صلح الحديبية

عناصر الخطبة

  1. خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى العمرة
  2. منع قريش دخول النبي وأصحابه إلى مكة
  3. أسباب صلح الحديبية
  4. شروط صلح الحديبية
  5. دروس وعبر من صلح الحديبية.
اقتباس

إن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيرة عطرة وأيامه أيام عظيمة يحق لنا أن نقف عندها وأن نتذاكرها، فنريد اليوم أن نتذاكر وإياكم حدثاً عظيماً من أحداث السيرة النبوية “وقعة الحديبية”.. تطورت الأمور في الجزيرة العربية إلى حدٍ كبيرٍ لصالح المسلمين ونجحت الدعوة الإسلامية نجاحاً عظيماً في كثير من النواحي والأقاليم فرأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المنام وهو في المدينة النبوية أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بذلك، ففرحوا فرحاً كبيراً بهذه الرؤية، واشتاقوا شوقاً عظيماً للمسجد الحرام الذي صدهم عنه…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيرة عطرة وأيامه أيام عظيمة يحق لنا أن نقف عندها وأن نتذاكرها، فنريد اليوم أن نتذاكر وإياكم حدثاً عظيماً من أحداث السيرة النبوية وقع في مثل هذا الشهر شهر ذي القعدة إنها "وقعة الحديبية".

تطورت الأمور في الجزيرة العربية إلى حدٍ كبيرٍ لصالح المسلمين ونجحت الدعوة الإسلامية نجاحاً عظيماً في كثير من النواحي والأقاليم فرأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المنام وهو في المدينة النبوية أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بذلك، ففرحوا فرحاً كبيراً بهذه الرؤية، واشتاقوا شوقاً عظيماً للمسجد الحرام الذي صدهم عنه المشركون لمدة ستة أعوام، وتجهز النبي -صلى الله عليه وسلم- لأداء العمرة وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر واستخلف على المدينة عبدالله بن أم مكتوم وركب ناقته القصواء ومعه زوجته أم سلمة وألف وأربعمائة من أصحابه ولم يخرج معه بسلاح إلا سلاح المسافر.

فلما وصل ذا الحليفة قلّد الهدي وأحرم بالعمرة، وأرسل عيناً له ليأتيه بخبر المشركين فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أن المشركين قد جمعوا له الأحابيش وأخبره أنهم مقاتلوك وصادوك عن المسجد الحرام، فاستشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فقال أبو بكر: "إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه.

ولكن المشركين أصروا على أن يحولوا بين المسلمين وبين المسجد الحرام، فأنزلوا مائتي فارس بقيادة خالد بن الوليد على الطريق الرئيسي الذي يُوصل إلى مكة لصد المسلمين عن الوصول إلى مكة فتراءى الجيشان، فرأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون، فقال لقد كانوا على غرة لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، فقرر أن يحمل عليهم في صلاة العصر، ويميل عليهم ميلة واحدة فأنزل الله تعالى صلاة الخوف ففاتت الفرصة خالداً ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء: 102].

وفي هذه الأثناء جاء بديل الخزاعي يتوسط بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش فقال: إن القوم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإن أبوا إلا القتال فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره".

 فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشاً، فقال لهم: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل وسمعته يقول قولاً، فإن شئتم عرضته عليكم فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته، فقال سمعته يقول كذا وكذا.

فبعثت قريش رجلاً آخر يقال له "مكرز بن حفص" فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال هذا رجل غادر فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال للأول فرجع إلى قريش فأخبرهم فأرسلوا رجلاً ثالثاً يسمى "الحليس بن علقمة"، فلما أشرف على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قال -صلى الله عليه وسلم- هذا فلان وهو من قوم يُعظّمون البدن فابعثوها له فبعثوها له، واستقبله الصحابة وهم يلبّون، فلما رآهم كذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدُّوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال لهم: رأيت البدن قُلدت وأُشعرت، وما أرى أن يُصدُّوا عن البيت، فجرى بينه وبينهم كلام.

ثم أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ما قال لمن قبله ورأى عروة إجلال الصحابة وتعظيمهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رجع إلى قومه قال لهم: "لقد وفدت على الملوك والأمراء فو الله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمداً".

