بر الوالدين

عناصر الخطبة

  1. احتياج الناس إلى تذكيرهم بالحقوق
  2. حق الوالدين أكبر الحقوق بعد حق الله تعالى
  3. معنى بر الوالدين وكيف يكون
  4. فضل بر الوالدين
  5. كيف نعامل آباءنا وأمهاتنا؟!
  6. الجزاء من جنس العمل
  7. من صور العقوق
اقتباس

قال الأصمعي: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت من الحي أطلب أعقّ الناس وأبرّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد، وخلفه شاب في يديه رشاء من قدٍّ ملويّ يضربه به، قد شقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟! قال…

الخطبة الأولى:

الحمد لله…

أما بعد:

أيها المؤمنون: إن مما يحتاج إليه الناس في هذا الزمن تذكيرهم بالحقوق الواجبة عليهم؛ لما يترتب عليه من قوام العيش وسعادة العبد في الدنيا والآخرة، إن أكبر الحقوق على العبد المسلم بعد حق الله تعالى المتضمن لحق رسوله، هو حق الوالدين، ولهذا نص سبحانه على فضل حقهما وقرنه بحقه سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ [النساء: 36]، ولقد أوصى الله بصحبة الوالدين، ولو كانا كافرين، حتى ولو أمراه بالكفر، فلا يطيعهما في الكفر، ويصاحبهما في الدنيا معروفًا.

﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً(15)﴾ [لقمان: 14، 15]، ولقد أثنى الله تعالى على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، فخص بالذكر منهم يحيى -عليه السلام-؛ لأنه كان برًّا بوالديه على كبر سنهما، والبر في وقت الكبر -وهو وقت الحاجة- أعظم منه في غيره ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً﴾ [مريم: 14].

وأطرى على عيسى -عليه السلام- لتفانيه في خدمة أمه واعتزازه ببرها، واعترافه بفضلها، وخفض الجناح لها: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ [مريم: 32].

عباد الله: إن كثيرًا من الخلق لا يعلمون معنى البر بالوالدين، إن البر هو الإحسان بكل ما تحويه هذه الكلمة، ومنها حسن الخلق مع الوالدين، ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجه مسلم من حديث أبي النواس بن سمعان: "البر حسن الخلق".

أيها المسلمون: إن بر الوالدين يكون ببذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال، أما الإحسان بالقول، فأن يخاطبهما باللين واللطف، مستصحبًا كل لفظ طيب، يدل على اللين والتكريم، وأما الإحسان بالفعل فأن تخدمهما ببدنك ما استطعت، من قضاء الحوائج والمساعدة على شؤونهما وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك ودنياك، والله أعلم بما يضرك في ذلك، فلا تفت نفسك في شيء لا يضرك بأنه يضرك، ثم لا تعصهم بعد ذلك.

وأما الإحسان بالمال فأن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه منشرحًا به صدرك، غير متبع له منة ولا أذى، بل تبذله وأنت ترى أن المنة لهما في ذلك في قبوله والانتفاع به.

أيها المؤمنون: لا يليق بعاقل مؤمن أن يعلم فضل بر الوالدين وآثاره الحميدة في الدنيا والآخرة ثم يعزف عنه ولا يقوم به.

ولقد تكاثرت النصوص الواردة في فضل البر والأمر به، فمن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل بر الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله، أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أحب إلى الله؟! قال: "الصلاة على وقتها"، فقلت: ثم أي؟! قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟! قال: "الجهاد في سبيل الله".

وأخرج مسلم في صحيحه أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: "فتبتغي الأجر من الله؟!"، قال: نعم، قال: "ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما".

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف؛ رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنة"، وإن البر بالوالدين من أعظم الصلة للرحم التي بها تحصل البركة في المال والعمر.

أخرج البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سرّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه"، ومن فضل البر أنه باب من أبواب الجنة، أخرج الإمام أحمد من حديث جاهمة السلمي -رضي الله عنه- أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أردت الغزو، وجئتك أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟!"، قال: نعم، فقال: "الزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها".

سبحان الله!! مسكين من أدرك بابًا من أبواب الجنة ثم أعرض عنه ساهيًا لاهيًا، مسكين يا من ترفع صوتك على أصواتهما، ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ [الإسراء: 23]، مسكين يا من يقدم رضا زوجته على رضا والديه، لقد عوقب جريج العابد عندما قدم صلاة النافلة على إجابة أمه، فكيف بمن قدم زوجته على أمه.

لقد أخبر سبحانه عن الأولاد والزوجة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ﴾ [التغابن: 14]، وقال: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: 15]، وأخبر عن الوالدين بأنهما رحمة ونجاة ووصى بهما، ذكر ابن الجوزي أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: "إن لي أمَّا بلغ بها الكبر، وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضِّئها وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟!"، قال: لا، قال: أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها؟! قال: "إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها".

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: كيف نعامل آباءنا وأمهاتنا؟!

قال ابن محيريز -رحمه الله-: "من مشى بين يدي أبيه فقد عقَّه، إلا أن يمشي فيميط له الأذى عن طريقه، ومن دعا أباه باسمه أو بكنيته فقد عقّه، إلا أن يقول: يا أبه".

