أيكم أحسن عملاً: العبادة الحقة

عناصر الخطبة

  1. أهمية العبادة وتهيئة أسبابها
  2. أهمية وفضل حسن العبادة
  3. شرطا قبول العبادة
  4. من محسنات العبادة
  5. منزلة الإحسان
اقتباس

في زحمة الحياة ومع تراكم مشاغل الدنيا وتواليها قد يغفل الإنسان عن وظيفته الأساس التي من أجلها وجد، والغاية التي من أجلها ولد، ألا وهي عباده الله سبحانه وطاعته: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، فأرسل الله الرسل وأنزل الكتب وخلق الإنسان وسخر له ما في السماوات والأرض، كل ذلك لأجل القيام بحق العبودية ومقتضياتها لله سبحانه، ووعد بالجنة من أطاعه وتوعد بالنار من عصاه ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى -أيها المسلمون-، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

واعلموا أن الدنيا ممر، وأن الآخرة هي المستقر، فاستبقوا الخيرات قبل فواتها، وحاسبوا أنفسكم على زلاتها وهفواتها، وكفوها عن الإغراق في شهواتها، فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، فالله الله في السرائر، فما ينفع في فسادها جمال الظاهر.

أيها المسلمون: في زحمة الحياة ومع تراكم مشاغل الدنيا وتواليها قد يغفل الإنسان عن وظيفته الأساس التي من أجلها وجد، والغاية التي من أجلها ولد، ألا وهي عباده الله سبحانه وطاعته: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56].

فأرسل الله الرسل وأنزل الكتب وخلق الإنسان وسخر له ما في السماوات والأرض، كل ذلك لأجل القيام بحق العبودية ومقتضياتها لله سبحانه، ووعد بالجنة من أطاعه وتوعد بالنار من عصاه، وأخبر -جل في علاه- أن يومًا تعرض فيه الخلائق على الله، وتنشر فيه الصحف، وتوزن الأعمال، فينظر كل لميزانه بإشفاق ووجل، يتمنى كمال عمله وحسن ما قدم، علَّ ميزانه أن يثقل بالحسنات، سيأتي يوم يكون فيه الحساب والجزاء بالأعمال، وللذرة قيمة وميزان، وللحسنة تأثير؛ يشح بها المرء على أمه وأبيه، وزوجه وبنيه وأخيه: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)﴾ [سورة الفجر:23-24].

فما من أحد إلا سيندم؛ فالمقصر يندم على تقصيره، والعامل يندم أن لم يكن قد ازداد، في يوم القيامة مواقف وعرصات، وأهوال وكربات، ووزن للحسنات والسيئات، لن ينجو منها إنس ولا جان إلا بالعمل، إذا رحم الرحيم أرحم الراحمين، فماذا قدمت لحياتك الأخرى يا عبد الله؟! ما مقداره ونوعه وما مدى كماله وصحته، عن معاذ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيدي وقال: “يا معاذ: والله إني لأحبك، أوصيك -يا معاذ- لا تدعنَّ في دبر كل صلاه تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك“. رواه أبو داود بإسناد صحيح.

فهذا إرشاد نبوي كريم بأن ندعو الله بعد الفراغ من الصلاة، ونسأله حسن عبادته، وقبل ذلك يقول الخالق -جل في علاه-: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك:2]، فدل النصان الكريمان على أن حسن العبادة مرتبة زائدة على مجرد أدائها، ولئن كان الكثير من المسلمين حريصين على أداء عباداتهم وما افترضه الله عليهم، فإن القليل منهم هم الحريصون على أدائها بإحسان، كاملة السنن والواجبات والأركان، سالمة من الخلل والنقصان، وأيّم الله: إن المسلميْن ليخرجان متوضئيْن للصلاة، ذاهبيْن إلى المسجد، يصليان خلف إمام واحد، ينصرفان من صلاتيهما وبينهما كما بين السماء والأرض في المثوبة والجزاء، واسمعوا حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها“. رواه أبو داود بإسناد حسن.

بل إن من المصلين من تُلَفُّ صلاته كثوب خَلِق فيرمى بها في وجهه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل: “ارجع فصلِّ فإنك لم تصل“. مع أنه أتى بأفعالها الظاهرة.

أيها المسلمون: إن مما ينبغي للمسلم معرفته واستحضاره أن للواجبات والمفروضات من العبادات جانبين، جانب الأداء وجانب الجزاء، فإذا أدّى المسلم عبادته الواجبة برئت ذمته منها وأجزأت وأصبح غير مطالب بها، أما الجزاء فإنه المثوبة والأجر المترتب على أداء هذه العبادة، فقد يتساوى عابدان في الأداء ويختلفان كما بين المشرق والمغرب في الجزاء، ومرد هذا الاختلاف إلى حرص أحدهما على حسن عبادته وتمامها وتقصير الآخر فيها.

عباد الله: حق على كل مسلم يرجو لقاء الله ويطمع في جنته ويستجير به من ناره أن يسعى لإحسان عمله في تمام وكمال يَسُرُّه وينجيه، يومئذ تبيض وجوه وتسود وجوه، وإليكم -رعاكم الله– بعض ما تحسن به العبادة، فأول ذلك ورأسه وشرط صحتها هو الإخلاص لله والمتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وذلكم هو مقتضى الشهادتين، والمراد الإخلاص بنوعيه العام والخاص، وأن لا يكون العبد متلبسًا بشيء من الشرك في حياته كدعاء غير الله أو الاستغاثة والاستعانة بغيره أو صرف شيء من العبادات لغير الواحد الخالق -سبحانه وتعالى-، وهذا باب عظيم ينبغي العناية به، فقد قال الله -جل في علاه- لرسوله الكريم: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ(66)﴾ [الزمر:65-66]. فهو دليل على أن الشرك لا ينفع معه عمل، فالواجب على المسلم تفقد نفسه دومًا، وتوحيد الله في كل شؤونه.