ولما رأى شباب قريش الطائشون الطامحون للحرب رغبة زعمائهم في الصلح وإرسالهم للمصلحين فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح فقرروا أن يخرجوا ليلاً ويتسللوا إلى معسكر المسلمين ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب فخرج منهم سبعون أو ثمانون وتسللوا في الليل إلى معسكر المسلمين غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس الإسلامي اعتقلهم جميعاً ورغبة في الصلح أطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- سراحهم وعفا عنهم فأنزل الله ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الفتح: 24].

وفي هذه الأثناء بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن عفان سفيراً له إلى قريش ليؤكد لهم موقفه وهدفه وأنه -صلى الله عليه وسلم- جاء للعمرة ولم يجئ للقتال وقال له أخبرهم أنا لم نأتِ لقتال وإنما جئنا عماراً، وأمره أن يُبشر رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات بمكة بفتح مكة وأن الله مظهر دينه بها.

فانطلق عثمان -رضي الله عنه- وبلّغ الرسالة إلى زعماء قريش فعرضوا عليه أن يطوف بيت، ولكنه رفض هذا العرض وأبى أن يطوف حتى يطوف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتأخر المشركون في الرد على عثمان وتركوه عندهم حتى يتشاوروا فيما بينهم ثم يردوا معه الجواب على رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- فطالت فترة جلوسه عندهم فشاع بين المسلمين أن عثمان -رضي الله عنه- قد قتله المشركون، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بلغته تلك الإشاعة بمبايعة أصحابه على الثأر لمقتله، فثار الناس إليه يبايعونه -صلى الله عليه وسلم- حتى بايعه جماعة منهم على الموت وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيد نفسه وقال هذه عن عثمان.

ولما تمت البيعة جاء عثمان ففرح المسلمون بمجيئه سالماً فرحاً شديداً وقد تمت هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذاً بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- والناس يبايعونه ومعقل بن يسار آخذاً بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسميت هذه البيعة ببيعة الرضوان التي أنزل الله فيها ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(19)﴾ [الفتح: 18، 19].

أقول قولي هذا …

الخطبة الثانية:

الحمد لله…

عرفت قريش حراجة الموقف فأسرعت إلى بعث سهيل بن عمرو لعقد الصلح، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سهيلاً قال للمسلمين: "لقد سهل أمركم أرادوا الصلح حين بعثوا هذا الرجل"، فجاء سهيل فتكلم طويلاً ثم اتفقا على قواعد الصلح وهي أن يرجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عامه هذا فلا يدخل مكة، فإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً معهم سلاح الراكب ولا تتعرض لهم قريش بأي نوع من أنواع التعرض.

ثانياً: وضع الحرب بين الطرفين لمدة عشر سنوات.

ثالثاً: من أحب من القبائل أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها فليدخل، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخلت بنو بكر في عهد قريش.

رابعاً: من أتى إلى المسلمين من قريش من غير إذن وليه رده إليهم ومن جاء قريشاً من المسلمين أي هارباً منهم لا ترده قريش ثم دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- علياً ليكتب هذا الاتفاق فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل بن عمرو أما الرحمن فلا ندري ما هو، اكتب باسمك اللهم، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- علياً بذلك، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعليّ اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-، إني رسول الله وإن كذبتموني.

 وأمر علياً أن يمحوا محمد رسول الله، ويكتب محمد بن عبدالله فأبى أن يمحوا هذا اللفظ فمحاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده وبينما الكتاب يكتب إذ جاء رجل من المسلمين المستضعفين في مكة يسمى "أبو جندل" جاء يرسف في قيوده فرمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل بن عمرو: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إنّا لم نقضِ الكتاب بعد. فقال: فوالله إذاً لا أقاضيك على شيء أبداً. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أجزه لي، فقال: ما أنا بمجيزه لك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: بلى فافعل، فقال: ما أنا بفاعل.

 فجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته ويقول يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنّا عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم ووثب عمر يُصبّر أبا جندل ويواسيه.

ثم جئن نساء مؤمنات مستضعفات في مكة فطلب أولياؤهن من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يردهن فرفض النبي -صلى الله عليه وسلم- طلبهم هذا لأن بند الاتفاق ينص على أنه لا يأتيك منا رجل إلا رددته علينا وهؤلاء نسوة لم يدخلن في العقد أصلاً فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10].

