الصبر عدة الصالحين

عناصر الخطبة

  1. فضل الصبر من القرآن والسنة
  2. منزلة الصبر من الإيمان
  3. معاني الصبر وحقيقته
  4. أنواع الصبر وأقسامه
  5. أمور منافية للصبر
  6. صبر إبراهيم وأبنه على البلاء.
اقتباس

ومن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة فليوطن نفسه على الصبر على البلاء، والصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، ومن أراد أن يقتدي في دينه فليتبع الأنبياء؛ لأنهم بالله أعرف وله أطوع، وقد أمرنا الله باتباع رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأمر رسوله باتباع ملة إبراهيم، وملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- البذل والتضحية…

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي لم يزل بصفات الكمال متصفاً، جوادٌ كريم إذا وعد أنجز ووفى، تواب حليم إذا عُصي تجاوز وعفا، أحمده -سبحانه- وأشكره على ما بسط من آلائه وأوفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسبي وكفى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أزكى البرية أصلاً، وأعلى الأنام شرفاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الحنفاء السادة الخلفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله- فإن تقوى الله عروة ما لها انفصام، من استمسك بها حمته -بإذن الله- من محذور العاقبة، ومن اعتصم بها وَقَتْهُ من كل نائبة، فعليكم بتقوى الله فالزموها.

أيها الإخوة: الصبر مقام عظيم من مقامات هذا الدين، وخُلق كريم من أخلاق عباد الله الصالحين، قال الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾ [العصر: 1 – 3]،  فجعل الله -سبحانه- الخلق كلهم في خسارة إلا من آمن وثبت على الحق ووصى غيره به، وصبر على ذلك.

وقد أمر الله -عزَّ وجلَّ- بالصبر وعلق الفلاح به فقال -سبحانه-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]، وأخبر -سبحانه- أن الإمامة في الدين تنال بالصبر واليقين قال -سبحانه-: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، وبين -سبحانه- مضاعفة أجر الصابر على غيره بقوله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، ووعد الله الصابرين بثلاث خصال كل واحدة خير من الدنيا وما فيها قال -سبحانه-: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)﴾ [البقرة: 155 – 157].

وبيّن -سبحانه- أن المغفرة والأجر الكبير إنما تحصل بالصبر والعمل الصالح فأخبر -سبحانه- أن كل أحد خاسر: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود: 11]، وجعل -سبحانه- الصبر سبب محبته ومعيته، ونصره وعونه، وحسن جزائه، وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، فقال -سبحانه-: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146]، وقال -سبحانه-: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].

وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على التمسك بالصبر وبين فضائله، فعن أبي هريرة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه” [البخاري(5641) ومسلم(2571)].

وإذا كانت ساحة العافية أوسع للصبر من ساحة البلاء، فإنه بعد نزول البلاء ليس للعبد أوسع من الصبر، وأما قبله فالعافية أوسع له, كما جاء من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ, وَمَا أعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ” [البخاري(1469) ومسلم (1053)].

وبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، ومدار سعادة الدنيا والآخرة عليهما، فعَنْ صُهَيْبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ” [مسلم 2999]، فلله على كل عبد عبودية في حال العافية، وعبودية في حال البلاء، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة البلاء بالصبر.

عباد الله: والصبر هو حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن ما لا يحمد. وحقيقة الصبر أنه خُلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به الإنسان من فعل ما لا يحسن فعله، والوقوف مع البلاء بحسن الأدب، والثبات على أحكام وضوابط الكتاب والسنة، وحدُّه: أن لا يعترض على التقدير، فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر.

فإذا كانت حقيقة الصبر على النحو الذي ذكرنا فالشكوى إما أن تكون إلى الله، فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب -عليه السلام-: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86]، أو شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال، فهذه لا تجامع الصبر؛ بل تضاده وتبطله، وفرق كبير بين شكوى الرب، والشكوى إليه والصبر والجزع ضدان كما قال -سبحانه- عن أهل النار: ﴿قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: 21].

أيها الإخوة: الصبر نوعان: صبر محمود, وصبر مذموم. فالمذموم كالصبر على التعب والألم والشدائد للوصول إلى ما حرم الله من الفواحش، والكبائر، وسائر المحرمات، والمحمود كالصبر على أنواع الطاعات، والصبر عن ما نهى الله عنه من الأقوال والأعمال، والصبر على أقدار الله؛ وهذا النوع متعلقاته كثيرة، وله ارتباط بمقامات الدين من أولها إلى آخرها.

