فضل إقامة الحدود وفوائده

عناصر الخطبة

  1. فضل تطبيق الحدود الشرعية
  2. فوائد إقامة الحدود وثمراتها على المجتمع
  3. دعوى عدم صلاحية الحدود للتطبيق في هذا الزمان
اقتباس

إن استجلاب بركة الله بهذه الطاعة وإقامة هذه الحدود، من أعظم فوائد إقامة الحدود، فإن بركات الشريعة المطهرة لا تُحصى، والله -تبارك وتعالى- قد جعل خير الآخرة والأولى منوطًا بتطبيق أمره واجتناب نهيه، قال الله تعالى عن أهل الكتاب: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة:66]، وإذا كان هذا في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فهو أيضًا ينطبق على المسلمين…

الخطبة الأولى:

أيها الإخوة: ما تقولون في مطر يرسله الله على العباد والبلاد، فيسقي أرضهم، وينبت الله به زرعهم، ويدرّ به ضرعهم، ويلطف به هواءهم، ويكثر به ماؤهم، وتنشرح باخضرار الأرض صدورهم، وتقضى لهم حوائجهم، فهم في رغد وسعد ونعمة ما بها نقمة، ثم يدوم ذلك بهم أربعين صباحًا.

أطلق لنفسك في تصور تلك النعمة العنان، إنها سترد عليك القول بأنها النعمة الكبرى تستحق من العباد إجمال الشكر لله المنعم.

أحبتي: أتدرون ما خير من ذلك كله؟! أن حداً واحدًا يعمل به في الأرض خير من ذلك كله، برهان ذلك قول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا". حسنه الألباني.

أيها الإخوة: هذا الحديث الجليل ذكره الإمام ابن حبان تحت عنوان: "ذكر الأمر بإقامة الحدود في البلاد؛ إذ إقامة الحد في بلدٍ يكون أعم نفعًا من أضعافه القطر إذا عمته". أي من كثرة المطر إذا عم البلاد. فتعالوا بنا نتأمل هذا الهدي الكريم.

أجل؛ إن استجلاب بركة الله بهذه الطاعة وإقامة هذه الحدود، من أعظم فوائد إقامة الحدود، فإن بركات الشريعة المطهرة لا تُحصى، والله -تبارك وتعالى- قد جعل خير الآخرة والأولى منوطًا بتطبيق أمره واجتناب نهيه، قال الله تعالى عن أهل الكتاب: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة:66]، وإذا كان هذا في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فهو أيضًا ينطبق على المسلمين، فقد قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف:96]، ولهذا ما أرسل الله رسولاً، إلا ذكَّر قومه بأن طاعة الله هي السبيل إلى استدرار رحمته في الدنيا، وإلى استدرار رحمته في الآخرة.

هذا نوح -عليه السلام- يقول لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10 – 12].

وهذا هود -عليه السلام- يقول لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود:52].

وهذا ما أمر الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يخاطب به الناس، حيث استفتح سورة هود بقول الله -جل وعلا-: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ(3)﴾ [هود:1،3].

ولا شك أن المؤمنين يصدقون بوعد الله، ويعلمون يقينًا أن خير الدنيا والآخرة هو في اتباع أمره، وتطبيق حدوده وطلب مرضاته.

أيها الإخوة: ومن أهم الفوائد: نزع شوكة الفساد من الأرض، في مجال المعاملات نجد أن تطبيق أحكام الشريعة لها نتائج هي أعظم النتائج في حياة الناس؛ إذ الشريعةُ بما قرر بها الحق -جل وعلا- تستهدف رفع الظلم، وإقامة العدل في الأرض، ولا شك أن الظلم يتبعه الخراب، وأن العدل يتبعه الرخاءُ والنماء، والظلم مدمر، والعدل معمر، ومن ثمّ فتطبيق شريعة الله تعني انفتاح البركات وزيادة الخيرات، ولا شك عند كل ذي لبّ، من مؤمن أو كافر، أن إقامة الحدود -أعني العقوبات الشرعية- هي من أكبر أسباب زيادة الخيرات والبركات؛ لأن قطع يد السارق يعني المحافظة على الأموال، وخروجها من المخابئ، ليعمل بها الناس في التجارات، والزراعات، والصناعات؛ لأن رأس المال -كما يقولون- جبان، فإذا توفرت له الحماية خرج، وفي خروجه مصلحة للأمة وللبشرية، لكن إذا انتشرت اللصوصية، وقطعت الطرق، وإذا انتشر الظلم، فإن المال يختبئ، وإن صاحبه يهرب به.

وأيضًا قتل القاتل فيه ردع عن الجريمة المسببة لخراب العمران، وتقطيع أوصال المجتمعات.

