خطبة عيد الفطر 1437هـ

عناصر الخطبة

  1. ثمرات محبة الله تعالى
  2. وجوب تعظيم الله سبحانه
  3. صور من تعظيم الأنبياء والمرسلين لرب العالمين
  4. الحث على تعظيم الله جل وعلا
  5. بعض آداب العيد
  6. تذكر أحوال المسلمين المستضعفين والدعاء لهم وشكر نعم الله.
اقتباس

عَلَى قَدرِ مَعرِفَةِ العَبدِ بِرَبِّهِ، يَكُونُ تَعظِيمُ الرَّبِّ في القَلبِ، وَأَعرَفُ النَّاسِ بِاللهِ هُم أَشَدُّهُم لَهُ تَعظِيمًا وَإِجلالاً، وَرُوحُ العِبَادَةِ هُوَ الإِجلالُ وَالمَحَبَّةُ، وَإِنَّ العَالَمَ اليَومَ لَيَعِيشُ حَالَةً تُشبِهُ مِن وُجُوهٍ حَالَ أُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ، تَهَاوُنًا بِأَمرِ اللهِ وَنَهيِهِ وَحُكمِهِ، وَتُوُسُّعًا في الخُرُوجِ عَلَى مَا جَاءَ في كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَقَولاً عَلَيهِ بِغَيرِ عِلمٍ، وَمُوَالاةً لأَعدَائِهِ وَحَربًا عَلَى أَولِيَائِهِ، وَكَأَنَّ هَذَا الإِنسَانَ إِذْ يَتَجَاوَزُ حُدُودَ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، قَد نَسِيَ ضَعفَهُ وَقِلَّةَ حِيلَتِهِ، وَأَنَّ في قَلبِهِ شَعَثًا لا يُلِمُّهُ إِلاَّ الإِقبَالُ عَلَى اللهِ، وَوَحشَةً لا يُزِيلُهَا إِلاَّ الأُنسُ بِهِ، وَحُزنًا لا يُذهِبُهَ إِلاَّ السُّرُورُ بِمَعرِفَتِهِ وَصِدقُ مُعَامَلَتِهِ، وَنِيرَانَ حَسَرَاتٍ لا يُطفِئُهَا إِلاَّ الرِّضَا بِأَمرِهِ وَنَهيِهِ وَقَضَائِهِ، وَمُعَانَقَةُ الصَّبرِ عَلَى ذَلِكَ إِلى لَقَائِهِ…

الخطبة الأولى:

الحَمدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَأَخرَجَ المَرعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحوَى. أَضحَكَ وَأَبكَى، وَأَمَاتَ وَأَحيَا، وَأَسعَدَ وَأَشقَى، خَفَضَ وَرَفَعَ، وَأَعطَى وَمَنَعَ، وأَعَزَّ وَأَذَلَّ، وَهَدَى وَأَضَلَّ، فَسُبحَانَهُ عَدَدَ خَلقِهِ، وَسُبحَانَهُ رِضَا نَفسِهِ، وَسُبحَانَهُ زِنَةَ عَرشِهِ، وَسُبحَانَهُ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ ﴿لَهُ الحَمدُ في الأُولى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكمُ وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ﴾ [القصص: 70].

 اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.

اللهُ أَكبَرُ مِلءَ السَّمعِ رَدَّدَهَا *** في مَسمَعِ البِيدِ ذَاكَ الذَّرُّ وَالحَجَرُ

اللهُ أَكبَرُ مَا أَحلَى النِّدَاءَ بها *** كَأَنَّهُ الرِّيُّ في الأَروَاحِ يَنتَشِرُ

أَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، شَهَادَةً أَرجُو بها النَّجاةَ يَومَ أَلقَاهُ، يَومَ يُبَعثَرُ مَا في القُبُورِ، وَيُحَصَّلُ مَا في الصُّدُورِ.

أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم – أَيُّهَا النَّاسُ – وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ، عَظِّمُوهُ بِإِسلامِ النُّفُوسِ إِلَيهِ، وَأَجِلُّوا أَمرَهُ بِامتِثَالِهِ، وَنَهيَهُ بِاجتِنَابِهِ، وَحُكمَهُ بِالرِّضَا بِهِ، فَإِنَّكُم في قَبضَتِهِ وَإِلَيهِ صَائِرُونَ ﴿وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ﴾ [البقرة: 281] لَقَد صُمتُم لَهُ مُخلِصِينَ، وَقُمتُم بَينَ يَدَيهِ خَاشِعِينَ، وَزَكَّيتُمُ امتِثَالاً لأَمرِهِ، وَتَصَدَّقتُم ابتِغَاءَ وَجهِهِ، وَقَرَأتُم كِتَابَهُ طَلَبَ الإِثَابَةَ، وَدَعَوتُم رَجَاءَ الإِجَابَةَ، وَفَطَّرتُمُ الصَّائِمِينَ تَعَبُّدًا، وَنَوَّعتُم أَعمَالَ الخَيرِ تَزَوُّدًا، فَدَاوِمُوا العَمَلَ الصَّالِحَ مَا بَقِيتُم ؛ فَإِنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إِلى اللهِ وَأَنفَعُهُ لِلعَبدِ أَدوَمُهُ ﴿وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينَ﴾ [الحجر: 99]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَنِ امتَلأَ قَلبُهُ بِحُبِّ رَبِّهِ، وَعَرَفَ خَالِقَهُ حَقَّ المَعرِفَةِ، عَظُمَ لَدَيهِ إِجلالُهُ، وَكَمُلَ في قَلبِهِ تَعظِيمُهُ، وَلَم يَشغَلْهُ عَنهُ شَيءٌ مِنَ الدُّنيَا مَهمَا كَبُرَ أَو عَلا ؛ إِذْ هُوَ – سُبحَانَهُ – الكَبِيرُ المُتَعَالِ، الحَيُّ القَيُّومُ العَلِيُّ العَظِيمُ، الوَلِيُّ الحَمِيدُ العَزِيزُ المَجِيدُ، المُبدِئُ المُعِيدُ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، القَادِرُ القَاهِرُ القَوِيُّ المَتِينُ، الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ، فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَخَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، المُحِيطُ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا، المُحصِي كُلَّ شَيءٍ عَدَدًا ﴿كُلَّ يَومٍ هُوَ في شَأنٍ﴾ [الرحمن: 29] يَغفِرُ ذَنبًا، وَيَكشِفُ كَربًا، وَيَجبُرُ كَسِيرًا وَيُغنِي فَقِيرًا، وَيُعَلِّمُ جِاهِلاً وَيَهدِي ضَالاًّ، وَيُرشِدُ حَيرَانًا وَيُغِيثُ لَهْفَانًا، وَيُشبِعُ جَائِعًا وَيَكسُو عَارِيًا، وَيَشفِي مَرِيضًا وَيُعَافي مُبتَلى، وَيَجزِي مُحسِنًا وَيَنصُرُ مَظلُومًا، وَيَفُكُّ عَانِيًا وَيَقصِمُ جَبَّارًا، وَيَستُرُ عَورَةً وَيُؤَمِّنُ رَوعَةً، وَيَرفَعُ أَقوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ.

لَو أَنَّ أَوَّلَ خَلقِهِ وَآخِرَهُم كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ مِنهُم، مَا زَادَ ذَلِكَ في مُلكِهِ شَيئًا، وَلَو أَنَّهُم كَانُوا عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ مِنهُم، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلكِهِ شَيئًا، وَلَو أَنَّهُم قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوهُ فَأَعطَى كُلاًّ مِنهُم مَسأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِندَهُ مِثقَالَ ذَرَّةٍ ﴿وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ [البقرة: 255] أَتَدرُونَ مَا الكُرسِيُّ؟! إِنَّهُ مَوضِعُ قَدَمَيهِ – تَعَالى – فَكَيفَ بِعَرشِهِ الَّذِي عَلَيهِ استَوَى؟! بَل كَيفَ بِهِ هُوَ – جَلَّ وَعَلا -؟! في الحَدِيثِ أَنَّهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ لأَبي ذَرٍّ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ -: "يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا السَّمَاوَاتُ السَّبعُ مَعَ الكُرسِيِّ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مُلقَاةٍ بِأَرضٍ فَلاةٍ، وَفَضلُ العَرشِ عَلَى الكُرسِيِّ كَفَضلِ الفَلاةِ عَلَى الحَلَقَةِ".

