عالم الجن (1)

عناصر الخطبة

  1. الغاية من خلق الله للجن
  2. طوائف الجن وسبب تسميتهم
  3. بعض صفات الجن ووظائفهم
  4. أقسام الجن وأصنافهم
  5. بعض الأدلة المثبتة لوجود الجن
اقتباس

أيّها المؤمنون: إنّ الجنّ على مذاهب شتى، فمنهم المسلم، ومنهم المشرك، ومنهم النصرانيّ، ومنهم السنيّ، ومنهم البدعيّ. وكل نوع من الجِنّ يميل إلى نظيره من الإنس، فالمسلمون مع المسلمين واليهود مع اليهود، والنصارى مع النصارى، والفساق مع الفساق، وأهل الجهل والبدع مع…

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي خلق الجنّ والإنس لعبادته، أحمده ربي وأشكره على جميل إحسانه، وكمال حكمته.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا محمّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى من سار على نهجه، واستنَّ بسنَّته.

أمّا بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي نعم زاد ليوم المعاد، وأفضل ما تسلّح به المسلم في حاضر وباد.

أيَّها المؤمنون: لقد خلق الله الجِنَّ وأمرهم بعبادته؛ كما قال عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

وهم طوائف ونِحَل كما هو موجود في بني آدم سواء بسواء، ولقد بعث الله إليهم رسولَنا محمداً -صلى الله عليه وسلم-؛ كما قال عز وجل: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف: 29 – 31].

وسوف يكون حديثي في هذه الخطبة وخطب أربع قادمة عن عالم الجن، فكثير مِنَّا يجهل هذا العالم وهو له صلة به بطريقة أو بأخرى.

فالجن سُمُّوا بهذا الاسم؛ لأنَّهم يستترون عن الأنظار؛ كما قال العليم الخبير: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[الأعراف: 27]، فهم أحياء ناطقون، يسمعون ويعلمون، ويطعمون ويشربون ويتناكحون، ويؤمنون ويكفرون، يسكنون الأرض كما أنّ الملائكة تسكن السماء، فالشياطين منهم في الأماكن النتنة القذرة كالحمامات ونحوها؛ وذلك لأنها أرواح خبيثة، روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود -رضي الله عنهم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الجن سألوه الزاد، فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم" [رواه مسلم: 1035].

وهم يتصوَّرون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيات والعقارب، ونحوها، وفي صور الإبل والبقر والغنم، والخيل والبغال والحمير والطير، وبني آدم؛ عن عمر بن نافع عن أبيه قال: "كان عبد الله بن عمر يوماً عند هدم له فرأى وبيص جان، فقال: اتبعوا هذا الجان فاقتلوه، فقال أبو لبابة الأنصاري: "إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين؛ فإنهما اللذان يخطفان البصر، ويتبعان ما في بطون النساء" [رواه مسلم: 5970].

أيّها المؤمنون: إنّ عالم الجِنّ ليس قسماً واحداً فقط، قال المازري: "الحق الذي لاشك فيه أنّ الجنّ ثلاثة أقسام:

1- قسم يأكل ويشرب ويركب ويظعن، وينزل وينكح، ويغسل، ويؤمن ويكفر ويصلّي ويصوم ويقرأ القرآن ويحجّ البيت ويجاهد بعضهم بعضاً وجُلّ طعامهم العظم والروث.

2- وقسم خلقه الله سريع الانفكاك، يتلوّنُ على كلّ حال لون، ويتصوّر على كل صورة، تارةً على صورة الآدميّ، وتارةً على صورة البهائم، وتارةً على صورة الطيور والوحوش، وتارةً على صورة الحيات والضفادع، وهم يتهيّؤون في الصحراء والبراري وعلى رؤوس الجبال والآكام والدهاليس، ويطيرون بين السماء والأرض، وهؤلاء يفسدون على الناس معايشهم.

3- وقسم وهو أبو مُرّة -وهو إبليس- وجنوده جعلهم الله روحانيين لا يأكلون ولا يشربون وليس لهم قدرة على شيء من المفاسد؛ لضعفهم ورقة جواهرهم سوى ما أقدرهم الله عليه من وساوس الآدميين والتزيين والتسويل والتسويف.

ووجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- واتفاق سلف الأمة وأئمتها، ومما يدلّ على وجودهم ما ثبت من حديث أبي هريرة -رضي الله عنهم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنه رأى شيطاناً" [رواه البخاري: 3127، ومسلم: 7096].

