عشر ذي الحجة .. قدرها وكيف أتعبد الله فيها؟

عناصر الخطبة

  1. من فضائل عشر ذي الحجة
  2. فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة
  3. العبادات المشروعة في عشر ذي الحجة
اقتباس

أيها الإخوة المؤمنون: عشر ذي الحجة من أيام الأشهر المحرمة، فهذه الأشهر الحرم عظيمة المكانة والحرمة في ديننا، ونحن في شهر منها عظيم الحرمة والمكانة، إنه شهر ذي الحجة، فهو شهر معظم مبجل محرم، ففيه يحج المؤمنون إلى بيت الله الحرام، ويؤدّون ركنا عظيما من أركان الحج، وفيه عيد الأضحى، وفيه تذبح الأضاحي في بقاع الأرض عامة، وفيه يذبح الهدي في أرض الحرم المباركة خاصة، وفيه أيام التشريق، وفيه…

الخطبة الأولى:

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان.

وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله..

وبعد:

إن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب في حجة الوداع، فقال: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".

وهو قول الله -تعالى-: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾[التوبة: 36].

أيها الإخوة المؤمنون: عشر ذي الحجة من أيام الأشهر المحرمة، فهذه الأشهر الحرم عظيمة المكانة والحرمة في ديننا، ونحن في شهر منها عظيم الحرمة والمكانة، إنه شهر ذي الحجة، فهو شهر معظم مبجل محرم، ففيه يحج المؤمنون إلى بيت الله الحرام، ويؤدّون ركنا عظيما من أركان الحج، وفيه عيد الأضحى، وفيه تذبح الأضاحي في بقاع الأرض عامة، وفيه يذبح الهدي في أرض الحرم المباركة خاصة، وفيه أيام التشريق، وفيه يوم عرفة المشهود، وفيه عشر ذي الحجة المباركة، التي تظلنا بظلالها الطيبة.

عباد الله: ما منزلة هذه الأيام كما يقررها الوحي المعصوم؟

هذه الأيام العشر، عظمها ربنا في القرآن بأن أقسم -سبحانه- بها في كتابة، فقال: ﴿وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)﴾[الفجر: 1-2].

والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين من السلف والخلف.

وقال ابن كثير في تفسيره: "وهو الصحيح".

وروى أحمد عن جابر مرفوعا: "أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)﴾"[الفجر:1-2].

وإذا أقسم الله بشيء دل هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم.

وقال -تعالى- في تعظيم هذه الأيام: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾[الحج: 28].

وجمهور العلماء، ومنهم ابن عمر وابن عباس على أن الأيام المعلومات، هي: عشر ذي الحجة.

 هذه الأيام العشر، أيام معظمة عند الله، عظيمة القدر، رفيعة المنزلة؛ ففي حديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام أعظم عند الله من هذه الأيام العشر".

 هذه الأيام العشر، هي أفضل أيام الدنيا على الإطلاق؛ وروى جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر" -يعني عشر ذي الحجة-[رواه ابن حبان وصححه الألباني].

هذه الأيام العشر، معظمة الشأن عند سلف هذه الأمة، كما قال أبو عثمان النهدي -رحمه الله-: "كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأَوَّلَ من ذي الحجة، والعشر الأَوَّلَ من المحرم".

أيها المؤمنون والمؤمنات: ما قدر العمل فيها كما أخبر الوحي؟

هذه الأيام التي عظمها ربنا -سبحانه- ورفع قدرها وبارك زمانها، النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعانا ورغبنا إلى أن نرضي ربنا فيها، لا أنْ نُسْخطه ونغضبه، ولكن كيف نرضي ربّنا في هذه الأيام، ترضيه أيها العبد المؤمن بأن تفعل ما يحبه ربك منك في هذه الأيام.

فالعمل الصالح في هذه الأيام العشر، محبوب إلى الله -تعالى-، والعمل الصالح في هذه الأيام العشر يختلف عن العمل الصالح في غيرها، قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعنى أيام العشر-، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".