لَقَد خَلَقَ رَبُّنَا – سُبحَانَهُ – الكَونَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ بِلا تَعَبٍ وَلا مَشَقَّةٍ، وَهُوَ الَّذِي يُمسِكُ السَّمَاءَ وَالأَرضَ أَن تَزُولا، فَإِذَا جَاءَ يَومُ القِيَامَةِ جَعَلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ في قَبضَتِهِ وَهَزَّهُنَّ هَزًّا، وَلَم يَبقَ مُلكٌ إِلاَّ مُلكُهُ، قَالَ – سُبحَانَهُ -: ﴿وَلَقَد خَلَقنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]، وَقَالَ – تَعَالى -: ﴿إِنَّ اللهَ يُمسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمسَكَهُمَا مِن أَحَدٍ مِن بَعدِهِ﴾ [فاطر: 41]، وَقَالَ – تَعَالى -: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعًا قَبضَتُهُ يَومَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].

 وَقَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "يَطوِي اللهُ – عَزَّ وَجَلَّ – السَّمَاوَاتِ يَومَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمنَى ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَينَ الجَبَّارُونَ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطوِي الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَينَ الجَبَّارُونَ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُونَ؟" (رَوَاهُ مُسلِمٌ).

فَأَيُّ عَظَمَةٍ هَذِهِ وَأَيُّ قُوَّةٍ؟ وَأَيُّ قُدرَةٍ وَأَيُّ عِزَّةٍ؟ وَأَيُّ جَبَرُوتٍ وَأَيُّ كِبرِيَاءٍ؟ ﴿لَخَلقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ أَكبَرُ مِن خَلقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ﴾ [غافر: 57]، ﴿فَلِلَّهِ الحَمدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرضِ رَبِّ العَالَمِينَ (36) وَلَهُ الكِبرِيَاءُ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ(37)﴾ [الجاثية: 36- 37].

 اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، عَلَى قَدرِ مَعرِفَةِ العَبدِ بِرَبِّهِ، يَكُونُ تَعظِيمُ الرَّبِّ في القَلبِ، وَأَعرَفُ النَّاسِ بِاللهِ هُم أَشَدُّهُم لَهُ تَعظِيمًا وَإِجلالاً، وَرُوحُ العِبَادَةِ هُوَ الإِجلالُ وَالمَحَبَّةُ، فَإِذَا تَخَلَّى أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ فَسَدَتِ العِبَادَةُ، فَإِذَا اقتَرَنَ بِالإِجلالِ وَالمَحَبَّةِ الثَّنَاءُ عَلَى المَحبُوبِ المُعَظَّمِ فَذَلِكَ حَقِيقَةُ الحَمدِ.

وَلَيسَ تَعظِيمُ اللهِ في النُّفُوسِ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – دَعَاوَى لا حَقِيقَةَ لَهَا، وَلا هُوَ تَظَاهُرًا لا يَسنُدُهُ بَاطِنٌ، وَلَكِنَّهُ شُعُورٌ عَمِيقٌ في النُّفُوسِ المُؤمِنَةِ، وَإِحسَاسٌ تَجِدُهُ الفِطَرُ السَّلِيمَةُ، يَظهَرُ جَلِيًّا في تَعظِيمِ الآمِرِ النَّاهِي – سُبحَانَهُ – وَفي تَعظِيمِ أَمرِه وَنَهيِه، وَفي تَعظِيمِ حُكمِهِ، فَأَمَّا تَعظِيمُ الحَقِّ – سُبحَانَهُ – فَهُوَ أَلاَّ يَجعَلَ العَبدُ دُونَهُ سَبَبًا، وَلا يَرَى لِنَفسِهِ عَلَيهِ حَقًّا، أَو يُنَازِعَ لَهُ اختِيَارًا، فَهُوَ – سُبحَانَهُ – الحَاكِمُ الحَكِيمُ، صَاحِبُ الخَلقِ وَالأَمرِ، وَكُلُّ خَيرٍ في العَبدِ فَهُوَ مِنهُ وَحدَهُ، وَكُلُّ تَوفِيقٍ فَهُوَ وَلِيُّهُ وَمُولِيهِ، لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِهِ، وَلا وُصُولَ إِلَيهِ إِلاَّ بِإِعَانَتِهِ، فَهُوَ الَّذِي مَنَّ وَهَدَى، وَهُوَ الَّذِي اختَارَ وَاصطَفَى، العِبَادَةُ لَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَالاستِعَانَةُ بِهِ وَحدَهُ دُونَ سِوَاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ لَهُ الحَقُّ عَلَى عِبَادِهِ.