عباد الله: والصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: أحدها: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، الثاني: صبر عن المنهيات والمخالفات حتى لا يقع فيها، الثالث: صبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها.

عباد الله: وأكمل أنواع الصبر: الصبر المتعلق بالتكليف، وهو الأمر والنهي، فهو أفضل من الصبر على مجرد القدر؛ فإن هذا الصبر يأتي به البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فلا بدَّ لكل أحد من الصبر على القدر اختياراً أو اضطراراً، وأما الصبر على الأوامر والنواهي فصبر الرسل وأتباعهم، وأعظمهم اتباعاً أصبرهم في ذلك. وينبغي أن يُعلم أن كل صبر في محله وموضعه أفضل؛ فالصبر عن الحرام في موضعه أفضل, والصبر على الطاعة في محلها أفضل, والطاعات ترفع الدرجات, والمصائب تحط السيئات.

والصبر إما مذموم وإما محمود, فالمذموم: الصبر عن الله وعن إرادته ومحبته وسير القلب إليه، وهذا يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية، وهذا كما أنه أقبح الصبر فهو أعظمه وأبلغه، فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذي لا حياة له بدونه ألبتة، فالصبر عن الله جفاء، ولا جفاء أعظم ممن صبر عن معبوده وإلهه ومولاه الذي لا مولى له سواه.

وأما الصبر المحمود فصبر بالله, كقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: 127]، وصبر لله، كقوله -سبحانه-: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الطور: 48]، فيصبر مستعيناً بالله من أجل مرضاة الله.

والإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال؛ فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله, ونهي يجب عليه اجتنابه, وقدر يجري عليه, ونعم يجب شكر المنعم عليها, وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات.

والبلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون، ولذلك استحق السبعة أن يظلهم الله في ظل عرشه لكمال صبرهم ومشقتهم كما ثبت من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ الله وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” [البخاري(1423) ومسلم (1031)].

ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزاني، والملك الكذاب، والفقير المختال أشد العقوبة؛ لسهولة الصبر عن هذه الأشياء المحرمة عليهم، لضعف دواعيها في حقهم، فتركهم الصبر عنها مع سهولته عليهم دليل على تمردهم على الله، وشدة عتوهم عليه, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ قال أبُو مُعَاوِيَةَ: وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ” [مسلم(107)].

عباد الله: والصبر ألوان: صبر على التكاليف والأوامر من عبادة ودعوة وجهاد, وصبر على النعماء والبأساء, وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم, وصبر على البلاء والفتن، والمؤمنون يصبرون على كل ذلك ابتغاء وجه ربهم، لا تحرجاً من أن يقول الناس جزعوا، ولا تجملاً ليقول الناس صبروا، ولا رجاء في نفع من وراء الصبر، ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع، وقد وعد الله هؤلاء بقوله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله, وهو صبر على ما يتعلق بكسب الإنسان، وصبر عن معصية الله, وصبر على أقدار الله المؤلمة؛ وهو صبر على مالا كسب للعبد فيه، فصبر يوسف -صلى الله عليه وسلم- عن مطاوعة امرأة العزيز على ما تريد منه أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه. فهذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، وليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربته للنفس وشهواتها، لاسيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة؛ فإنه كان شاباً عزباً غريباً مملوكاً، والمرأة جميلة، وذات منصب وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، ومع هذه الدواعي صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24].

والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإنّ فعل الطاعة أحب إلى الله من ترك المعصية، وعدم الطاعة أبغض إليه وأكره من وجود المعصية، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، والصبر أكبر عون للعباد على جميع الأمور كما قال -سبحانه-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153].

نسأل الله أن يجعلنا من الصابرين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليمًا.

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله وراقبوه واحفظوا ما وصاكم به من الصبر، واعلموا أن الصبر من صفات الله -تبارك وتعالى- فهو الصبور -سبحانه-، وأطلق عليه اسم الصبور أعرف الخلق به، وأعظمهم تنزيهاً له نبيه -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- بقوله: “لَيْسَ أحَدٌ، أوْ لَيْسَ شَيْءٌ أصْبَرَ عَلَى أذًىً سَمِعَهُ مِنَ الله، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ” [البخاري(6099)]، فسبحان الله ما أصبره على من كفر به وعصاه، ومع ذلك يرزقهم ويعافيهم، فسبحان الله الصبور.