وقال فرقد: "قرأت في بعض الكتب: ما بر ولد مَدَّ بَصَرَهُ إلى والديه، ولا ينبغي للولد أن يمشي بين يدي والديه، ولا يتكلم إذا شهدا، ولا يمشي عن يمينهما ولا عن يسارهما، إلا أن يدعوانه فيجيبهما، أو يأمرانه فيطيعهما، ولكن يمشي خلفها مثل عبدٍ ذليل".

وقال مجاهد: "لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده عنه إذا ضربه، ومن شد النظر إلى والديه فلم يبرهما، ومن أدخل عليهما حزنًا فقد عقّهما".

عن أنس بن النضر الأشجعي قال: "استقت أم ابن سعود ماءً في هجعة الليالي، فذهب فجاءها بشربة فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت بالشربة عند رأسها حتى أصبح".

وكان حيوة بن شرع -وهو أحد أئمة المسلمين في زمانه- يقعد في حلقته يعلم الناس، فتقول أمه: "قم يا حيوه فألق الشعير للدجاج"، فيقوم ويترك التعليم.

وجاء عن ابن عون أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.

وكان كهمس الدعاء يعمل كل يوم بدانقين، فإذا أمسى اشترى بهما فاكهة، فأتى بها إلى أمه.

ولقد كان علي بن الحسين زين العابدين يضرب ببره لأمه المثل، وكان لا يأكل مع أمه، فقيل له في ذلك، فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها".

اللهم ارزقنا البر بوالدينا، وارحمهما كما ربونا صغارًا.

الخطبة الثانية:

أيها المؤمنون: إن البر بالوالدين من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، قال -جل ذكره-: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ [الإسراء: 24]، انظروا -عباد الله- كيف أمر المسلم بأن يكون لهما كالطائر الحنون على فراخه، فلا تمشِ إليهما، بل كن كالطائر في سرعة إجابتهما والوصول إلى رضاهما، ومع ذلك الجهاد كله فأنت مقصر، ولكن أتبع تقصيرك العملي بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة.

كان أبو هريرة في بيت وأمه في بيت، فإذا أراد الخروج وقف على بابها، وقال: "السلام عليكم -يا أماه- ورحمة الله وبركاته"، فترد عليه، فيقول: "رحمك الله كما ربيتني صغيرًا"، فتقول له: "رحمك الله كما بررتني كبيرًا". وإذا دخل قال ذلك.

ثم إنه ينبغي أن يسعى الوالدان في إعانة أولادهم على برهم بهم، فعليك -أيها الأب- أن لا تكلفهم من البر فوق طاقتهم، وأن لا تلحَّ عليهم وقت ضجرهم، ولا تمنعهم مما يحبون، خشية أن يعصوك فيستوجبوا النار بذلك.

قال أبو الليث: "كان بعض الصالحين لا يأمر ولده مخافة أن يعصيه في ذلك فيستوجب النار".

عباد الله: إن من فضل البر أن لا يتوقف على حياة الوالدين، بل إن برّهما ليتصل بعد الموت، بالدعاء لهما، والصدقة عنهما، أخرج الإمام أحمد من حديث مالك بن ربيعة الأسلمي قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: هل بقي عليّ من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟! قال: "نعم، خصالٌ أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما".

لما ماتت أم إياس بن معاوية بكى فقيل له: ما يبكيك؟! قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، وأغلق أحدهما.

وأخرج مسلم في صحيحه أن ابن عمر -رضي الله عنهما- لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله، إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أبرّ البر صلة الرجل أهل ود أبيه".

ثم اعلموا -عباد الله- أن من بر بوالديه بر به أولاده، ومن عقهما عقوه، وهو من الدين الذي لا بد من قضائه إلا أن يشاء الله تعالى.

قال الأصمعي: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت من الحي أطلب أعقّ الناس وأبرّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد، وخلفه شاب في يديه رشاء من قدٍّ ملويّ يضربه به، قد شقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟! قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيرًا، قال: اسكت، هكذا كان هو يصنع بأبيه، وكذا كان يصنع أبوه وجده.

ويذكر أن عاقًّا كان يجر أباه برجله إلى الباب ليخرجه من الدار، فكان له ولد أعق منه، وكان يجره برجله إلى الشارع، فإذا بلغ به الباب قال الأب: حسبك، ما كنت أجر أبي إلا إلى هذا المكان، فيقول ولده: هذا جزاؤك، والزائد صدقة مني عليك.

فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا، فيتبين لكم أن الحياة دين ووفاء، وأنك كما تدين تدان، فعامل أبويك بما تحب أن يعاملك به بنوك، ولا يكن هذا هو هدفك فحسب، فإن هذا هدف دنيوي، بل اجعل ابتغاء وجه الله أمام عينيك يكمل إخلاصك وتنال مرادك.

أيها المسلمون، يا من رزقه الله والدين حيَّيْن أو أحدهما: وصية الله إليك من فوق سبع سماوات، من كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ها هما بجوارك، قد دب المشيب إليهما، واحدودب منهما الظهر، وارتعشت الأطراف، عليك بوصية الله منهما، أَلِنْ جانبك لهما، وارع حقهما، وقبِّل رأسهما، واسكب الدمعة في الدعاء لهما بالرحمة، علّ الله أن يعفو عن تقصيرك في حقهما.