 وَأَمَّا حُقُوقُ العِبادِ عَلَيهِ مِن إِثَابَتِهِ لِمُطِيعِهِم، وَتَوبَتِهِ عَلَى تَائِبِهِم، وَإِجَابَتِهِ لِسَائِلِهِم، فَإِنَّمَا هِيَ حُقُوقٌ أَحَقَّهَا – سُبحَانَهُ – عَلَى نَفسِهِ بِمَحضِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحسَانِهِ. وَأَمَّا تَعظِيمُ الأَمرِ وَالنَّهيِ، فَأَن يُعَظِّمَ العَبدُ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ وَعَن رَسُولِهِ، وَيَقِفَ عِندَ تِلكَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَقفَةَ المُذعِنِ المُستَسلِمِ الخَاضِعِ، المُنقَادِ لَهَا حُبًّا وَكَرَامَةً، لا أَن يُسلِمَ الأَمرَ لِهَوَاهُ فيتَرَخَّصَ تَرَخُّصًا يَجفُو بِهِ عَن كَمَالِ الامتِثَالِ، أَو يغلُوَ غُلُوًّا يَتَجَاوَزُ بِهِ حُدُودَ الأَمرِ وَالنَّهيِ ؛ فَالدِّينُ الحَقُّ وَسَطٌ بَينَ طَرَفَينِ ذَمِيمَينِ، وَهُدًى بَينَ ضَلالَتَينِ، وَكُلٌّ مِنَ الجَافي عَنهُ وَالغَالي فِيهِ، هُوَ في الحَقِيقَةِ مُضَيِّعٌ لِلأَمرِ وَالنَّهيِ.

وأما تَعظِيمُ الحُكمِ فيَتَضَمَّنُ تَعظِيمَ حُكمِ اللهِ الكَونِيِّ القَدَرِيِّ، وَتَعظِيمَ حُكمِهِ الدِّينيِّ الشَّرعِيِّ، بِحَيثُ يَرَاهُ كُلَّهُ مُستَقِيمًا لا عِوَجَ فِيهِ وَلا تَفَاوُتَ وَلا تَنَاقُضَ ؛ لأَنَّهُ صَادِرٌ عَن عَينِ الحِكمَةِ، وَهُوَ حَقٌّ كُلُّهُ.

اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، حِينَ عَظَّمَ نُوحٌ – عَلَيهِ السَّلامُ – رَبَّهُ، أَنكَرَ عَلَى قَومِهِ عِبَادَةَ الأَصنَامِ مِن دُونِهِ، وَقَالَ لَهُم: ﴿مَا لَكُم لا تَرجُونَ للهِ وَقَارًا﴾ [نوح: 13]، وَحِينَ عَظَّمَهُ مُحَمَّدٌ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – وَاستَشعَرَ مَعِيَّتَهُ، قَالَ لأَبي بَكرٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ – وَهُمَا في الغَارِ: "مَا ظَنُّكَ بِاثنَينِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟!" وَعِندَمَا (قَالَ أَصحَـابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدرَكُونَ) [الشعراء: 61]، رَدَّ كَلِيمُ اللهِ مُستَشعِرًا عَظمَةَ اللهِ وَاثِقًا بِمَوعُودِهِ: ﴿قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهدِينِ﴾ [الشعراء: 62].

 وَحِينَ عَظَّمَ هُدهُدُ سُلَيمَانَ -عَلَيهِ السَّلامُ– رَبَّهُ، استَنكَرَ أَن تُعبَدَ الشَّمسُ مِن دُونِ اللهِ، وَقَالَ كَمَا حَكَى اللهُ – تَعَالى -: ﴿إِنِّي وَجَدتُ امرَأَةً تَملِكُهُم وَأُوتِيَت مِن كُلِّ شَيءٍ وَلَهَا عَرشٌ عَظِيمٌ(23) وَجَدتُهَا وَقَومَهَا يَسجُدُونَ لِلشَّمسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ أَعمَالَهُم فَصَدَّهُم عَنِ السَّبِيلِ فَهُم لا يَهتَدُونَ(24)﴾ [النمل: 24].

