: وما زمزم؟ قالوا: لا تنزف ولا تهدم يسقي الحجيج الأعظم عند نقرة الغراب الأعصم. فغدا عبد المطلب ومعه الحرث ابنه، فوجد الغراب ينقر بين أساف ونائلة، فحفر هناك، فلما بدا الطي كبر، فاستشركه قريش وقالوا: انه بئر أبينا إسمعيل ولنا فيه حق! فتحاكموا إلى كاهنة بني سعد باشراف الشام وساروا حتى إذا كانوا ببعض الطريق نفد ماؤهم وظمئوا وأيقنوا بالهلاك، فانفجرت من تحت خف عبد المطلب عين ماء فشربوا منها وعاشوا. وقالوا: قد والله قضي لك علينا لا نخاصمك فيها أبداً، إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم! فانصرفوا فحفر عبد المطلب زمزم، فوجد فيها غزالين من ذهب وأسيافاً قلعية كانت جرهم دفنتها فيها وقت خروجهم من مكة، فضرب الغزالين بباب الكعبة وأقام سقاية الحاج بمكة، والله الموفق.
وينسب إلى مكة المهاجرون الذين أكثر الله تعالى عليهم من الثناء في كتابه المجيد، وخص بعضهم بمزيد فضيلة وهم المبشرة العشرة، ذكر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: إنهم في الجنة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، رضوان الله عليهم أجمعين.

مكة


أشهر من أن تعرّف، وقد ثناها ورقة في شعره، فقال: «ببطن المكتين» ، لأن لها بطاحا وظواهر. [انظر مخطط مكة] .

مكة



هي البلد الحرام وتدعى (أم القرى) و (بكة) . فيها ولد الرسول صلى الله عليه وسلم وفيها بعث وفيها نزل القرآن الكريم ليكون رسالة للعالمين، ومنها خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة، وعاد إليها فاتحا سنة 8 للهجرة.