تعظيم الأشهر الحرم

عناصر الخطبة

  1. اختصاص هذه الأمة بأزمنة وأمكنة فاضلة
  2. سبب تحريم الأشهر الحرم
  3. تعظيم الأشهر الحرم على وجه الخصوص
  4. ابتداع البعض لعبادات خاصة بهذه الأشهر
  5. تحريم الظلم في كل حين خاصة في الأشهر الحرم
اقتباس

وسبب تحريم هذه الأشهر الأربعة عند العرب لأجل التمكن من الحج والعمرة، فحُرِّم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه، وحُرِّم معه شهر ذي القعدة للسير فيه إلى الحج، وشهر المحرم للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه، وحُرِّم شهر رجب للاعتمار فيه في وسط السنة، فيعتمر فيه من كان قريبًا من مكة ..

الحمد لله خالق الأنام، ومدبر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملك العلام القدوس السلام، وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بالبقاء والدوام، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله القدوة الإمام، عليه من ربه أفضل صلاة وأزكى سلام. 

أيها المؤمنون: اتقوا الله وراقبوه، وأدوا ما أوجب ربكم عليكم تفوزوا وتفلحوا، واعلموا -رحمكم الله- أن الله اختص هذه الأمة بأزمنة فاضلة وأمكنة مباركة، ورتب عليها أجورًا عظيمة، فمن الأمكنة المباركة مكة وفيها المسجد الحرام، والمدينة وفيها المسجد النبوي، والقدس وفيها المسجد الأقصى، ومن الأزمنة الفاضلة رمضان وليلة القدر وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة والأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب؛ قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 36].

وجاء في الحديث الصحيح في خطبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع أنه قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".

عباد الله: وسميت هذه الأشهر الأربعة بالأشهر الحرم لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، وقيل: إنما سميت حرمًا لتحريم القتال فيها، وكان ذلك معروفًا في الجاهلية، وقيل: إنه من عهد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "اختص الله أربعة أشهر جعلهن حرمًا، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم".

وقال كعب -رضي الله عنه-: "اختار الله الزمان، فأحبه إلى الله الأشهر الحرم".

وقال قتادة: "إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، إنما تعظيم الأمور بما عظم الله به عند أهل الفهم وأهل العقل".

وسبب تحريم هذه الأشهر الأربعة عند العرب لأجل التمكن من الحج والعمرة، فحُرِّم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه، وحُرِّم معه شهر ذي القعدة للسير فيه إلى الحج، وشهر المحرم للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه، وحُرِّم شهر رجب للاعتمار فيه في وسط السنة، فيعتمر فيه من كان قريبًا من مكة.

عباد الله: المؤمن الصادق هو الذي يعظّم ما عظمه الله، فيعظم شعائر الله، ويمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي، ويبتعد عن كل ما يضره ويؤذيه من قول أو فعل، يسارع إلى الخيرات ويفعل الصالحات.

وإن مما عظمه الله -جل وعلا- هذه الأشهر الحرم، فلنعظمها ولنعظم حرمات الله فيها وفي سائر العام، وقد بيّن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم بيان في حجة الوداع، فقرر حرمة الزمان وحرمة المكان، وحرمة الدماء والأموال والأعراض؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في معرض خطبته الطويلة: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه".

والمسلم مطالب بتعظيم حرمات الله على الدوام، لكنها في هذه الأشهر الحرم تتأكد أكثر، يقول القرطبي -رحمه الله-: "خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل زمان".

وتعظيم حرمات الله من التقوى كما أخبر الله -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن تعظيم الأشهر الحرم لا يعني أن تخصص بعبادة قولية أو فعلية ليس لها مستند من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

قال -صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها".

والقلوب قدور والألسنة مغاريفها، والقلوب تغذى بالشرائع، ومتى كانت مملوءة بالبدع لم تجد السنن لها مكانًا، ومثلها في هذه الحالة كمثل من يتغذى على الطعام الخبيث.

وكم أحدث الناس من البدع في هذه الأشهر الحرم وفي غيرها، وكم أسرفوا في المعاصي والذنوب ولم يراعوا حرمة الزمان، بل لهثوا وراء شهوات النفس وحظوظها من المتاع الدنيوي الزائل، وكم وقعوا في البدع فظلموا أنفسهم وقاموا بعبادات قولية وفعلية ليس لها مستند شرعي، بل هي وبال عليهم لأنهم ساروا فيها على غير هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

والخير كل الخير فيمن وقف عند ما وقف عنده القوم -أي السلف- وشرب مما شربوا منه، ولم يتعدَّ أو يظلم، بل عظًّم حرمات الله ولم يخرج عن هدي رسول الله، بل توسط لا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا إجحاف، بل خيار عدول وسط.

عباد الله: كم من الناس من يظلمون أنفسهم ويظلمون غيرهم في هذه الأشهر وغيرها؛ وذلك بوقوعهم فيما حرم الله -جل وعلا-، يقول تعالى: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.

والظلم محرَّم في كل زمان ومكان، لكنه في الأشهر الحرم أشد تحريماً من غيره قال قتادة رحمه الله: (إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة وزورًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء".

وقد ختم الله الآية بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 194]، أي الذين راقبوا الله في جميع تصرفاتهم فعلوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرّم الله عليهم، أحلوا ما أحل الله، وحرموا ما حرم الله، وقفوا عند حدود الله، ولم يتلاعبوا فيها، فلا يؤذون ولا يغشون ولا يخدعون ولا يخونون، بل ظواهرهم كبواطنهم، تظهر آثار التقوى عليهم، وقد وصفهم الله -جل وعلا- في سورة البقرة بقوله: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 1-5].

هذا، وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليم-: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.