بَل حَتَّى الجَمَادَاتُ لِتَعظِيمِهَا للهِ تَستَبشِعُ افتِرَاءَ الكَذِبِ عَلَيهِ وَادِّعَاءَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحمَنُ وَلَدًا(88) لَقَد جِئتُم شَيئًا إِدًّا(89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقُّ الأَرضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا(90)﴾ [كمريم: 88- 90].

وَفي المُقَابِلِ عَاشَت أُمَمٌ عَلَى هَذِهِ الأَرضِ مِمَّن أُعطُوا بَسطَةً في الأَجسَامِ وَقُوَّةً في الأَبدَانِ وَأَفهَامًا وَعُقُولاً، وَلَكِنَّهُم كَفَرُوا بِاللهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَلم يُعَظِّمُوا أَمرَهُ وَلا نَهيَهُ وَلا رَضُوا بِحُكمِهِ، فَأَذَاقَهُمُ اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ وَدَمَّرَهُم تَدمِيرًا، قَالَ قَومُ عَادٍ: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت: 15]؛ فَأَهلَكَهُمُ الجَبَّارُ ﴿بِرِيحٍ صَرصَرٍ عَاتِيَةٍ(6) سَخَّرَهَا عَلَيهِم سَبعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القَومَ فِيهَا صَرعَى كَأَنَّهُم أَعجَازُ نَخلٍ خَاوِيَةٍ(7) فَهَل تَرَى لَهُم مِن بَاقِيَةٍ(8)﴾ [الحاقة: 6- 8].

وَثَمُودُ كَانُوا ﴿يَنحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ(82) فَأَخَذَتهُمُ الصَّيحَةُ مُصبِحِينَ(83) فَمَا أَغنى عَنهُم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ(84)﴾ [الحجر: 82 – 84]، وَفِرعَونُ عَادَى أَولِيَاءَ اللهِ ﴿فَأَرَادَ أَن يَستَفِزَّهُم مِنَ الأَرضِ فَأَغرَقنَاهُ وَمَن مَعَهُ جَمِيعًا﴾ [الإسراء: 103]، وَقَارُونُ أُوتِيَ ﴿مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصبَةِ أُولي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَومُهُ لا تَفرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76]، وَلم يَنتَبِهْ إِلى ﴿أَنَّ اللهَ قَد أَهلَكَ مِن قَبلِهِ مِنَ القُرُونِ مَن هُوَ أَشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وَأَكثَرُ جَمعًا﴾ فَكَانَ جَزَاءُ عُلُوِّهِ وَفَسَادِهِ: ﴿فَخَسَفنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81].

وَإِنَّ العَالَمَ اليَومَ -بَعِيدًا وَقَرِيبًا- لَيَعِيشُ حَالَةً تُشبِهُ مِن وُجُوهٍ حَالَ أُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ، تَهَاوُنًا بِأَمرِ اللهِ وَنَهيِهِ وَحُكمِهِ، وَتُوُسُّعًا في الخُرُوجِ عَلَى مَا جَاءَ في كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَقَولاً عَلَيهِ بِغَيرِ عِلمٍ، وَمُوَالاةً لأَعدَائِهِ وَحَربًا عَلَى أَولِيَائِهِ، وَكَأَنَّ هَذَا الإِنسَانَ إِذْ يَتَجَاوَزُ حُدُودَ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، قَد نَسِيَ ضَعفَهُ وَقِلَّةَ حِيلَتِهِ، وَأَنَّ في قَلبِهِ شَعَثًا لا يُلِمُّهُ إِلاَّ الإِقبَالُ عَلَى اللهِ، وَوَحشَةً لا يُزِيلُهَا إِلاَّ الأُنسُ بِهِ، وَحُزنًا لا يُذهِبُهَ إِلاَّ السُّرُورُ بِمَعرِفَتِهِ وَصِدقُ مُعَامَلَتِهِ، وَنِيرَانَ حَسَرَاتٍ لا يُطفِئُهَا إِلاَّ الرِّضَا بِأَمرِهِ وَنَهيِهِ وَقَضَائِهِ، وَمُعَانَقَةُ الصَّبرِ عَلَى ذَلِكَ إِلى لَقَائِهِ.

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَعَظِّمُوهُ، عَظِّمُوهُ بِتَحقِيقِ التَّوحِيدِ وَإِفرَادِهِ بما يَستَحِقُّ، تَدَبَّرُوا مَعَانيَ أَسمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ﴿وَللهِ الأَسمَاءُ الحُسنى فَادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ في أَسمَائِهِ سَيُجزَونَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].

تَدَبَّرُوا القُرآنَ فَـ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُم إِلى ذِكرِ اللهِ﴾ [الزمر: 23].

 تَفَكَّرُوا في آلاءِ اللهِ وَاذكُرُوا عَظِيمَ نِعَمِهِ عَلَيكُم ﴿فَاذكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ﴾ [الأعراف: 69]، تَأَمَّلُوا في مَلكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ (إِنَّ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الألبَابِ الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190- 191].

عَظِّمُوا شَعَائِرَ اللهِ وَحُرُمَاتِهِ ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ﴾ [الحج: 30].

تَأَمَّلُوا في سُنَنِ اللهِ – عَزَّ وَجَلَّ – فَإِنَّهَا لا تَتَبَدَّلُ وَلا تَتَغَيَّرُ، إِنَّكُم تَقرَؤُونَ ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلكَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَولا دَفعُ اللهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ﴾ [البقرة: 251]، وَقَولَهُ – تَعَالى -: ﴿إِن يَمسَسْكُم قَرحٌ فَقَد مَسَّ القَومَ قَرحٌ مِثلُهُ وَتِلكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]، وَقَولَهُ – سُبحَانَهُ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2]، وَقَولَهُ – تَعَالى -: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم﴾ [الرعد: 11]، وَقَولَهُ – جَلَّ وَعَلا – : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُم وَيُثَبِّتْ أَقدَامَكُم﴾ [محمد: 7].

إِنَّهَا سُنَنٌ مُحكَمَةٌ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الكَونِ إِلَهًا عَظِيمًا قَادِرًا، لَهُ مَقَالِيدُ كُلِّ شيءٍ، وَلا يُعجِزُهُ شَيءٌ ﴿وَللهِ غَيبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ﴾ [هود: 123].

اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ، هُوَ أَحَقُّ مَن عُبِدَ وَأَحَقُّ مَن ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَن حُمِدَ وَأَولَى مَن شُكِرَ، وَأَنصَرُ مَنِ ابتُغِيَ وَأَرأَفُ مَن مَلَكَ، وَأَجوَدُ مَن سُئِلَ وَأَعفَى مَن قَدِرَ، وَأَكرَمُ مَن قُصِدَ وَأَعدَلُ مَنِ انتَقَمَ، حُكمُهُ بَعدَ عِلمِهِ، وَعَفوُهُ بَعدَ قُدرَتِهِ، وَمَغفِرَتُهُ عَن عِزَّتِهِ، ومَنْعُهُ عَن حِكمَتِهِ، وَمُوَالاتُهُ عَن إِحسَانِهِ وَرَحمَتِهِ، لَن يُطَاعَ إِلاَّ بِفَضلِهِ وَرَحمَتِهِ، وَلَن يُعصَى إِلاَّ بِعِلمِهِ وَحِكمَتِهِ…

مَا لِلعِبَادِ عَلَيهِ حَقٌّ وَاجِبٌ *** كَلاَّ وَلا سَعيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ

إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَو نُعِّمُوا *** فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الكَرِيمُ الوَاسِعُ

اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَن عَظَّمَ اللهَ – تَعَالى – وَجِلَ قَلبُهُ لِمُجَرَّدِ ذِكرِهِ ﴿إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم﴾ [الأنفال: 2]، (وَبَشِّرِ المُخبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم) [الحج: 34].