فالعمل الصالح في هذه الأيام محبوب إلى الله، والعامل للصالحات فيها محبوب عند الله -تعالى-، لا مجال لمقارنة العمل الصالح بغيره، لا يوازيه شيء، لا يساويه شيء إلا عمل صالح وحيد فريد، قلّ مَنْ يقدر عليه، وندَر من يفعله أو من يتهيؤ له فعله، وييسر عليه، إنه عمل المجاهد الغازي في سبيل الله، الذي يخرج بنفسه ويخرج بماله، أما نفسه الغالية فتقتل في سبيل الله، وأما ماله النفيس فينفقه كله في الجهاد في سبيل الله، فلا يرجع بشيء لا بنفسه ولا بماله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".

وَرَوى جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر – يعني عشر ذي الحجة- قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب"[رواه ابن حبان وصححه الألباني].

قال العلماء: "فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر، وأما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله -عز وجل- منهما، وكذلك سائر الأعمال.

وهذا يدل على أن العَمل المفْضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره".

نعم -أيها المؤمنون العاملون-: العمل الصالح في هذه الأيام مبارك ومزكّى، والعمل الصالح في هذه الأيام مضاعف أجره وكثيرة حسناته، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عمل أزكى عند الله -عز وجل-، ولا أعظمُ أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى"[رواه الدارمي بإسناد حسن].

قال ابن رجب -رحمه الله-: "دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده".

 عباد الله: يبقى السؤال الأهم: كيف أتعبد الله في هذه الأيام المباركات؟ كيف أحييها بما يرضي الله؟

النبي -صلى الله عليه وسلم- رغب أمته بالعمل الصالح في هذه الأيام العشر، فكل عمل صالح محبوب إلى الله وفي مقدمة هذه الأعمال: الإكثار من ذكر الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العملُ فيهن، من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".

فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لذكر الله خصوصية في هذه الأيام.

قال البخاري: "وكان ابن عمر، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما".

فيا أيها المؤمن ويا أيتها المؤمنة، يا عبدالله، يا من ترغب أن تتعبد الله في هذه الأيام المباركات: أكثر من عبادة الذكر؛ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: "يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".

وعَنْ أَبِى عَيَّاشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ كَانَ لَهُ عِدْلُ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ فِي حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِىَ، وَإِنْ قَالَهَا إِذَا أَمْسَى كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ".

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ أَنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِىَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِىَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: "مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا" قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ".

وأكثر من عبادة: الصيام؛ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِي -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا".

وأكثر من عبادة: الدعاء؛ عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يدعو، ليس بإثم ولا بقطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها" قال: إذاً نكثر، قال: "الله أكثر"[حديث صحيح].

وأكثر من عبادة: قراءة القرآن؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص] حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة" فقال عمر: إذن نستكثر قصورا يا رسول الله،  فقال: "الله أكثر وأطيب"[حديث صحيح].

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ -مواضع قرب المدنة تباع بها الإبل- فَيَأْتِي مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ" فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: "أَفَلاَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمَ أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -عز وجل- خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ".

وأكثر من عبادة: الصدقات؛ عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ليربى لأحدكم التمرة واللقمة كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد".

أقول قولـي هـذا، وأستـــغفر الله…

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

نعم -أيها المؤمنون العاملون-: نريد في هذه العشر أن نري الله منا ما يحب أن يراه في هذه العشر، إنه الإكثار، نعم الإكثار من عمل الصالحات، فكثر -يا عبد الله-، أكثر من عبادة الصلاة، أكثر من النوافل؛ فعن مَعْدَانُ بْنُ أَبِى طَلْحَةَ الْيَعْمَرِي قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً".

وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى عَمْرَةَ دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ فَقَعَدَ وَحْدَهُ فَقَعَدْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ".

وأبواب البر وعمل الصالحات كثير وواسع، فاغتنم -يا مسلم-: هذه الأيام، وكن من الذين يعملون فيها ما يحبه الله من العمال الصالحات، فتكن بذلك من المحبوبين عند الله.

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا، يا رب العالمين…