وأما النوع الثاني مما تنبغي العناية به بجانب الإخلاص فهو أن تكون العبادة المؤداة سالمة من الرياء، مرادًا بها وجه الله وحده، وفي الحديث القدسي قال الله -تبارك وتعالى-: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه“. رواه مسلم.

أما الشرط الثاني من شروط صحة العبادة فهو المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمراد بها تأدية العبادة على الصفة التي جاءت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير زيادة ولا نقصان، ومعنى هذا أنه لا يجوز أن يعبد الله إلا بما شرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبلغًا عن ربه، فالتعبد بما لم يشرعه الله ولم يرد صحيحًا عن رسول الله هو البدعة التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة -رضي الله عنها-: “من عمل عملاً ليس من أمرنا فهو رد“.

رواه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“. والله تعالى يقول: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [سورة الشورى:21].

وثمة أمر آخر يتعلق بالمتابعة، وهو أن العابد قد يؤدي عبادته كما أُمر لكنه ينتقص من سننها ويجتزئ من واجباتها، وقد تتخللها بعض المكروهات أو يداخلها شيء من محرمات، فهذه العبادة -وإن أجزأت- إلا أنه ينقص من ثوابها بقدر ما نقص من حسنها، والغبن كل الغبن -يا عباد الله- أن يفعل الإنسان ما يفعله غيره ثم يأخذ أجره أنقص بكثير من صاحبه، بل ربما لم يأخذ من ثوابه شيئًا، وربما فعل العبد فعلاً يريد به من الله الزلفى على هيئة لم يشرعها الله ولم ترد عن رسول الله، فيقصيه الله بهذا العمل، ويكتبه في عداد المبتدعين شبيهًا بالضالين.

أيها المسلمون: ومما تحسن به العبادات الواجبات تكميلها بالنوافل التي من جنسها، فأركان الإسلام عبادات متحتمات ومن جنسها نوافل ومستحبات، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” أتدرون من المفلس؟!”، قالوا: المفلس فينا من لا دينار ولا درهم له، ولا متاع، فقال: “المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاه، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار“. رواه مسلم. كما ورد أيضًا في الحديث عند أبي داود بسند فيه مقال: “إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب“.

ألا فاتقوا الله -عباد الله-، وأحسنوا فيما تقدمون، وحافظوا على أعمالكم، ولا تكونوا كأقوام لا يرضون أن تنتقص من دنياهم شعرة، لا يبالون بما نقص من دينهم مهما كان من القلة أو الكثرة، فرضوا الحياة الدنيا من الآخرة، ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [التوبة:38].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله توالت نعمه، وأحاطتنا مننه، وحقت علينا عبادته، نسأله أن يوزعنا شكر نعمه، وأن يوفقنا للصالحات ويسعدنا في الدنيا وبعد الممات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

أيها المسلمون: إذا استشعر المسلم أن هذه العبادة أمر الله وفيها رضاه، قد رضي سبحانه أن تكون من الإنسان زلفى له وقربة منه، يرفع بها الدرجات، ويمحو بها السيئات، كان هذا أدعى للإنسان أن يهتم بعبادته ويعظمها ويجودها ويحسنها، فليحذر المسلم من تقديم العبادة بشكل هزيل أو مظهر عليـل؛ لأن الواجب تعظيم شعائـر الله: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج: 32].

ولذا كان الإحسان أعلى مراتب الدين لاستشعار مراقبة الله للعبد، كما في الحديث المخرج في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلـم- قال: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك“.

وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأناّ لو قدرنا أن أحدًا قام في عبادة وهو يعاين ربه -سبحانه وتعالى- لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به بالتتميم المذكور، وفي حال العيان إنما كان لعلم العبد باطلاع الله -سبحانه وتعالى- عليه فإنه لا يقدم على تقصير في هذا الحال، وإذا كانت مجالسة الصالحين مندوبة لتكون مانعًا من تلبس الإنسان بشيء من النقائص احترامًا لهم واستحياءً منهم، فكيف بما لا يزال الله تعالى مطلعًا عليه في سره وعلانيته؟! نسأل الله تعالى أن يكتبنا في المحسنين الذين قال عنهم: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26].

وقال: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 85].

هذا، وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد بن عبد الله، الهادي البشير، والسراج المنير، رسول الله وخاتم أنبيائه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم انشر الأمن والاستقرار في بلادنا وبلاد المسلمين، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين وديارهم ودينهم وأمنهم بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يا رب العالمين.

اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، ولا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وردهم إليك ردًّا جميلاً، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين والمظلومين والمضطهدين في دينهم وفي ديارهم في كل مكان يا رب العالمين.

اللهم انصر المجاهدين في فلسطين وفي كل مكان، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم بأسك ورجزك إله الحق، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين ووفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وانصر اللهم من نصر الدين، واخذل الطغاة والملاحدة والمفسدين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وقنا عذاب القبر وشر فتنة المسيح الدجال، وفتنة المحيا والممات، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.