مَن عَظَّمَ اللهَ حَقَّقَ التَّوحِيدَ وَسَلِمَ مِنَ الشِّركِ وَالشَّكِّ، وَأَخلَصَ لِرَبِّهِ وَتَجَنَّبَ الرِّيَاءَ وَالسُّمعَةَ، مَن عَظَّمَ رَبَّهُ أَحَبَّهُ، وَخَافَ مِنهُ وَرَجَاهُ، وَرَاقَبَهُ في السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ، وَتَوَكَّلَ عَلَيهِ وَأَظهَرَ الافتِقَارَ إِلَيهِ، وَوَثِقَ بِهِ وَتَبَرَّأَ مِنَ الحَولِ وَالقُوَّةِ إِلاَّ بِهِ، مَن عَظَّمَ اللهَ حَكَّمَ شَرعَهُ وَرَضِيَ بِقَدَرِهِ، وَاستَسلَمَ لأَمرِهِ وَنَهيِهِ، وَعَظَّمَ مَا عَظَّمَهُ مِنَ الأَشخَاصِ وَالحُرُمَاتِ وَالأَمَاكِنِ وَالأَزمِنَةِ وَالأَعمَالِ، فَلَم يَعتَرِضْ عَلَى شَيءٍ مِمَّا خَلَقَهُ أو شَرَعَهُ، وَعَظَّمَ نَبِيَّهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – وَأَحَبَّهُ وَأَحَبَّ أَهلَ بَيتِهِ وَصَحَابَتَهُ وَدَعَا إِلى سُنَّتِهِ، وَلَم يُقَدِّمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ شَيئًا مِنَ الآرَاءِ وَلا الأَهوَاءِ، وَلا العَادَاتِ أَوِ الرُّسُومِ، وَلا الأَقوَالِ الضَّعِيفَةِ أَوِ الفَتَاوَى الشَّاذَّةِ.

مَن عَظَّمَ اللهَ حَفِظَ مَا أَمَرَ بِحِفظِهِ مِنَ الدِّينِ وَالنَّفسِ وَالعَقلِ وَالمَالِ وَالعِرضِ، فَأَحسَنَ وَلَم يُسِيءَ، وَأَكرَمَ وَلَم يُؤذِ، وَنَصَحَ وَلَم يَغُشَّ، وَسَارَعَ إِلى كُلِّ إِحسَانٍ وَبِرٍّ، وَطَهَّرَ قَلبَهُ مِنَ الكِبرِ وَالغِلِّ وَالحَسَدِ وَالبَغضَاءِ، وَتَوَاضَعَ لِعِبَادِ اللهِ وَسَعَى لما يَنفَعُهُم، وَأَحَبَّ لإِخوَانِهِ مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفسِهِ، وَأَمَرَ بِالمَعرُوفِ وَنَهَى عَنِ المُنكَرِ. مَن عَظَّمَ اللهَ استَحيَا مِنهُ حَقَّ الحَيَاءِ، فَتَرَكَ المَعَاصِيَ وَالمُنكَرَاتِ، وَذَكَرَ رَبَّهُ في الخَلَوَاتِ، وَأَكثَرَ مِن ذِكرِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ. أَمَّا الَّذِينَ يَهجُرُونَ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ، وَيَرتَكِبُونَ المُحَرَّمَاتِ وَالمُوبِقَاتِ، وَيُفَرِّطُونَ في الطَّاعَاتِ وَالحَسَنَاتِ، أَو أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَحَاكَمُونَ إِلى شَرعِ غَيرِ اللهِ، أَو يَستَهزِئُونَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، أَو يَسخَرُونَ مِنَ الدِّينِ وَيُحَارِبُونَ الصَّالِحِينَ وَيُؤذُونَ المُصلِحِينَ، أَو يَتَنَقَّصُونَ صَحَابَةَ رَسُولِ اللهِ وَأُمَّهَاتِ المُؤمِنِينَ، أَو يَستَهِينُونَ بِعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وَوُلاةِ الأَمرِ، أَو يَتَّبِعُونَ غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ، فَيَنتَصِرُونَ لِلأَقوَالِ الشَّاذَّةِ أَو يَنصُرُونَ الجَمَاعَاتِ الضَّالَّةَ، فَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدرِهِ، وَلا شَهِدَت قُلُوبُهُم عَظَمَتَهُ وَكِبرِيَاءَهُ، وَإِلاَّ لَفَرِقَت وَوَجِلَت مِن تَحذِيرِهِ لَهُم في قَولِهِ: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفسَهُ﴾ [آل عمران: 28].