وعن جابر -رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوّذوا بالله منهُنّ؛ فإنهن يريْنَ مالا ترون"[رواه أبو داود: 5105، وأحمد: 14322].

وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أذّنَ المؤذِّن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قُضي التأذينُ أقبل فإذا ثوّب بالصلاة أدبر فإذا قُضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول اذكر كذا، اذكر كذا لِمَا لم يكن يذكر، حتى يضل الرجل لم يدر كم صلّى" [رواه البخاري: 1126، ومسلم: 583].

أيّها المؤمنون: إنّ الجنّ على مذاهب شتى، فمنهم المسلم ومنهم المشرك، ومنهم النصرانيّ ومنهم السنيّ ومنهم البدعيّ، قال الله -عز وجل- حكاية عنهم: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: 10].

وكل نوع من الجِنّ يميل إلى نظيره من الإنس، فالمسلمون مع المسلمين واليهود مع اليهود، والنصارى مع النصارى، والفساق مع الفساق، وأهل الجهل والبدع مع أهل الجهل والبدع.

ولقد أضمر الشيطان وأظهر العداوة لبني آدم، بل لقد تعرضت الشياطين للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تريد أن تؤذيهم وتفسد عبادتهم؛ فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك"، ثم قال: "ألعنك بلعنة الله" ثلاثاً، وبسط يده كأنّه يتناول شيئاً، فلما فرغ من صلاته قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول شيئاً في الصلاة لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك قال: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامّة فلم يستأخر، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوةُ أخينا سليمانَ لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة" [رواه مسلم: 1239].

قلتُ: إذا تعرّض الشيطان لسيّد النّاس وأفضل النّاس وأكمل النّاس وأشجع النّاس وأحب النّاس إلى رب النّاس، فما ظنّك في بقية النّاس؟ ما ظنّكم بالغافل من النّاس؟ وما ظنّكم لمن برز للشيطان ولم يتحرز منه؟ أمثل هذا يسلم منه؟ بل ما ظنّكم فيمن أعان الشيطان على نفسه؟ لا شك أنّه قد أورد نفسه الموارد وسلك بها طريق المهالك. ألا فاستعيذوا بربّ النّاس من شر الوسواس الخنّاس، وتوكلوا عليه واعتصموا به، وفوِّضوا أموركم إليه، ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم.

أعاذنا الله وإيّاكم من شر الشيطان وكيده وجنوده وحزبه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلق الجان من مارج من نار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه من المهاجرين والأنصار، وعلى من سار على نهجه واستنّ بسنّته ما تعاقب الليل والنهار.

أمّا بعد:

في الإيقاظ، قال الحافظ السخاوي: "وقد ثبت لنا عن غير واحد من العلماء والصلحاء اجتماع الجن بهم كما في ترجمة القاضي الخلعي، وأنهم انقطعوا عنه مرة وسألهم عن سبب ذلك، قالوا: إنّ في بيتك الأترج، ونحن لا ندخل بيتاً فيه أترج".

وفي "سير أعلام النبلاء" عن أبي الفضل الجوهري الواعظ قال: "كنت أتردد إلى الخلعي فقمت في ليلة مقمرة ظننت الصبح فإذا على باب مسجده فرس حسنة، فصعدتُ فوجدتُ بين يديه شابّاً لم أرَ أحسن منه يقرأ القرآن فجلست أسمع إلى أن قرأ جُزءاً، ثم قال الشيخ: آجرك الله، قال: نفعك الله، ثم نزل فنزلت خلفه فلما استوى على الفرس طارت به فغشي علي والقاضي يصيح بي اصعد يا أبا الفضل، فصعدت فقال: هذا من مؤمني الجن يأتي في الأسبوع مرّة يقرأ جزءاً ويمضي" [سير أعلام النبلاء: 19/ 76].

أيّها المؤمنون: إنّ أحوال الإنس مع الجنّ مختلفة متعدّدة، ومن ذلك: استخدام الجن من قبل الإنس في الأمور المباحة، والعلاج، ونحو ذلك، هذا ما سوف نتناوله في بعض أجزاء خطبتنا في الجمعة القادمة -بإذن الله -عز وجل-، فصلّوا وسلموا على رسولكم الكريم.