تبرم المسلمون في بداية الأمر من هذا الاتفاق وهذا الصلح الذي تم في الحديبية ورأوا أن فيه غبناً ودنية للمسلمين فهم خرجوا لأداء العمرة ولكن الاتفاق نص على أن يرجعوا هذا العام من غير عمرة ويأتوا في العام القادم، وفيه أن من أتى المسلمين من قريش يرد ومن أتى قريشاً من المسلمين لا يرد؛ فجاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بلى" قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال: "بلى" قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا عمر إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ولن يضيعني أبداً" فقال عمر: ألم تحدثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "فأخبرتك أنّا نأتيه هذا العام؟" قال: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به".

 فانطلق عمر إلى أبي بكر متغيظاً فقال له كما قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له أبوبكر استمسك بغرزه حتى تموت فو الله إنه لعلى الحق فأنزل الله بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(4)﴾ [الفتح: 1 – 4].

فسمى الله -سبحانه وتعالى- هذا الصلح فتحاً مبيناً، فلما قرأ عمر هذه الآيات ندم ندماً شديداً على اعتراضه، وقال: يا رسول الله! أفتح هو؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال عمر: فمازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق مخافة مما صنعت.

وفعلاً كان هذا الصلح فتحاً مبيناً فإن المشركين كانوا لا يعترفون بالمسلمين ولا يلقوا لهم أية اعتراف بل كانوا مصممين على استئصالهم والقضاء عليهم ودحرهم بدون قيد أو شرط، فإذا بهم اليوم يفاوضونهم ويصالحونهم، وهذا في حد ذاته يعد هزيمة واعتراف منهم بقوة المسلمين وأثر وجودهم وفعلاً رجع المسلمون من العام القادم فاعترضهم المشركون فتم الفتح الأكبر فتح مكة عنوة أي قوة.

وأما البند الثاني وهو وضع الحرب لمدة عشر سنين فهو أيضاً لصالح المسلمين فإن المسلمين لا يحاربون لإبادة الأرواح وإفناء الناس وقتلهم، وإنما كانوا يحاربون القوات التي تصد الناس عن الدين وتحول بينهم وبين الإيمان، فمادام أن الدعوة الإسلامية ستمضي وتسير بلا اعتراض من أحد فهذا هو الهدف الذي يريده المسلمون فإن حربهم للكافرين كان الهدف منها القضاء على من يقف في وجه الدعوة، وقد حصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه في هذا البند، فتفرغ المسلمون لنشر الدعوة بعد أن كانوا منشغلين بحرب من يقف في وجهها وفعلاً فقد كان عدد المسلمين قبل هذه الهدنة ثلاثة آلاف مسلم وبعد الهدنة صار عددهم عشرة آلاف منهم رجال من كبار قريش أسلموا كعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن أبي طلحة، وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يكاتب الملوك والأمراء ويدعوهم إلى الإسلام.

وأما البند الذي ينص على أن من أتى محمد من قريش رده عليهم ومن جاء قريشاً من المسلمين لا يرد فليس فيه ما يشفي قريشاً فإن من المعلوم عند المسلمين أن من آمن منهم وذاق حلاوة الإيمان فإنه لا يمكن أبداً أن يرجع للشرك أو يعود للظلمات بعد إذ أنقذه الله منها، وإذا قُدر أن أحداً منهم ارتد عن دينه ورجع إلى المشركين فإنه لا حاجة للمسلمين فيه وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الإمام مسلم "من ذهب منا إليهم فأبعده الله".

 وأما من أراد من المسلمين المستضعفين في مكة اللجوء إلى المسلمين في المدينة فإن عليه أن يلجأ لبلد غير المدينة لأن الاتفاق ينص على أنه إذا جاء أحد منهم إلى المدينة فليرد فعليه أن يذهب إلى بلد غير المدينة فأرض الله واسعة حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً فيلتحق بالمسلمين في المدينة وقد هاجر المسلمون في بداية الدعوة إلى الحبشة قبل أن يهاجروا إلى المدينة وهكذا تجلت حكمة الله في هذا الاتفاق الذي سماه الله فتحاً مبيناً ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)﴾ [الفتح: 1-3] وظهرت حنكة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعبقريته وقيادته حين سلم الأمر لله فقال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ولن يضيعني أبداً".

وصلوا وسلموا…