وتنفيذ حدّ الزنى قاطع لدابر البغاء، وانتشار الأمراض الفتاكة المهلكة وسلامة الأنساب ونقائها، وراحة الأنفس وصفائها، وبهذا نعطي الفرصة لإقامة الأسرة السعيدة التي يسعد فيها الزوجان وينعم الأولاد بالرعاية والتربية الصالحة، وهذا عامل من عوامل بناء الأمة وقوتها، فالمجتمع الإسلامي الذي يظهر على هذا النحو من النظافة والطهر، سيكون مجتمع الخير، والبركة والنماء؛ قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97]

نعم -أيها الأخ الكريم- "إقامة حدٍ في الأرض خيرٌ من مطر أربعين صباحاً"، وإن نظرةً فاحصةً إلى حال المجتمعات التي تطبق هذه الشريعة، وحال المجتمعات التي تخلّت عن تطبيقها، كفيلة بإقناع المنصفين، وإن قراءةً سريعةً في إحصائيات الجرائم في هذه البلاد وتلك؛ ليكشف بجلاء مدى الأمن الذي تتمتع به البلاد التي تطبق أمر الله، ومدى الرعب والخوف الذي يسكن في قلوب المجتمع الذي لا يطبق هذه الحدود الشرعية.

أيها الإخوة: وفي هذا الخضم المائج بفتنه وإرهابه نقول: فلتهنأ بلاد الحرمين الشريفين بأمنها وأمانها، متمسكة بدينها، معتزّة بدستورها كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، تحلّ حلاله وتحرّم حرامه، وتقيم حدوده، زادها الله صلاحًا وإصلاحًا، وبتحكيم شرعه بجميع أمور الحياة إيماناً وتسليماً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50)﴾ [المائدة:49، 50].

بارك الله لي ولكم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله أحاط بكل شيء خبراً، وجعل لكل شيء قدراً، وأسبغ على الخلائق من حفظه ستراً، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة عذراً ونذراً. صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، أخلد الله لهم ذكراً، وأعظم لهم أجراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنه يقصر الإدراك عند بعض المنتسبين إلى الإسلام، حيث يظنون أن العقوبات والزواجر في الإسلام إن صلحت فيما مضى فهي غير صالحة في هذه العصور.

إنهم لم يدركوا أن الأمن الذي يتحقق بتطبيق شرع الله لا يعتمد على العقوبة وحدها، ولكنه يعتمد قبل ذلك وبعده على غرس الإيمان في القلوب، وزرع الخشية من علام الغيوب، فتترك النفوس الإجرام رغبة ورهبة، يغذي ذلك ويقويه قنوات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونداءات الوعظ الرقيق، والتذكير الرفيق، وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، وحفظ السفهاء في أنفسهم وأموالهم.

ومن هنا -أيها الإخوة- فإن الدين لا يقف متربصًا من أجل أن تزل قدم ليجهز على صاحبها، ولكنه يمنح الفرص تلو الفرص من الستر المحدود؛ ليرشد الضال ويصلح العاصي.

إنه يؤثر ستر طالبي الستر، ويدرأ الحدود بالشبهات، ويفتح منافذ الأمل لمستقبل يتوبون فيه إلى ربهم ويستغفرونه، والله غفور رحيم.

أيها الأحبة: ومما يطرحه بعضُ خصوم الإسلام، ويشتبه على السذّج والبسطاء من المسلمين: حصر الشريعة الإسلامية في تلك العقوبات المعروفة بالحدود الشرعية، وأن غاية ما يسمى بالدولة الإسلامية إنما هو إنزال تلك العقوبات بأفراد المجتمع، وأن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس سوى تطبيق هذه الحدود فقط، وليس عند دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية -بزعمهم- غير الدعوة إلى إقامة الحدود. فما مدى صحة هذه المقولة؟!

الجواب: مثل هؤلاء في محاولتهم التشويه والتشويش على الشريعة الغراء مثل الرجل الذي جاء ذكره في الحديث الذي أخرجه أحمد وابن ماجه عنْ أَبِي هرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الَّذِي يَجْلِسُ يَسْمَعُ الْحِكْمَةَ ثُمَّ لاَ يُحَدِّثُ عَنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ بِشَرِّ مَا يَسْمَعُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا فَقَالَ: يَا رَاعِي: أَجْزِرْنِي شَاةً -أي أعطني شاة تصلح للذبح والأكل- مِنْ غَنَمِكَ. قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا. فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ".

فهؤلاء -بدلاً من تناول الشريعة على الوجه الذي جاءت به من الكمال والشمول والمصلحة التامة للبشرية والسمو بالإنسان عقليًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا-، بدلاً من ذلك ركزوا اهتمامهم بتشويه الشريعة من خلال الحديث عن الحدود الشرعية مجردة، من غير بيان السياق الذي شُرعت فيه، والأغراض التي وضعت لها، والظروف التي تُهيأ لتطبيقها، والآثار العملية المترتبة عليها.

أيها الإخوة: إن الحدود ليست إلا وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي، ينبغي أن يسبقها إيجاد الفرد المسلم والمجتمع المسلم وتطبيق القيم والأخلاق الإسلامية بأنواعها المختلفة، ثم تأتي بعد ذلك الحدود التي هي الضوابط التي تحمي ذلك المجتمع وتلك الأخلاق، ولا شك أن إغفال تطبيق الحدود يعتبر نقصًا في النظام الاجتماعي من الناحية الشرعية؛ إذ لا يمكن للمجتمع -أي مجتمع- أن تنتظم أموره دون ضبط اجتماعي.

أسأل الله تعالى أن يحمي بلادنا من كل سوء، إنه جواد كريم.