أيها الإخوة: والصبر على البلاء يكون بحبس النفس على المكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص في تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته، ويشهد العبد في تضاعيف البلاء لطف صنع الله به، وحسن اختياره له، وبره به، فيحصل له لذة بذلك، وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهي أن يشهد أن هذا مراد محبوبه، وأنه بمرأى ومسمع منه، وأنه هديته إلى عبده، وخلعته التي خلعها عليه، ليدخل في أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله.

فأما النوع الأول فمشترك بين المؤمن والكافر، لا يثاب عليه بمجرده إن لم يقترن به إيمان واحتساب كما ثبت من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: لابنته: “مُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ” [البخاري(1284)، ومسلم(923)].

أيها الإخوة: من قل يقينه قل صبره, ومن قل صبره خف واستخف، ولعبت به الأهواء كما تلعب الريح بكل خفيف، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ابتلي بالنار، ومفارقة الأهل والأولاد والدار، فصبر ابتغاء وجه ربه، فأنجاه الله من النار، وجعل في ذريته النبوة والكتاب.

عباد الله: ومن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة فليوطن نفسه على الصبر على البلاء، والصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، ومن أراد أن يقتدي في دينه فليتبع الأنبياء؛ لأنهم بالله أعرف وله أطوع، وقد أمرنا الله باتباع رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأمر رسوله باتباع ملة إبراهيم، وملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- البذل والتضحية بكل شيء من أجل التوحيد والإيمان وإعلاء كلمة الله, فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من أجل الدين بذل نفسه حين سلمها للنيران, وبذل ماله حين سلمه للضيفان, وضحى بولده حين بذله للقربان, وأسكن وترك بواد غير ذي زرع طاعة للرحمن، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فاجتهد في متابعة ولده الصبي, كيف انقاد لحكم ربه، مع صغر سنه، فمد عنقه للذبح امتثالاً لأمر ربه؟.

وأنه لابتلاء عظيم، وبلاء مبين للوالد والولد، يحتاج إلى صبر كالجبال، إنه ابتلاء يهز القلوب، ويرجف له الفؤاد، ولكنه أمر الله، ولا بدَّ من امتثاله؛ فمن يطيق أن يذبح ابنه؟ ومن يتحمل مباشرة الذبح؟ ولكن الله يريد صفاء إبراهيم، وهو خليل الرحمن، وقد تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، فأمره الله أن يذبح من زاحم حبه حب ربه: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102].

فلما قدَّم إبراهيم طاعة ربه وعزمه على ذبح إسماعيل، وزال ما في القلب من المزاحم بقي الذبح لا فائدة فيه فلهذا قال: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ *قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ *سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات: 103 – 111]، فصلوات الله وسلامه على عبده وخليله إبراهيم وعلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

عباد الله: إذا كان الصبر بهذه المكانة، فإن هناك أمورًا منافية للصبر،  كالشكوى إلى المخلوق، فإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه، وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة به فيما يقدر عليه، والتوصل إلى زوال ضرره، لم يقدح ذلك في الصبر، كإخبار المريض للطبيب بما يؤلمه ويشكو منه، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه.

ومما ينافي الصبر شق الثياب عند المصيبة، ولطم الوجه، وحلق الشعر، وضرب إحدى اليدين بالأخرى، والدعاء بالويل، ولا ينافي الصبر البكاء، والحزن عند المصيبة,  كما قال الله عن يعقوب -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [يوسف: 84].

وَاشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأتَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بنِ أبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ، فَقَالَ: “أقَدْ قَضَى؟” قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ الله فَبَكَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَأى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، بَكَوْا. فَقَالَ: “ألا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا (وَأشَارَ إِلَى لِسَانِهِ) أوْ يَرْحَمُ“. [البخاري(1304) ومسلم(924)].

ومما يقدح في الصبر: إظهار المصيبة، والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر، ويضاد الصبر الهلع، وهو الجزع عند حصول المصيبة، والمنع عند ورود النعمة كما قال -سبحانه-: ﴿إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21)﴾ [المعارج: 19 – 21].

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.