 فَاتَّقُوا اللهَ وَعَظِّمُوهُ، وَاتَّقِينَ اللهَ يَا نِسَاءَ المُؤمِنِينَ وَعَظِّمْنَ أَمرَهُ وَنَهيَهُ، صَلِّينَ الخَمسَ وأَطِعْنَ الأَزوَاجَ، وَانبُذْنَ السُّفُورَ وَلا تُكثِرْنَ اللِّجَاجَ، اِضرِبنَ عَلَى الجُيُوبِ بِالخُمُرِ وَالحِجَابِ، وَاحذَرْنَ كُفرَ العَشِيرِ وَاللَّعنَ وَالسِّبَابَ، اِلزَمْنَ البُيُوتَ وَأَقلِلْنَ مِنَ الخُرُوجِ، وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ وَاحفَظْنَ الفُرُوجَ، بُيُوتُكُنَّ خَيرٌ لَكُنَّ، وَأَمَّا جَدَلٌ يَدُورُ حَولَ قِيَادَتِكُنَّ لِلسَّيَّارَةِ، أَو مُمَارَسَتِكُنَّ لِلرِّيَاضَةِ، أَو تَوظِيفِكُنَّ بَينَ الرِّجَالِ، فَإِنَّمَا هَوُ إِخرَاجٌ لَكُنَّ مِن بُيُوتِ الكَرَامَةِ، وَإِنزَالٌ مِن أَبرَاجِ العِزَّةِ، وَزَجٌّ بِكُنَّ في أَوحَالِ الفِتنَةِ، وَإِكرَاهٌ لَكُنَّ علَىَ نَبذِ السِّترِ وَالحِشمَةِ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ.

عِبَادَ اللهِ، إِنَّكُم في يَومِ عَيدٍ سَعِيدٍ، فَتَصَافَحُوا وَتَصَالَحُوا، وَأَفشُوا السَّلامَ بَينَكُم وَتَوَاصَلُوا "لا تَبَاغَضُوا وَلا تَقَاطَعُوا، وَلا تَدَابَرُوا وَلا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ" وَاصِلُوا الطَّاعَةَ وَصُومُوا السِّتَّ مِن شَوَّالٍ ؛ فَإِنَّهُ "مَن صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ".

لا تَنسَوا إِخوَانًا لَكُم يَمُرُّ بِهِمُ العِيدُ وَهُم في بُؤسٍ وَشِدَّةٍ، حَالُهُم تُبكِي الصَّدِيقَ وَلا تُضحِكُ العَدُوَّ، قُلُوبُهُم مَفجُوعَةٌ، وَنُفُوسُهُم مَكرُوبَةٌ وَصُدُورُهُم مُنقَبِضَةٌ، وَوُجُوهُهُم سَاهِمَةٌ، تَآمَرَ عَلَيهِمُ الأَعدَاءُ، وَأَصَابَتهُمُ اللَّأوَاءُ، هُدِّمَت بُيُوتُهُم وَمَسَاجِدُهُم، وَشُرِّدُوا مِن دِيَارِهِمُ وَفُرِّقَ بَينَهُم، أُبدِلُوا بِالأَمنِ خَوفًا، وَبِالطُّمَأنِينَةِ فَزَعًا، وَبِالعِزِّ ذُلاًّ، وَبِالغِنى وَالشِّبَعِ فَقرًا وَجُوعًا، وَنَحنُ وَللهِ الحَمدُ في نِعَمٍ مُتَوَالِيَةٍ، قَد وَصَلَ اللهُ لَنَا سَالِفَ الآلاءِ بِجَدِيدِهَا، وَأَوَّلَهَا بِآخِرِهَا، فَاللهَ اللهَ بِحِفظِ النِّعمَةِ وَتَقيِيدِهَا (اِعمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكرًا) [سبأ: 13].

وَمِنَ الشُّكرِ أَلاَّ تَنسَوا إِخوَانَكُم مِن عَطَائِكُم وَدُعَائِكُم، أَدَامَ اللهُ عَلَينَا وَعَلَى المُسلِمِينَ النِّعَمَ، وَدَفَعَ عَنَّا وَعَنهُمُ النِّقَمَ، وَجَعَلَنَا لَهُ ذَاكِرِينَ، وَلِنِعَمِهِ شَاكِرِينَ.