التفكر في مخلوقات الله

عناصر الخطبة

  1. ضعف عظمة الله تعالى في نفوس البعض
  2. انبناء الإيمان على تعظيم الله تعالى
  3. تعظيم الله تعالى من أجَلّ عبادات القلوب
  4. تناسب تعظيم القلب لله تعالى مع معرفته
  5. التربية النبوية في تعظيم الله سبحانه
  6. تأملات لعظمة الله تعالى في آياته
  7. آثار تعظيم الله تعالى في قلوب المؤمنين
اقتباس

على قدر المعرفة يكون تعظيم الرب -تعالى- في القلب، وأعرف الناس به أشدهم لله تعظيماً وإجلالاً، تأمل آيات الله وإعجازه في الكون، في كتاب مقروء، وصفحات مشرقة منظورة، ليمتلئ قلبك إجلالاً وعظمة لله -سبحانه-: (فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شيء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:83].

الخطبة الأولى:

أما بعد : فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. قال -تعالى-: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام:91].

إخوة الإسلام: خفَتَتْ عظمة الله في نفوس بعض المسلمين اليوم، وعظم في نفوسهم قدر قُوى الأرض البشرية، حين رأوا مُنجزات الحضارة المادية ونتاجها العلمي، من هندسة الصفات الوراثية, إلى الاستنساخ, إلى الصواريخ العابرة للقارات, إلى حرب النجوم, وضُروب المدافع والقنابل.

هذا التطور السريع والنمو الكبير في آليات التقدم المادي جعل فئاماً من الخلق يصابون بالانبهار، وتتسرب إلى دواخلهم الرهبة والهلع, وتضطرب نفوسهم, وتهزم عزائمهم، وهذا يحطم المجتمعات, ويزلزل بنيانها, ويحولها إلى مجتمعات حزينة منكسرة يائسة ضائعة, وحريٌّ بالمسلمين حين تهزهم عظمة البشر استحضار عظمة خالق البشر -سبحانه-، الذي يدبر الممالك, يأمر وينهى، يخلق ويرزق، يميت ويحيي، يداول الأيام بين الناس، يقلب الدول فيسحب بدولة ويأتي بأخرى.

إن تعظيم الله -عز وجل- من أجلّ العبادات القلبية, وأهم أعمال القلوب التي يتعين ترقيقها وتزكية النفوس بها، لا سيما وأنه ظهر في زماننا ما يخالف تعظيم الله -تعالى- من الاستخفاف والاستهزاء بشعائر الله، والتطاول على الثوابت, والتسفيه والازدراء لدين الله، مع ما أصاب الأمة من وهنٍ وخورٍ وهزيمةٍ نفسية، قال -تعالى-: ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ [نوح:13]

إن الإيمان بالله -عباد الله- مبني على التعظيم والإجلال له -عز وجل-، قال -تعالى-: ﴿تَكَادُ السَّمَاواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ [مريم:90]، قال المفسرون: يتشققن من عظمة الله -عز وجل-.

منزلة التعظيم تابعة للمعرفة, فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب -تعالى- في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيماً وإجلالاً. وقد ذم الله -تعالى- من لم يعظمه حق عظمته, ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، فقال: ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ [نوح:13]، قال المفسرون: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته.

تعظيم الله وإجلاله -عباد الله- لا يتحقق إلا بإثبات الصفات له كما يليق به -سبحانه-، وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت.

لقد كان نبينا يربي أمته على وجوب تعظيم الله، ففي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد, إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر, ثم قرأ رسول الله: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:67].

وورد من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، ورسول الله يقول هكذا بيده ويحركها، يقبلُ بها ويدبر، يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك, أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله المنبر حتى قلنا: ليخرن به. رواه أحمد ومسلم.

فالله -تعالى- هو الكريم العظيم, الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، أجل وأعلى، هو وحده الخالق لهذا العالم، لا يقع شيء في الكون من حركة أو سكون, أو رفعٍ أو خفض, أو عز أو ذل, أو عطاءٍ أو منع، إلا بإذنه -سبحانه-، يفعل ما يشاء, ولا يُمانع ولا يُغالب.

ولما قال الأعرابي لرسول الله: فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله: "ويحك! أتدري ما تقول؟!"، وسبّحَ رسول الله, فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه, ثم قال: "ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه, شأن الله أعظم من ذلك" أخرجه أبو داود وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.

عباد الله، على قدر المعرفة يكون تعظيم الرب -تعالى- في القلب، وأعرف الناس به أشدهم لله تعظيماً وإجلالاً، تأمل آيات الله وإعجازه في الكون، في كتاب مقروء، وصفحات مشرقة منظورة، ليمتلئ قلبك إجلالاً وعظمة لله -سبحانه-: (فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شيء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:83]؛ تجد أمامك نافذة واسعة سعة الكون كله، إعجاز باهر, وآيات كريمة قد كتبت بحروفٍ كبيرة واضحة على صفحات الكون كله، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شيء وَهُوَ عَلَى كُلّ شيء وَكِيلٌ (62) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ(63)﴾ [الزمر:62-63].  

انظر إلى الشمس والقمر يدوران، والليل والنهار يتقلبان, بل انظر إلى تكوين نفسك وتركيب جسمك: من ذا الذي جعله بهذا التركيب وهذا النظام العجيب؟ (وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21]؟.

فكر في النبات والشجر, والفاكهة والتمر، وفي البحر والنهر، إذا طاف عقلك في الكائنات, ونظرك في الأرض والسموات، رأيت على صفحاتها قدرة الله, وامتلأ قلبك بالإيمان بالله، وانطلق لسانك بلا إله إلا الله، وخضعت مشاعرك لسلطان الله،  يقول -عز وجل-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ اله غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ اله غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ) [القصص:71-72].

ماذا نفعل لو لم تطلع الشمس؟! ماذا نفعل إذا غاب القمر ولم يظهر؟! كيف نعيش؟ كيف نزرع؟ كيف نأكل؟ بل، كيف نتعلم ونعلم غيرنا؟ (هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ يُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس:5]. 

إن من تفكر في ذلك خاف اللهَ -تعالى- لا محالة؛ لأن الفكر يوقعه على صفات جلال الله وكبريائه، فهو -سبحانه- العزيز الكريم المتعال الواحد القهار، هو -سبحانه- القهار الذي قهر كل شيء وغلبه، والذي لا يطاق انتقامه، مُذلّ الجبابرة, قاسم ظهور الملوك والأكاسرة، هو -سبحانه- القوي الذي تتصاغر كل قوة أمام قوته، ويتضاءل كل عظيم أمام ذكر عظمته.

  إن هذا الجيل، الذي صده عن السبيل الاستكبار, وعلاه الغرور, وأسكره الترف, وجعل كتاب ربه وراءه ظِهرياً، بحاجة ماسّةٍ إلى أن يعرف ربه حقاً، ويعظمه صدقاً, بتدبر أسماء الله الحسنى، التأمل في آياته، التفكر في إعجازه، فمن استيقن قلبه هذه المعاني لا يرهب غير الله، ولا يخاف سواه، ولا يرجو غيره، ولا يتحاكم إلا له، ولا يذل إلا لعظمته، ولا يحب غيره.

أما الذين يهجرون القرآن, ويرتكبون المحرمات, ويفرطون في الطاعات؛ أما الذين يتحاكمون إلى شرع غير الله، ما قدروا الله حق قدره، الذين يسخرون من الدين ويحاربون أولياء الله, ويستهزئون بسنة سيد البشر, ما قدروا الله حق قدره، من شهد قلبه عظمة الله وكبرياءه علم شأن تحذيره -جل وعلا- في قوله : ﴿وَيُحَذّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران :28]، قال المفسرون: "أي : فخافوه واخشوه.

ولأجل شهود صفات عظمته -سبحانه- وجلت قلوب المؤمنين لمجرد ذكره -تعالى-، كما قال -سبحانه-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال:2]، ويقول -سبحانه-: (وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحج:34-35]. 

هذه -عباد الله- بعض عظمته -سبحانه- مما تتحمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل، فمِن هذا بعض عظمته؛ كيف يجعل في رتبته مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟! فالذين لا يقدّرون الله حق قدره, ولا يعظمونه حق عظمته, تصاب نفوسهم بالوهن, وتمتلئ قلوبهم برهبة البشر، والهزيمة النفسية التي تظل تلاحقهم مهما أوتوا من قوة ونالوا من عدة وعدد، والهزيمة النفسية هي من أنكى الهزائم وأشدها خطراً على مستقبل الأمة, قال -تعالى-: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:139].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى, وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, صاحب النهج السوي والخلق الأسمى, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

إن امتلاء القلب بعظمة الله يولّد ثقة مطلقة بالله، ويجعل المسلم هادئ البال، ساكن النفس، مهما ادلهمت الخطوب.

إن استشعار عظمة الله تملأ القلب رضاً وصبراً جميلاً، فلا يحزننا تقلّب الذين كفروا في البلاد، فإنهم -مهما علوا وتجبروا- لن يصلوا إلى مطامعهم، ولن يحققوا أهدافهم الدنيئة، فالله هو القوي الذي لا يغلب.

لقد بلغ فرعون ما بلغ من طغيان، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ) [القصص:4]، فماذا كانت نتيجة الطغيان؟ (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الذاريات:40].

إن معرفتنا بعظمة الله تورث القلب الشعور الحي بمعيّته -سبحانه- التي تفيض السكينة في المحن، والبصيرة في الفتن، فعندما لجأ رسولنا إلى الغار, واقترب الأعداء حتى كانوا قاب قوسين أو أدنى, شاهرين سيوفهم، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، فرد عليه رسولنا، بكل ثقة: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" متفق عليه.    

إن استشعار عظمة الله ومعيته تبعث في النفس معنى الثبات والعزة, وتقوي العزائم حتى في أشد حالات الضنك، وقد كانت هذه الحقائق جلية عند الصحابة، حتى مع الحصار الاقتصادي والاجتماعي في شِعب أبي طالب، ولم تمض سوى أعوام حتى فتح الله على أبي بكر وعمر وغيرهم أعظم انتصارات.

ومن قبل يقف موسى وجنوده عند شاطئ البحر، فيقول بعضهم: إن فرعون من ورائنا، والبحر من أمامنا؛ فأين الخلاص؟! ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء:61]، فيرد نبي الله موسى -عليه السلام- باستشعار لعظمة الله، وثقة كاملةٍ بموعود الله: (إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62]، فكان بعدها النصر والتمكين.

ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد…